“أنا شخصيًا فحصت هذه الصورة، وما لا يراه الجمهور بالعين هو أن هذه ليست على عمق 20 مترًا تحت الأرض، بل على عمق مترٍ واحدٍ فقط، وهي معبر للمياه مغطى، كما تمر من تحت شارع، وقد غطوها بالتراب، أحدهم التقط صورة، وأثاروا جلبةً والكثير من العناوين على الموضوع، ولكن في نهاية المطاف لم تعبر تحت محور فيلادلفيا أي أسلحة”.
بهذه الكلمات، فجَّر وزير الحرب الإسرائيلي السابق يوآف غالانت فضيحةً جديدةً بشأن نفقٍ عملاقٍ يمر أسفل محور فيلادلفيا في رفح جنوبي قطاع غزة على الحدود مع مصر، لكن تلك الكذبة التي تكشفت لم تكن الوحيدة التي روَّج لها جيش الاحتلال خلال حربه على غزة.
فعلى مدار أكثر من عامٍ ونصفٍ، امتلأ سجلُّ الاحتلال بالكثير من الأكاذيب والمعلومات المضللة لحفظ ماء الوجه وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية حتى فُضحت أباطيله عبر تقارير دولية أو وسائل إعلام إسرائيلية وعالمية أو حتى خلافات داخلية.
كذبة النفق.. تسويق الصورة
البداية كانت بتعمد جيش الاحتلال نشر صورةٍ لمركبةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ في 14 أغسطس/آب الماضي، روَّج لها بوصفها إنجازًا كبيرًا يتمثل في اكتشاف نفقٍ ضخمٍ للمقاومة الفلسطينية يبلغ ارتفاعه عدة أمتار، وعمقه عشرات الأمتار تحت الأرض، ومكونًا من 3 طوابق، ويقع في محور فيلادلفيا جنوبي قطاع غزة.

لكن يوآف غالانت، الذي استقال من الكنيست في يناير/كانون الثاني الماضي، بعد شهرين على إقالته من وزارة الدفاع، دحض الكذبة الإسرائيلية بشأن حقيقة النفق خلال ظهوره في تحقيقٍ صحفيٍّ أجرته قناة “كان” الإسرائيلية، واعترف أن النفق لم يكن موجودًا في الأصل، وأن ما عُثر عليه مجرد خندقٍ عمقه مترٌ واحدٌ فقط، وهو عبارة عن قناةٍ لتصريف المياه.
تكشف تصريحات غالانت تعمد الاحتلال تزييف حقيقة النفق من أجل التسويق لرواياته المتعلقة بوجود أنفاق في محور فيلادلفيا تُستخدم لتهريب الأسلحة من مصر إلى قطاع غزة، بما يدعم رغبة الاحتلال في تأخير صفقة تبادل مع حماس والسيطرة الأمنية على محور فيلادلفيا.
مجزرة المسعفين.. دروس في التضليل
لم تكن الكذبة التي كشفها غالانت الأولى، وبالطبع لن تكون الأخيرة، فقبل أيامٍ قليلةٍ تكشفت كذبة أخرى أخفاها جيش الاحتلال بعد تعمده قتل 15 من رجال الدفاع المدني والهلال الأحمر الفلسطيني خلال توجههم إلى حي تل السلطان برفح، فيما عُرف بـ”مجزرة المسعفين” برفح، في 23 مارس/آذار الماضي.
ادعت الرواية الإسرائيلية آنذاك أن هذا الموكب كان لعناصر من حركة حماس، وأن سيارات الإسعاف لم تشعل الأضواء، ولم تطلق صفاراتها المميزة، وأن الموظفين لم يرتدوا الملابس التي تكفل لهم الحماية الدولية، ما دفع الجنود لإطلاق النار.
بعد أيامٍ قليلةٍ، ثبت أن كل ذلك كان كاذبًا بعد نشر صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مقطع فيديو صادمٍ سجله أحد رجال الإسعاف قبل استشهاده يوم المجزرة، ما أجبر جيش الاحتلال على التراجع عن روايته، وأعاد فتح تحقيق وصفه في المجزرة بعد زعمه أن جنوده أدلوا بشهاداتٍ غير صحيحةٍ.
لكن نتائج التحقيق الأولية التي خلص إليها جيش الاحتلال قبل أيامٍ قليلةٍ لم تخلُ من الأكاذيب أيضًا، إذ اعترف بحدوث ما وصفها بـ”الإخفاقات المهنية”، مدعيًا أن قائد القوة لم يتعرف على سيارات الإسعاف بسبب الرؤية المحدودة، وأن الجنود لم يعدموا الطواقم الطبية ميدانيًا.
وفيما يتعلق بالجثامين التي وُجدت مكبلة الأيدي مع علاماتٍ واضحةٍ لإطلاق الرصاص باتجاه الصدر والرأس، زعم جيش الاحتلال أن التحقيق لم يصل إلى أدلةٍ تفيد بتكبيل الفلسطينيين لا قبل ولا بعد قتلهم.
كما ادعى الاحتلال أن التحقيق خلص إلى أن قرار تدمير السيارات الفلسطينية كان خاطئًا، لكنه لم يكن محاولة للتعتيم على الحادثة، وأن القوة الإسرائيلية قررت تغطية الجثث تمهيدًا لنقلها وتدمير السيارات التي لم تكن تشكل تهديدًا للجنود.
في نهاية المطاف، لم يخرج ما فعله جيش الاحتلال عن توبيخ رئيس الأركان لقائد اللواء 14 بسبب مسؤوليته العامة – التي لم تحدد – عن الحادثة، إضافة إلى فصل نائب قائد كتيبة الاستطلاع في لواء جولاني، دون الحديث عن أنه اتخذ قرارًا شخصيًا بمهاجمة سيارات الإسعاف التي لم تكن تشكل تهديدًا لجنود الاحتلال.
وعلى عكس كل هذا، جاء الرد من الإعلام الإسرائيلي نفسه، حيث كشف تحقيق صحيفة “هآرتس” أن الجنود الإسرائيليين أطلقوا النار باتجاه سيارات الإسعاف من مسافة صفر مدة ثلاث دقائق ونصف دون توقف، كما غيروا مخازن الرصاص مرات عدة، وأن إطلاق النار استمر على الرغم من محاولة المسعفين وموظفي الإغاثة التعريف عن أنفسهم للجنود.
كما بين التحقيق أن جنود الاحتلال أطفأوا أنوار سيارات الإسعاف، وأخفوا جثامين المسعفين الذين عثر عليهم في مقبرة جماعية، وأن ما حدث يكشف عن سلوك عملياتي خطير وعدم مصداقية بنقل المعلومات للقادة، وأشار إلى أن تحقيق الجيش بالحادثة أعد لدفع الانتقادات الدولية عن “إسرائيل”.

ولم تكن “مجزرة المسعفين” في رفح الأولى التي يفتح فيها الجيش تحقيقًا داخليًا، إذ سبقها التحقيق في ما أطلق عليه “مجزرة الطحين” التي وقعت في شباط/ فبراير من العام الماضي بشارع الرشيد غربي مدينة غزة، وزعم حينها جيش الاحتلال في البداية أن مئات الشهداء والجرحى سقطوا نتيجة التدافع، ليعود ويعترف لاحقًا بإطلاقه النار، لكن بدقة وعلى المشتبه بهم فقط بحسب زعمه.
وفي أبريل/نيسان من العام ذاته، فتح جيش الاحتلال تحقيقًا في حادثة اغتيال قواته 7 من العاملين في الإغاثة كانوا يتبعون منظمة المطبخ المركزي العالمي من خلال استهداف قافلتهم، على الرغم من تنسيقها المسبق، ليقر بعدها بارتكاب الجريمة، ويقول إن الحادث “خطأ عملياتي فادح”، ويفصل على إثرها ضباطًا إسرائيليين.
أكذوبة الدروع البشرية
في واحدة من أكبر الأكاذيب التي ما زال البعض حتى الآن يتحدث عنها ويروجها، نشر جيش الاحتلال في أكتوبر/تشرين الأول الماضي مقطع فيديو زعم فيه أن الشهيد يحيى السنوار، رئيس حركة حماس في قطاع غزة، وعائلته اختبأوا في نفق قبل ساعات قليلة من عملية طوفان الأقصى.
وادعى المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي حينها أن السنوار انشغل ببقائه وبقاء أفراد عائلته على قيد الحياة، وفي إعداد مسار لهروبه، تاركًا أهالي غزة يواجهون الموت والدمار، وأضاف إلى روايته أن السنوار ومن معه من قيادات حماس كانوا يتخذون أهالي غزة دروعًا بشرية.
#عاجل في هذا المساء، ننشر لقطات للقاتل الجماعي والعقل المدبر لمجزرة حماس في 7 أكتوبر الماضي – يحيى السنوار.
هذا الفيديو هو واحد من العديد من مقاطع الفيديو التي حصلنا عليها منذ 7 أكتوبر.
وفي الوقت الذي يعاني فيه سكان غزة فوق الأرض، يختبئ السنوار في الأنفاق تحتهم… يركض كالجبان،… pic.twitter.com/KN94gTXc48
— افيخاي ادرعي (@AvichayAdraee) February 13, 2024
كل ما سبق كان الرواية الإسرائيلية عن السنوار، أما الحقيقة فقد كشفها السنوار بنفسه، ودفع ثمنها حياته، حين فاجأ أنصاره قبل عدوه بالقتال فوق الأرض، وفي الخطوط الأمامية للقتال بقطاع غزة حتى لقي ربه شهيدًا مقبلًا غير مدبر.
الحقيقة أنه في حين تصف “إسرائيل” جيشها الذي يخوض حرب إبادة في غزة بأنه “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، توثق الكثير من المشاهد أخلاقية هذا الجيش المزعومة، واستخدامه أسرى فلسطينيين دروعًا بشرية في أكثر من مكان لحماية جنوده ومنع المقاومين من استهدافهم، وإجبار بعضهم على ارتداء ملابس عسكرية إسرائيلية، وإرغام آخرين على البحث بأيديهم بين ركام المنازل المدمرة في غزة عن المتفجرات والألغام وأنفاق المقاومة.
لاحقًا، اعترف الاحتلال بانتهاك البروتوكول الخاص بالقانون الإنساني، وأكد أنه سيفتح تحقيقًا فوريًا مع المتورطين، وزعم أن سلوك جنوده “لا يتوافق مع قيم الجيش الإسرائيلي”، الذي دأب على استخدام الدروع البشرية سياسة حربية معلنة بدأها في الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000، إذ كان أفراد الجيش يجبرون الفلسطينيين على دخول بيوت الملاحقين للتأكد من وجودهم فيها، أو دخول المباني التي يشتبه بأنها مفخخة، أو حبسهم في المنزل لمنع المقاومة من الهجوم.
اغتيالات مضللة
في 3 ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي في بيان رسمي اغتيال هيثم الحواجري، قائد كتيبة الشاطئ، التي أعلن أيضًا القضاء عليها في بداية الحرب البرية على غزة، بل خرج المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي بنفسه قبل عدة أشهر ناشرًا صورته، مرددًا الكذبة ذاتها حول الكتيبة وقائدها.
#عاجل تمكنت طائرة حربية لجيش الدفاع بتوجيه استخباري لجهاز الشاباك وهيئة الاستخبارات من نصفية المدعو هيثم الحواجري قائد كتيبة الشاطئ التابعة لمنظمة حماس الأرهابية والذي انطلقت عمليات اقتحام نحو الحدود الاسرائيلية في يوم السابع من أكتوبر.
لقد قام المدعو الحواجري بقيادة جهود تأمين… pic.twitter.com/9nvAmhLEKU
— افيخاي ادرعي (@AvichayAdraee) December 3, 2023
ليتضح بعد ذلك كذب رواية الجيش، ويظهر الحواجري – الميت في الرواية الإسرائيلية – حيًا مع مقاتلي القسام خلال عملية تسليم أحد الأسرى الإسرائيليين للصليب الأحمر في الأول من فبراير/شباط الماضي، وشارك بعد أيام قليلة في تشييع عدد من شهداء المقاومة بمخيم الشاطئ، ليضع جيش الاحتلال في حرج كبير، ويجبره على الاعتراف بفشله متذرعًا بـ”معلومات استخبارتية خاطئة”.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تتكشف فيها مزاعم الاحتلال، فقد تكرر السيناريو نفسه في مايو/ أيار 2024، عندما أعلن جيش الاحتلال اغتيال قائد كتيبة بيت حانون حسين فياض جراء قصف نفق في جباليا، ولكن فياض ظهر يتجول بحرية بعد ذلك بأشهر، في يناير/كانون الثاني الماضي، في الموقع الذي قُتل فيه نائب قائد لواء ناحال عوز وعدد من جنود الاحتلال، وما لبث أن نشر الجيش بيانًا قال فيه إن معلوماته الاستخباراتية بشأن اغتيال فياض كانت خاطئة.
تعثر رواية الاحتلال في مشافي غزة
بعد 20 يومًا من الحرب، ظهر المتحدث الإسرائيلي دانيال هاغاري لمدة 10 دقائق، مشيرًا إلى مواقع تمركز حركة حماس في مجمع الشفاء الطبي، وأظهر بالخرائط والتصاميم المعززة ما قال إنها إثباتات لذلك الادعاء، في محاولة للإقناع بوجود مقر قيادة حماس في أنفاق أسفل المستشفى.
بعد 15 يومًا، وصل جيش الاحتلال بالفعل إلى هناك، اقتحم المستشفى، وأخرج المرضى والطواقم الطبية منها، وروج للعملية على أنها ناجحة، ليتبين هدف الاحتلال الخفي للوصول إلى مشافي غزة، التي يضعها الاحتلال ضمن بنك أهدافه بهدف منع الأطباء من تحديث أعداد الشهداء والجرحى، وكذلك لإجبار أهالي غزة على ترك مناطقهم والنزوح جنوبًا.
وظهر المتحدث باسم الجيش جوناثان كونريكوس للإعلام الغربي في مقطع فيديو ادعى أنه لم يخضع لتعديلات، وبدا فيه داخل أقسام في الشفاء، وأخرج أسلحة من غرفة التصوير بالرنين المغناطيسي، كما عرض جهاز حاسوب ادعى أن عليه صورة لمجندة إسرائيلية أسيرة جرى تحريرها، رغم أنها لم تكن في قائمة الأسرى التي نشرها الاحتلال.
Watch as LTC (res.) Jonathan Conricus exposes the countless Hamas weapons IDF troops have uncovered in the Shifa Hospital’s MRI building: pic.twitter.com/5qssP8z1XQ
— Israel Defense Forces (@IDF) November 15, 2023
المفاجأة كانت خلال أقل من ساعة فقط، حيث حذف الجيش الإسرائيلي هذا الفيديو عن حسابه في منصة “إكس”، ونشر مقطع فيديو أقصر بـ17 ثانية، عدَّل عليه فقرة حديثه عن المجندة الإسرائيلية، وأخفى ملامح شاشة الحاسوب.
لكن هذا لم يوقف التشكيك بما نُشر، فالصناديق التي أدخلها الجيش للمستشفى على أنها مساعدات ظهرت بجانب الأسلحة المكتشفة والمخبأة خلف جهاز الرنين المغناطيسي الذي يُفترض أنه جهاز لا يمكن أن تقترب منه أي قطعة معدنية لأنه سيبتلعها، إذ أننا نتعامل هنا مع مغناطيس بالغ القوة.
بعد ذلك، رافق جيش الاحتلال مراسلي شبكة “سي إن إن” الأمريكية و”بي بي سي” البريطانية إلى داخل مجمع الشفاء، وعاد كل منهما بتقرير لم يؤكد الرواية الإسرائيلية، إذ أشار تحليل لـ”سي إن إن” إلى ظهور أسلحة أكثر من تلك التي ظهرت في فيديوهات سابقة، مما يشير إلى احتمالية قيام جيش الاحتلال بنقلها أو وضعها هناك قبل وصول طواقم الأخبار، بينما قال مراسل “بي بي سي” إن الجيش أجبرهما على التحرك في مكان وزمان محدد، ولم يتح له الفرصة للقاء أي من الطواقم الطبية أو النازحين في المجمَّع الطبي.
أوصل إحضار شبكتين أخبار عالميتين إلى مجمع الشفاء الصورة إلى أوسع نطاق، لكن الداخل الإسرائيلي فيه أصوات مستاءة، حيث لم تقنع هذه الرواية التي سبقت المرحلة البرية بـ4 أيام أشهر المحللين الإسرائيليين، يوسي ميلمان، الذي قال إن “هذا ليس مثيرًا للإعجاب. وفي النتيجة: لا مقر قيادة، لا رهائن، لا قيادات لحماس”.
وبعد يومين من اقتحام المستشفى، أطلت صفحة جيش الاحتلال برواية جديدة حول العثور على نفق، لكن مهندسًا فلسطينيًا فنَّد الرواية على الفور، ليتضح أن ما صوَّره الجيش على أنه نفق ليس إلا قناة خرسانية لوصلات كهربائية (كابلات) تصل مولدات الطاقة بمباني المستشفى.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي ينشر فيها جيش الاحتلال روايات مفبركة من مستشفيات غزة، إذ سبق أن نشر فيديو من مستشفى الرنتيسي في قطاع غزة، مدعيًا تواجد حماس في قبو أسفل المشفى، وأظهر الفيديو قائمة بأيام الأسبوع على أنها قائمة حراسة خاصة بحركة حماس.
وفي حالة قصف المستشفى الأهلي المعمداني، الذي وثق مجزرة دموية راح ضحيتها المئات أغلبهم من النساء والأطفال، ادعى جيش الاحتلال أن أحد صواريخ حركة الجهاد الإسلامي سقط بالخطأ على المستشفى، وهي الرواية التي تبناها جو بايدن، الرئيس الأمريكي السابق، فور وصوله إلى مطار بن غوريون، لكن أدلة جيش الاحتلال التي تدعي أنها تظهر حقيقة ما وقع في المستشفى سرعان ما كشفت تلاعبًا فاضحًا بالحقائق.
أقر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بالقصف، لكنه زعم أنهم قصفوا مرآب المستشفى، وبأنه لم تكن هناك إصابات مباشرة في المستشفى، لكن القصف استهدف الساحة العامة التي تتجمع فيها مئات الأسر الفلسطينية التي تركت منازلها هربًا من القصف الإسرائيلي، وليس المرآب.
وأثبت تحليل المواقع وفحص الأدلة البصرية أن شكل الانفجار يشبه الأشكال الأخرى للانفجارات التي تعرضت لها مناطق في غزة جراء قصف الطيران الإسرائيلي، وأن جيش الاحتلال تلاعب بمقاطع الفيديو الخاصة بقصف المستشفى، ليبدو وكأن الاستهداف حدث بصاروخ تابع للمقاومة، وهذا ما كشفه مركز مكافحة التضليل التابع لدائرة الاتصال في الرئاسة التركية.
فيما تداول نشطاء معلومة نُسبت لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية بأن القنبلة التي أُلقيت على المستشفى كانت من طراز “إم كيه 84″، التي أرسلتها الولايات المتحدة لـ”إسرائيل” مؤخرًا، ويتناسب أثر الانفجار مع قدراتها بحسب خبراء.
كذلك فإن المشاهد التي تداولتها حسابات إسرائيلية محسوبة على جيش الاحتلال، وزعمت بأن صاروخًا للجهاد الإسلامي أصاب المستشفى، ثبت أنها قديمة، ففي مقطع فيديو نشره مراسل عسكري للقناة 11 الإسرائيلية، ادَّعى فيه أنه يظهر صاروخًا فلسطينيًا يسقط على غزة، لكن بالتحقق من الفيديو تبيَّن أنه يعود لعام 2022.
ووسط تبادل الاتهامات، أثارت تغريدة لمسؤول إسرائيلي جدلًا واسعًا، فقد أقر حنانيا نفتالي، المتحدث الرسمي الرقمي لنتنياهو، في تغريدة على حسابه في منصة “إكس” بضرب المستشفى لاعتقادهم بأنه يأوي قاعدة لحركة حماس، وأرفق تغريدته هذه بصورة للنيران تشتعل في المستشفى بعد الضربة، إلا أنه عاد وحذفها سريعًا لاحقًا، واستبدلها بتوضيح زعم فيه أن خطأ قد حصل.
وأكدت منظمة الصحة العالمية أن المستشفى المعمداني كان من بين 20 مستشفى في القطاع تلقى أوامر من جيش الاحتلال بالإخلاء والتوجه جنوبًا، وهذا ما أكده طبيب يعمل بمستشفى المعمداني، قال إن “إسرائيل هددت بقصف المستشفيات، ونفذت تهديدها”.
أكاذيب لا يصدقها إلا الغرب
بالعودة إلى بداية الحرب على غزة، نجد بعض أشهر الأكاذيب أيضًا التي صاحبت عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان إسرائيلي على غزة، ترافق مع ما وُصفت بـ”أكبر حملة تضليل وتشويه” غذَّاها الاحتلال وروَّجها بين وسائل الإعلام الغربية والأمريكية على نطاق واسع، وانساق إليها رؤساء وسياسيون.
كانت هذه الكذبات الشهيرة تتعلق بما قال جيش الاحتلال إن مقاتلي حماس قطعوا رؤوس ما يصل إلى 40 طفلًا إسرائيليًا في المستوطنات، وردد قادة الجيش أخبارًا زائفة أخرى عن اغتصاب النساء، وجرائم أخرى اُتهم الفلسطينيون بارتكابها يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
هذه الكذبات تحديدًا انتشرت مثل غبار في الأثير قبل أن ينجلي هجوم المقاومة الفلسطينية على “إسرائيل”، وطارت من تل أبيب لتستقر داخل البيت الأبيض حتى تبناها جو بايدن خلال اجتماع مع زعماء يهود، وادَّعى كذبًا: “لم أكن أعتقد أنني سأشاهد يومًا صورًا لإرهابيين يذبحون أطفالًا”.
لكن هذه المزاعم التحريضية، التي اُعتمدت في الغرب على أنها حقائق دون تقديم دليل واحد على صحتها، أُفردت لها تغطيات بالساعات قبل أن يظهر سريعًا أنها مؤسسة على قيل وقال مصدره جندي اسمه ديفيد بنزيون، وهو من عتاة المستوطنين، ولطالما دعا إلى قتل الفلسطينيين.
وكانت الإعلامية الأمريكية سارة سايدنر واحدةً ممن روَّجوا لهذه الأكاذيب، وتلك الكذبة تحديدًا، استنادًا لما قالت بعد ذلك إنها تصريحات رسمية إسرائيلية، لكنها اعتذرت لاحقًا، وقالت في تغريدة عبر حسابها على منصة “إكس”: “كان يجب أن أكون أكثر حذرًا في كلماتي، إنني لم أكن صادقة، ولم أستوثق بشكل جيد من هذه المعلومة”.
وبعد تضارب في أقوال قادة جيش الاحتلال الذين رفضوا بعد ذلك تأكيد هذا الادعاء، خرج نتنياهو ليؤكد الأمر دون دليل، ثم تبيَّن أن تلك الكذبة كانت مبنية على مزاعم إسرائيلية دون تأكيد، حتى اضطرت مراسلة صحيفة “إندبندنت” البريطانية لتوضيح أنها لم تر جثثًا مقطوعة الرأس كما نُسب إليها، بل أُخبرت بذلك.
وبعد أن عجز جيش الاحتلال عن إثبات الرواية بأي طريقة، بدأ في التراجع عنها تدريجيًا، وكذلك فعل بايدن، ونشر البيت الأبيض توضيحًا: “الرئيس لم ير صورًا لا هو ولا غيره، لقد سمع فقط من الإسرائيليين”، وكان الفعل “سمع” ذروةً دراميةً لما وُصف بعد ذلك بـ”حكاية كذبة“.
أما فيما يتعلق بكذبة اغتصاب النساء، فقد جاءت لحظة الحقيقة بعد أيام قليلة على لسان متحدث باسم جيش الاحتلال، الذي نفى وجود أدلة حتى الآن على حدوث اغتصاب خلال الهجوم أو في أعقابه، وتبيَّن أن القصة انتشرت على لسان أشخاص لم يشهدوا عمليات الاغتصاب المزعومة.
ثقافة الكذب
ليس غريبًا على جيش يقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، ويقصف المستشفيات والمدارس وخيام النازحين ودور العبادة، ويفرض حصارًا على مدنيين عُزَّل، ويستخدم التجويع والتعطيش سلاحًا، ويرتكب إبادة جماعية، وقادته مطلوبون للمثول أمام الجنائية الدولية، أن يكذب ويتحرى الكذب.
ورغم أن الجيوش تلجأ أحيانًا إلى الكذب في أوقات الحرب لإخفاء جرائمها، يبدو الفارق هنا – كما يقول الصحفي البريطاني جوناثان كوك – أن أكاذيب “إسرائيل” جزء لا يتجزأ من وجودها ككيان استعماري أُسس على كذبة كبيرة، وكان عليها أن تخفي نظامها العنصري وجرائمها المتأصلة في هذا النظام القمعي.
لكن ذلك كله ليس مفاجئًا، فثقافة الكذب مستشرية في أوصال جيش الاحتلال منذ ترويج الحركة الصهيونية لكذبة أن “فلسطين كانت أرضًا خالية”، وعملت على تخليد تلك الأسطورة بالكذب بشأن عمليات الإبادة الجماعية والتهجير القسري لنحو 750 ألف فلسطيني إلى مخيمات اللاجئين، زاعمة حينها أن الدول العربية المجاورة أمرتهم بذلك، ثم ادعت أنها عرضت على اللاجئين فرصة للعودة إلى منازلهم، رغم أنها دمرت مئات القرى الفلسطينية لمنعهم من ذلك.

مع مرور الوقت، أصبحت مهمة الكذب والمعلومات المضللة التي تشوِّه سمعة الفلسطينيين الذين يتعرضون للقمع منذ عقود أسهل بسبب وسائل الإعلام التي تعمل في تغطيتها لوحشية جيش الاحتلال على نزعها من سياقها، لذا فلم يكن مهمًا أبدًا عدد المرات التي ينكشف فيها كذبه، لأن الكذبة القادمة سيمكن التشكيك فيها.
والمفارقة أن الأخبار الكاذبة يُقابلها في التاريخ أخبار حقيقية عن جرائم ارتكبها جنود الاحتلال، وموثقة في تاريخ “إسرائيل” بلسان أهلها، وهو ما لا تنشره وسائل الإعلام الغربية، وهي تصور السابع من أكتوبر مثل يوم هائم في فضاء لا أمس له ولا غد.
ورغم دحض أكاذيب جيش الاحتلال في كل مرة، تطول قائمة حملات التضليل والخداع الممنهجة ضمن ما يعرِّفه خبراء الإعلام بأنه مزيج من جهل واستثمار في صورة نمطية لشيطنة الآخر، وهو ما يُسمى “الدعاية السوداء”، وخطورتها أنها تُحضِّر المتلقي لتقبل قتل من تُشن عليه.
والهدف ليس تقديم دليل، بل الفوز في معركة افتراضية بعد عجزه عن تحقيق أي نصر على أرض الواقع، ومع ذلك، يبدو أن مهارات جيش الاحتلال في التضليل لا تتجاوز حدود الهواة، تمامًا مثل عملياته الاستخبارية التي فشلت في اكتشاف تخطيط حماس لعملية “طوفان الأقصى”.