“الرئيس السيسى يشهد حفل تخرج دورة تأهيل أئمة الأوقاف من الأكاديمية العسكرية”.. كان هذا عنوان الخبر الذي نشره موقع “اليوم السابع” التابع للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، المملوكة للمخابرات العامة المصرية، ظهر الثلاثاء 22 أبريل/نيسان الجاري، لتغطية حفل تخريج وتأهيل الدفعة الثانية من الأئمة، والتي ضمت 550 إمامًا واستمرت لمدة 6 أشهر.
الدورة وبحسب المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية تأتي في إطار” تنفيذ توجيهات الرئيس لوزارة الأوقاف، بالتنسيق مع مؤسسات الدولة المعنية، بما فيها الأكاديمية العسكرية المصرية، لوضع برنامج تدريبي متكامل يهدف إلى تعزيز قدرات الأئمة على مختلف المستويات، بما يسهم في الارتقاء بالخطاب الديني وتطوير آليات التواصل، خاصة لمكافحة ودحض الفكر المتطرف، فضلًا عن ترسيخ الوعي والمعرفة والإدراك لمختلف القضايا الفكرية والتحديات الراهنة”.
الخبر في صياغته ومضمونه، والمقاطع المصورة التي جرى بثها أثناء إلقاء الأئمة قسم الولاء أمام السيسي، واصطفاف العمائم دون همس مستمعة لحديث الرئيس، فضلًا عن الكواليس التي تضمنتها تلك الدورة والتي تم تسريبها لاحقًا، كلها مشاهد كانت صادمة لقطاع كبير من المصريين، ممن رأوا في هذه الأجواء ردة زمنية مخيفة لعصر الشمولية الفاشية المرعبة.
الحدث هو الأول من نوعه في مصر بطبيعة الحال، ورغم عشرات الأنظمة السلطوية التي تعاقبت على حكم البلاد لكن أحدًا لم يجرؤ على الإقدام على فعل كهذا، وإن كان ذلك ليس بالمستغرب في ظل العديد من المؤشرات والشواهد التي حتمًا تقود إلى هذا المسار الإجباري، عسكرة الحياة المدنية، تحت ولاية سلطة تُنصب نفسها “وصية” على الشعب.. فهل هذا هو تجديد الخطاب الذي تنشده الدولة؟
168 يومًا من الحياة العسكرية
عاش الأئمة الـ 550 المشاركون في تلك الدورة حياة عسكرية كاملة طيلة فترة انعقادها البالغة ستة أسابيع، منذ بداية الاستيقاظ من النوم فجرًا، حتى الخلود إليه مساء، إذ كانوا مُلزمين بالانصياع التام لتعليمات الضباط الذين بحوزتهم صلاحية إنجاح المشارك من عدمه، ما يعني تحديد مصيره في التعيين أم لا.
وتحولت حياة الإمام اليومية إلى ما يشبه روتين المجند الذي يؤدي الخدمة العسكرية النظامية، وإن كانت هناك بعض الاختلافات الطفيفة من حيث الشكل فقط، أما المضمون فيكاد يكون متطابق، وذلك بحسب ما نشرته صفحة “صحيح مصر” نقلًا عن 3 من الأئمة الذين شاركوا في تلك الدورة.
– حتى يلتحق الإمام بالدورة التي هي شرط أساسي للتعيين، عليه أولًا اجتياز عدد من الاختبارات، داخل الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، ومستشفى القوات المسلحة بكوبري القبة، وكلية الضباط الاحتياط في الإسماعيلية، بعضها تعليمي خاص بالحاسب الآلي، واللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى أسئلة مصممة لتقييم قدرات الذكاء لدى الإمام، والأخرى بدني حيث الخضوع لكشف طبي في مستشفى كوبري القبة العسكري، وإجراء فحوصات مثل رسم القلب، تحليل الدم والبول، وقياس الطول والوزن.
ومن أهم شروط الالتحاق الالتزام بالوزن المثالي للمتقدم، حيث يشترط ألا يزيد الوزن 10 كيلو جرامات فوق الوزن المثالي الخاص بالإمام، على سبيل المثال، إذا كان الطول 180 سم يجب ألا يزيد الوزن عن 90 كيلو، لو تجاوز الوزن 100 كجم سيعيق ذلك اجتياز الاختبارات اللاحقة، بحسب شهادة أحد الأئمة.
وهناك أيضًا مرحلة الاختبارات البدنية التي يخضع لها المتقدم في كلية الضباط الاحتياط بالإسماعيلية، والتي تتضمن العدو مسافة 1500م، وإجراء تمارين ضغط وبطن وجري زجزاج، ويتولى الضباط والجنود تدوين ونتائج هذه الاختبارات في دفتر يومي، يرفع في النهاية للقادة.
أما المرحلة النهائية من الاختبارات فهي كشف الهيئة في الأكاديمية العسكرية، بحضور ضباط من القوات المسلحة وقيادات من وزارة الأوقاف، لتقييم مظهر الإمام وجاهزيته، وبعد اجتيازها، تنتهي سلسلة الاختبارات، ويستعد الأئمة للانضمام إلى الدورة التدريبية بالأكاديمية العسكرية.
-ما أن يُقبل الإمام في الدورة، تبدأ مرحلة “التلقين” في الأكاديمية العسكرية، حيث يتلقى تعليمات الدورة من ضابط بالقوات المسلحة، ومنها منع اصطحاب أي متعلقات شخصية، بما في ذلك الهواتف المحمولة، إذ يتم توفير كل المستلزمات داخل الأكاديمية، من الملابس والأحذية وماكينات الحلاقة، إلى هاتف قديم (زراير)، وشريحة جديدة، كما يُنبه على الأئمة الالتزام بإجراء ثلاث مكالمات أسبوعية فقط، وفق جدول زمني محدد من إدارة الأكاديمية، على أن يتم تسليم الهاتف بنهاية المكالمات، ليُحفظ في مكان مخصص.
-بعد الالتحاق رسميًا وبداية الدورة التي انطلقت رسميًا في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تتحول حياة الإمام إلى ما يشبه المجند العسكري النظامي، يستيقظ قبل صلاة الفجر بدقائق، يؤدي الصلاة، ثم ينضم إلى طابور الصباح ويمارس تدريبات رياضية يومية، وفي الثامنة صباحًا يتناول الإفطار، يليه طابور تفتيش للتحقق من حلاقة الذقن، قص الشعر، الهيئة العامة، ونظافة الزي قبل حضور المحاضرات اليومية.
-خلال الشهر الأول من الدورة دخل الأئمة في معسكر تدريبي يشبه معسكر تدريب الجنود، يحظر فيه الإجازات أو المكالمات الهاتفية، وفيه يتدربون على حمل السلاح والنشان بطلقات رصاص غير حي، وبعد الانتهاء من هذا المعسكر يحصلون على إجازة لمدة 10 أيام، بعدها، ينتظمون في الدورة التدريبية، ويحصلون على إجازة مدتها 3 أيام كل 15 يومًا.
-خلال الدورة يتلقى المشاركون عشرات المحاضرات الشرعية والعسكرية، يحاضر فيها شيوخ السلطة الرسميين، مثل مفتي الجمهورية، نظير عياد، والمفتي السابق شوقي علام، ووزير الأوقاف أسامة الأزهري، والداعية المقرب من النظام، خالد الجندي، ووزير الثقافة الأسبق عبدالواحد النبوي.
أما المحاضرات العسكرية فيقدمها قادة بالجيش، وتركز على تاريخ الجيش المصري، الأمن القومي، الحروب السيبرانية، الحفاظ على الأوطان، مخاطر الإرهاب، التحقق من الشائعات، وتاريخ العسكرية المصرية وقوانينها، وبعد انتهاء المحاضرات مع اقتراب أذان المغرب، يُعقد طابور “التمام” المسائي، ثم يخلد الأئمة للنوم بحلول التاسعة والنصف مساءً.
-في نهاية الدورة، يخضع الأئمة لامتحان نهائي يحدد درجة اجتيازهم ويعتمد التقييم على أدائهم في الامتحان، إلى جانب مستوى التزامهم بالدورات والانضباط، ويقول أحد الأئمة المشاركين إن الخلاف مع ضابط قد يؤدي إلى خصم درجات حيث يتم احتساب الدرجات وفق معايير محددة، وبعد اجتياز الدورة، تُصدر شهادة تُرسل مباشرة إلى وزارة الأوقاف كجزء من متطلبات التعيين في مساجد الأوقاف.
– يقول أحد المشاركين إن دورة التأهيل بالأكاديمية العسكرية ستجعل منه إمامًا موسوعيًا وفق رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي، إذ استفاد من تعلم التحقق من صحة الأخبار قبل نشرها على وسائل التواصل، وفهم التحديات الخارجية التي تواجه مصر، إلى جانب اتباع رأي الجهات المعتمدة في الإفتاء بقضايا خلافية، بشرط عدم مخالفة الشريعة، وفقًا لقوله.
للدين أم للسلطة.. الولاء لمن؟
المشهد بكل تفاصيله أثار الكثير من التساؤلات الحرجة التي تشتبك مع بعض المسائل الجدلية التي فرضت نفسها على الساحة خلال السنوات الأخيرة وكانت سببًا في نشوب المعارك بين الدولة والأوقاف من جانب والأزهر من جانب آخر، وعلى رأسها استقلالية المؤسسة الدينية ومفهوم تجديد الخطاب الديني الذي اعتادت السلطة ترديده بين الحين والأخر.
السؤال الأهم: لمن كان قسم الولاء الذي أداه الأئمة خريجي الدفعة الثانية من برنامج التأهيل العسكري؟ هل هو للدين الذي يفترض أن تمثله المؤسسة الدينية الرسمية، الأزهر وجامعاتها، أم للدولة الممثلة في شخص الرئيس والقيادات العسكرية التي تقدمت الصفوف أثناء أداء القسم؟
الأسماء ذاتها التي وقع الاختيار عليها لتقديم محاضرات دينية للأئمة كانت هي الأخرى مثيرة للجدل، أبرزها المفتي السابق شوقي علام صاحب المواقف السلطوية المستغربة خلال فترة ولايته، هذا بخلاف خالد الجندي الذي دوما ما يتفاخر بكونه “شيخ السلطان” و “طبال السلطة” -هكذا قال عن نفسه في أكثر من لقاء-، ماذا يمكن أن تقدم مثل تلك الأسماء -التي على استقلالها ونزاهتها كل علامات الاستفهام تلك- لأئمة يُفترض أن يحملوا مشاعل الدعوة خلال السنوات القادمة؟
الشيخ خالد الجندي: انتهى عصر الداعية التقليدي بفضل الأكاديمية العسكرية#لعلهم_يفقهون#dmc pic.twitter.com/BES7bTJVPi
— dmctv (@dmctv) April 22, 2025
ثم السؤال المحوري: هل هذا هو تجديد الخطاب الديني الذي كانت تقصده السلطة؟ هل بالعسكرة يتجدد الخطاب؟ هل بتقديم قرابين الولاء والطاعة للسلطة من قبل الدعاة والأئمة يتخلص الخطاب مما شابهه من المغلوطات والمضللات التي تهدد الهوية الدينية الوسطية للمجتمع المصري؟ هل بتحويل رجال الدين إلى ما يشبه الجنود تتجدد الدعوة وتهرب من فخاخ الإرهاب والتشدد؟
ما تقوم به الدولة حاليًا يؤكد عدم قراءتها لدروس التاريخ بشكل جيد، تلك الدروس التي تقول إن إخضاع المؤسسة الدينية للسلطة واستقطاب العلماء والدعاة، وعسكرة الخطاب الديني، شكلًا ومضمونًا، يؤدي في النهاية إلى فقدان الثقة في المؤسسة وأعضائها، وهو ما يدفع الناس بطبيعة الحال إلى البحث عن خطاب أخر أكثر احتراما لعقولهم، ربما يكون عبر بديل أشد خطورة على الدولة ووعي مواطنيها، وهنا مكمن القلق.
عسكرة الحياة المدنية.. استراتيجية شاملة
لا يمكن قراءة ما حدث مع الأئمة والدعاة بمعزل عن الاستراتيجية التي رسخها النظام المصري خلال الأعوام الماضية، حيث خضوع كل مجالات الحياة المدنية للعسكرة، إذ تبنى تقليدًا مستحدثًا وغريبًا ومستجدًا على الساحة المصرية وذلك بإخضاع الراغبين في التعيين في الوظائف الحكومية لاختبارات مشددة في الكليات العسكرية.
في نهاية أبريل/نيسان 2023 أرسل أمين عام مجلس الوزراء كتابًا دوريًّا إلى الوزراء، يتضمن توجيهًا رئاسيًا بإصدار تعليمات لمؤسسات الدولة تُلزم الراغبين في التعيين في الوظائف الحكومية بالحصول أولًا على دورة تأهيل داخل الكلية الحربية لمدة ستة أشهر كشرط أساسي للتعيين، واعتبار شهادة الحصول على التدريب ضمن مسوغات التعيين التي لا يمكن قبولها بدون اجتياز تلك الدورة.
البداية كانت مع مسابقة الـ 30 ألف معلم، حيث خضعوا لاختبارات أشرفت عليها الأكاديمية العسكرية، وشملت شروطًا غريبة بعضها يتعلق بالبدانة والسمنة واستبعاد أصحابها من التعيين، ثم وصل الأمر إلى بقية المجالات الأخرى، مهندسين وأطباء ودبلوماسيين، وصولًا إلى السلك القضائي وإن كان أبدى امتعاضه من هذا الأمر لاحقًا.
وتعكس تلك الاستراتيجية هيمنة الشمولية العسكرية على عقلية النظام الذي يدير الدولة، متوهمًا أن عسكرة الحياة المدنية هي السبيل الوحيد للتصدي لكافة التهديدات التي تواجه استقراره السلطوي أولًا، ثم استقرار الوطن من وجهة نظره ثانيًا، متناسيًا أن مثل تلك الممارسات، وكما تفيد تجارب التاريخ -أشبه بالقنابل الموقوتة التي تضع المجتمع بأكمله فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي وقت.