معسكرات سرية ومخططات إيديولوجية.. “قسد” تجند أبناء الأقليات

في خطوة مثيرة للجدل، بدأت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” مؤخرًا في فتح معسكرات جديدة في مدينة الرقة لاستقطاب الفتيات من محافظات الساحل السوري والسويداء، بالتزامن مع حملات دعائية تروج لفكرة “اللامركزية” في سوريا.
وتأتي هذه الخطوة ضمن مشروع “تماسك”، الذي يهدف إلى نشر أفكار إيديولوجية مستوحاة من حزب العمال الكردستاني “PKK”، ويديرها “حزب سوريا المستقبل” ومؤسسات متفرعة عن “مجلس سوريا الديمقراطية”.
إلا أن هذه المعسكرات لا تقتصر على تقديم التدريب الفكري والإيديولوجي فقط، بل تمثل نقطة انطلاق لعملية تجنيد قسري لفتيات من خلفيات دينية وطائفية مختلفة، لزجهن في أنشطة عسكرية وفكرية تخدم مصالح “قسد” وحلفائها.
يشير هذا التطور إلى التوسع الكبير لنفوذ “قسد” في مناطق جديدة من سوريا، ويطرح تساؤلات حول أهدافها الحقيقية في ظل غياب الشفافية والمساءلة في سياساتها.
تحركات ومخططات
بعد سقوط نظام الأسد شهدت محافظات دمشق، اللاذقية، طرطوس، السويداء، حركة نشطة لمجموعات نسوية تابعة لميليشيا “YPJ”، إحدى التشكيلات الكردية المسلحة المنضوية تحت راية قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وحملت هذه الوفود بالمجمل عدة مسميات شكلية، لكنها بالجوهر لا تختلف في التوجهات التي تحمل إيديولوجية حزب العمال الكردستاني.
ومطلع شهر نيسان الجاري، فتحت “قسد” خمس معسكرات في مدينة الرقة لاستقطاب الفتيات من محافظات الساحل والسويداء من الطائفتين “العلوية والدرزية”، بحسب مصادر لـ”نون بوست”.
المعسكرات هي ذاتها تلك المُخصصة للتوجيه الإيديولوجي الذي ينتهجه حزب العمال الكردستاني “PKK”، والذي يُهيمن على منظومة “قسد” وأذرعها السياسية، ويطبقها على الأطفال الذين تختطفهم الميليشيا، وهنا تُمارس هذه المعسكرات ذات الدور، لكن على فتيات قادمات من غربي وجنوب سوريا.
وتمت هذه الزيارات والنشاطات عبر موفدين عن ما يسمى بـ”حزب سوريا المستقبل” ومنسقية المرأة المتفرعة عن “مجلس سوريا الديمقراطية”، وجاءت تحت غطاء مشروع اسمه “تحالف المواطنة السورية المتساوية” (تماسك)، وتهدف في جوهرها للترويج للامركزية في سوريا، ورفض الحكومة السورية الحالية، والترويج إعلاميًا لمشاريع مشابهة لمشروع الإدارة الذاتية الكردية بغية استنساخه في الساحل وفي السويداء.
وجاءت أحداث 06 آذار/ مارس في الساحل لتروّج وتخدم هذه التطلعات التي تهدف إليها منظومة “قسد” ومساعيها عبر مشروع “تماسك” وما تلاه، والذي كان جس نبض فقط لمرحلة العمل الجدي.
حسب تحقيق لوكالة “نهر ميديا” الإعلامية، فإن فكرة إقامة الفيدراليات الثلاث ليست بجديدة ضمن أجندات “قسد”، وتعود لعامين قبيل سقوط نظام الأسد، حيث كانت فكرة الأقاليم الثلاثة “شمال شرق سوريا، المنطقة العلوية بالساحل، والدرزية في الجنوب السوري” موجودة فعلاً، وطُرحت الفكرة آنذاك عبر شخصيات من ممثلي “قسد”، أبرزهم: “علي رحمون، حسن زوهات، فيروز خليل وليلى قهرمان”.
وعُقدت لقاءات مكثفة مع عدة شخصيات من الأقليات في سوريا قبل سقوط النظام بهدف تنفيذ هذا الطرح. وجاءت أولى الخطوات الفعلية عبر تأسيس “تماسك”، الذي جرى الإعلان عنه في شهر آذار/ مارس الماضي بشكل رسمي في مؤتمر بفندق الأرميتاج بدمشق، بمشاركة ممثلين عن المناطق المذكورة وعدة أحزاب شيوعية.
ورغم أن هذا المشروع قد يبدو هامشيًا، إلا أنه يعكس بشكل واضح مساعي وتوجهات منظومة “قسد” من قلب دمشق، كما يوفر لها قنوات تواصل مرنة مع مختلف المناطق السورية، وهو ما تم استغلاله بشكل فعال.
في أواخر الشهر الماضي، نظمت أذرع “قسد” في دمشق سلسلة من المؤتمرات واللقاءات مع جهات مختلفة وناشطين، غالبيتهم من السويداء والساحل والسلمية. واتفقت جميع مخرجات تلك اللقاءات على رفض الدستور السوري، كما أيدت فكرة اللامركزية والحكم الذاتي.
وفي خطوة لاحقة، وجهت الفعاليات السياسية التابعة لـ”قسد” دعوات لهؤلاء الناشطين للمشاركة في دورات تدريبية وتأهيلية وفكرية في الأكاديميات التابعة لـ”قسد” في الرقة والحسكة.
كما قامت مجموعات أخرى من التجمعات المرتبطة بمنظومة “قسد”، وعلى رأسها ممثلون من ميليشيا “جوانين شورشگر” أو “الشبيبة الثورية”، بتوجيه دعوات مماثلة للراغبين في العمل ضمن مؤسساتها في الرقة والحسكة، مع تقديم تسهيلات خاصة لأبناء الأقليات من الدروز والعلويين، بحسب تحقيق لوكالة “نهر ميديا”.
في أواخر شهر آذار/ مارس الماضي، بدأ عدد من الوفود من مناطق الساحل والسويداء بالتوجه إلى الرقة، ومعظمهم من فئة الشباب، حيث تم إدخالهم إلى أكاديميات “قسد” التي تفرض على الراغبين في العمل ضمن مؤسسات ما يُسمى بـ”الإدارة الذاتية” الخضوع لدورات تدريبية مغلقة.
هذه الأكاديميات تُعرف بتوجهاتها الأيديولوجية المرتبطة بزعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا، عبد الله أوجلان، حيث تسعى “قسد” إلى نشر هذه الأفكار في المناطق التي تسيطر عليها.
وفي بداية شهر نيسان/ أبريل الجاري، اعتقلت الأجهزة الأمنية السورية في حمص وفدًا يتألف من أكثر من 20 شخصًا ينتمون لحزب يُدعى “الانتماء السوري الديمقراطي”، كانوا في طريقهم من السويداء إلى الرقة، في تنسيق كامل مع “قسد”، ما تسبب بحالة من الاضطراب والبلبلة في السويداء حينها.
من المتورط؟
يبرز في الجزيرة السورية وحلب اسم ميليشيا “جوانين شورشگر” أو “الشبيبة الثورية” التابعة لحزب “العمال الكردستاني”، والتي تنشط إلى جانب قوات “قسد”، ضمن مهام عديدة تتمحور حول خطف الأطفال بغية تجنيدهم، والقيام بأعمال عنف وخطف ضد المعارضين لسلطة “قسد” في المنطقة.
مؤخرًا، شهدت الفترة ما بين منتصف شهر شباط/ فبراير الماضي ومنتصف نيسان/ أبريل الجاري زيادة ملحوظة في نشاط الميليشيا، حيث قامت بعمليات خطف للأطفال والقاصرين تجاوز عددهم 30 طفلًا، وفقًا لجهات حقوقية. وجرى اختطافهم من عوائلهم بهدف إخضاعهم لدورات تدريبية في معسكرات حزب العمال الكردستاني الإيديولوجية، تمهيدًا لتجنيدهم في معسكرات قتالية ليصبحوا أعضاء في المنظمة المصنفة على قوائم الإرهاب.
ويبدو أن دور “الشبيبة الثورية” لم يعد مقتصرًا على مناطق الجزيرة وحلب فحسب، بل امتد نشاطها ليشمل الساحل السوري والسويداء. وفقًا لمنصة “الرقة تذبح بصمت”، فقد استدرجت العديد من الشابات، ومن بينهن قاصرات من المناطق المذكورة، من خلال وعود كاذبة بوظائف مرموقة تتناسب مع مؤهلاتهن العلمية ورواتب مغرية بالدولار، حيث طُلب منهن التوجه إلى الرقة تحت ذريعة إجراء مقابلات عمل عبر “مجلس المرأة السورية” التابع لـ”قسد”.
لكن هؤلاء الفتيات يُنقلن إلى معسكرات عسكرية في منطقة معسكر الطلائع بالرقة ومعسكر جعبر بريف الطبقة، حيث يتم تلقينهن أفكارًا أيديولوجية ممنهجة، كما يتم إجبارهن على الخضوع لتدريبات عسكرية، ويُسجلن بياناتهن الشخصية، ليتم لاحقًا زجهن في أعمال قتالية، دون أن يكون لهن خيار في رفض أو الانسحاب، ودون أي إمكانية للوصول إليهن من قبل عائلاتهن.
وشمل هذا الإجراء فتيات من طوائف معينة مثل “الدروز والعلويين”، ما يبرز أن هذه الممارسات ليست فردية، بل تمثل سياسة ممنهجة ومنظمة، وفقًا لما وصفته منصة “الرقة تذبح بصمت”.
وحسب مصادر خاصة لـ”نون بوست”، فإن “قسد” فتحت خمسة أكاديميات في الرقة بهدف استقطاب الفتيات من داخل سوريا. هذه الأكاديميات تشمل: الأكاديمية الحكومية شمال مدينة الرقة، أكاديمية معسكر الطلائع جنوبي الرقة، أكاديمية مركز البحوث بريف الرقة الجنوبي، أكاديمية في منطقة الكرين بريف الطبقة، وأكاديمية قرب قلعة جعبر.
وترافق مساعي “حزب سوريا المستقبل” وممثلي “الشبيبة الثورية” مع حملة إعلامية كبيرة يتم إطلاقها عبر منصات تابعة لـ”قسد”، والتي تستهدف مناطق الساحل والسويداء، إلى جانب زيارات ميدانية لتلك المناطق تحت غطاء تقديم مساعدات أو عقد ورشات وندوات فكرية.
وتُعد القيادية الكردية “آيتان فرهاد” المسؤولة المباشرة عن ملف تجنيد النساء القادمات من الداخل السوري، وخاصةً الساحل، إلى محافظة الرقة، حيث يقوم فريق آيتان بزيارات وجولات دورية بين عدة محافظات سورية، ويُعتبر حي الشيخ مقصود نقطة لاستقبال الراغبين بالذهاب إلى الرقة.
وحسب منصة “الرقة تذبح بصمت”، تدير آيتان نزلًا في مدينة الرقة يُستخدم كمقر مؤقت لاستقبال الفتيات فور وصولهن، وتشغل حاليًا منصب نائبة الناطقة الرسمية لـ”مجلس المرأة” في “حزب سوريا المستقبل”، وتُعرف بارتباطها المباشر بكوادر حزب العمال الكردستاني، وهي إحدى القادمات من جبال قنديل وشغلت عدة مناصب قيادية في منظومة “قسد” العسكرية.
تحذيرات الناشطين
وفي هذا السياق، وجه ناشطون من الجزيرة السورية نداءً إلى جميع أبناء وبنات سوريا، محذرين من الانخداع بالشعارات الرنانة التي ترفعها “قسد”، مؤكدين أنها لا تمثل تطلعات السوريين، بل تشكل غطاءً لأجندات خارجية تخدم مصالح حزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب، دون أن يكون لوحدة سوريا، أو سيادتها، أو كرامة شعبها أي اعتبار في أجندتها.
وحسب الناشط الصحفي في وكالة “الرقة تذبح بصمت” صَلال مفتاح فإن “قسد افتتحت مؤخرًا معسكرات لأبناء الطوائف “العلوية والإسماعيلية الدرزية” في مدينة الرقة، واستقدمت العديد من الشبان والشابات عن طريق “حزب سوريا المستقبل” بحجة تأمين وظائف لهم ضمن شهاداتهم الجامعية. وعند وصولهم إلى الرقة تم الزج بهم بشكل قسري في معسكرات مغلقة فكرية وعسكرية”.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، وجه مفتاح نداءً إلى وزارة الداخلية السورية بضرورة التحرك العاجل لمنع عمليات خطف الفتيات والشبان المتجهين نحو الرقة عبر محافظات حماة وحمص وحلب.
وفي السياق ذاته، حذر ناشطون وطالبوا جميع الحواجز التابعة للجيش العربي السوري، خصوصًا تلك المحيطة بمحافظة الرقة، بتشديد الرقابة والتدقيق في هويات الفتيات القادمات من خارج المحافظة، والتحقق من دوافع قدومهن، درءًا لوقوعهن ضحايا لمشاريع حزب العمال الكردستاني التي تسعى إلى التجنيد القسري ضمن صفوف التنظيم وذراعه العسكري المسمى “قسد”.
وبحسب مفتاح، فإنه مع تصاعد الحملة الإعلامية التي تستهدف شيطنة الحكومة السورية من جهة، ومحاولة استمالة أبناء الأقليات الدينية والقومية في سوريا من جهة أخرى، يتضح أن هذا الأسلوب ليس جديدًا في منهجية “قسد”، التي اعتادت التصريح بشيء وممارسة العكس تمامًا.
وقال: “أثبتت الأحداث المتكررة في الجزيرة السورية صحة ذلك، حيث بات واضحًا أننا أمام تنظيم يحكم بعقلية الحزب الأوحد، ويتبنى نظرة شوفينية تخدم مصالحه الضيقة فقط، ولا يتوانى عن سحق كل من يعارض توجهاته”.
ختاما.. تثير هذه التحركات التي تقودها “قسد” عبر مشروع “تماسك” مخاوف جدية بشأن مصير الفتيات والشباب الذين يتم استقطابهم تحت ذرائع زائفة، فيما تتزايد المؤشرات على أن هذه السياسات لا تخدم مستقبل سوريا الموحد، بل تدفع باتجاه مشاريع تقسيمية تخدم أجندات خارجية. وبينما تستمر هذه الانتهاكات بعيدًا عن المساءلة، تبقى الحاجة ملحة لتحرك وطني لحماية أبناء سوريا من مخططات التجنيد القسري والتلاعب بمصائرهم تحت شعارات براقة تخفي وراءها أهدافًا أكثر خطورة.