منذ استئناف الاحتلال حرب الإبادة في قطاع غزة وعودة العمليات البرية، برز نمط عملياتي مختلف عن ذاك الذي اتسم به الغزو البري الواسع طوال 18 شهرًا من الحرب.
وأوحت طبيعة العمليات العسكرية الجديدة، التي تنفَّذ تحت قيادة هيئة أركان جديدة لجيش الاحتلال، بتبنِّي استراتيجية ميدانية مغايرة، استدعت من المقاومة دراستها وتحليلها ووضع استراتيجية مواجهة ملائمة، تأخذ في الحسبان التطورات الميدانية واستخلاصات المقاومة من أداء خططها الدفاعية السابقة.
أنتج هذا التغير بُعدًا مختلفًا في قراءة ضربات المقاومة لقوات الاحتلال، سواءٌ من حيث الأدوات المستخدَمة، أو توقيت تنفيذ العمليات، أو حجم التأثير الميداني والرسائل السياسية والعسكرية التي تنطوي عليها، ما يفتح الباب على تساؤلات جديدة حول طبيعة القتال ومستقبله في قطاع غزة.
ميدانٌ جديد: “قضمٌ محيطيٌّ” بدلًا من الغزو الكاسح
مع استئناف الاحتلال حرب الإبادة، سارع جيشه إلى استعادة زخم العمليات البرية، مع تركيز خاص على المناطق الحدودية. وجاءت هذه العودة ضمن سياسة ميدانية تهدف إلى تحويل الشريط الحدودي إلى منطقة عازلة متقدمة، تُدفع تدريجيًّا نحو عمق أراضي قطاع غزة.
تجري هذه العمليات بشكل متزامن وعلى عدة محاور في آنٍ واحد، بهدف تقليص المساحة الجغرافية للقطاع بشكل متوازٍ وبطيء، دون الحاجة لخوض معارك كاسحة داخل المراكز السكانية الكثيفة.
وعلى الرغم من الانتشار الواسع، تجنَّب جيش الاحتلال التوغل العميق داخل التجمعات السكنية الكبيرة، وركز بدلًا من ذلك على فرض السيطرة على الأطراف، متبِعًا استراتيجية تقوم على تطويق غزة والعمل على قضمها تدريجيًّا.
يتضح أن جيش الاحتلال يعتمد استراتيجية “القضم المحيطي”، وهي منهجية عسكرية تقوم على تقليص مساحة القطاع الفعلية دون خوض مواجهات كبرى في العمق، عبر السيطرة على المناطق الطرفية وتثبيت مواقع عسكرية جديدة.
بهذا التكتيك، يسعى الاحتلال إلى تجنُّب الوقوع في كمائن المقاومة، التي يُقدَّر أنها تضررت بفعل الدمار الواسع الذي طال بنيتها التحتية، لا سيما في المناطق الحدودية التي شكَّلت الهدف الأبرز للعمليات العسكرية طوال أشهر الحرب، واستمر استهدافها حتى خلال فترات التهدئة، تحت مبرر “إحباط محاولات زرع عبوات وكمائن” من قبل المقاومة الفلسطينية.
وفي السياق ذاته، زعمت تقارير إسرائيلية أن حدة القتال في غزة تراجعت إلى حد الغياب، وأن العمليات تقتصر على قوات محدودة تعمل على الأطراف دون التوغل إلى داخل المدن. وأشارت التقارير إلى أن رئيس أركان الاحتلال، إيال زمير، يحرص على تقليل الخسائر البشرية وتفادي الانزلاق إلى مواجهات دامية مع المقاومة.
صمت تكتيكي ورصد هادئ
لم تتعجل المقاومة الفلسطينية في الاندفاع لمواجهة قوات الاحتلال المتقدمة في محاور القتال، بل اختارت مسار الصمت التكتيكي لأسابيع، تحرك خلالها جيش الاحتلال تحت شعار “تعميق المنطقة العازلة” وتوسيع مناطق السيطرة، لا سيما عبر تدشين “محور موراج” الذي يفصل مدينة رفح عن بقية مناطق قطاع غزة.
وضعت المقاومة في حساباتها أن الوافد الجديد إلى هيئة الأركان الإسرائيلية جنرال مخضرم، يحمل عقيدة هجومية متطرفة، مدعومًا من حكومة تضغط في اتجاه تصعيد العمليات العسكرية إلى مستويات أضخم من تلك التي شهدتها حرب الإبادة.
وهنا أيضًا من المهم الإشارة إلى أن المقاومة لا تفصل بين سلوكها الميداني والحراك السياسي، إذ يرتبط تقديرها للموقف العملياتي بقراءة المشهد السياسي الأوسع. ولهذا، توافقت وتيرة التحركات الميدانية مع وتيرة الحراك التفاوضي، بما عزَّز من قرار تأخير الالتحام الميداني المباشر، وانتظار وضوح المسارات السياسية قبل استنزاف الأدوات القتالية والذخائر الحيوية.
استثمرت المقاومة هذا الوقت في ممارسة عمليات مزدوجة من الرصد والتحليل والتقدير، موجِّهة رسائل توحي بتراجع قدرتها القتالية، ما منح جيش الاحتلال إحساسًا مزيَّفًا بحرِّية الحركة في المناطق المحروقة. وسمح هذا التكتيك ببناء بنك أهداف واضح، وتحضير الظروف الملائمة لتحين الفرصة الأنسب والتوقيت الأمثل لإطلاق نمط عملياتي جديد في المواجهة.
هجوم مباغت: صمت المقاومة يتحول إلى ضربات نوعية
بعد أسابيع من الصمت الميداني، أطلقت المقاومة الفلسطينية سلسلةً من العمليات المركزة ضد قوات الاحتلال المتوغلة في قطاع غزة، مستهدِفةً محاور عدة بشكل شبه متزامن. وبالعودة إلى إعلانات المقاومة، يمكن تمييز نمط واضح في الضربات ونوعية الأهداف.
في محورَي خان يونس ورفح جنوبي القطاع، نفَّذت كتائب القسام عدة عمليات نوعية، أبرزها تفجير دبابة إسرائيلية بعبوة معدَّة مسبقًا قرب الخط الفاصل شرق خان يونس، إلى جانب قصف الموقع بقذائف “هاون”. كما تمكن المقاومون من تفجير منزل مفخَّخ بقوة إسرائيلية خاصة تسللت إلى منطقة أبو الروس شرقي رفح، ما أسفر عن وقوع قتلى وجرحى.
في “قيزان النجار”، استُدرجت قوة إسرائيلية إلى فوهة نفق مفخَّخ وفُجِّر بمجموعة من العبوات الناسفة، فأحدث إصابات مباشرة في صفوف القوة. كما استهدفت المقاومة ثلاث جرافات عسكرية من نوع “D9” باستخدام قذائف “الياسين 105” وعبوات “شواظ” و”برميلية”، فألحقت بها أضرارًا جسيمة.
في محور مدينة غزة، هاجم المقاومون ثلاث دبابات “ميركافاه 4” قرب مستشفى الوفاء شرق حي التفاح بقذائف “الياسين 105″، ونفذوا كمينًا مركَّبًا استهدَف قوة متوغلة شرقي الحي، وأوقعوا قتلى وجرحى في صفوف الجنود.
وفي منطقة جبل الصوراني، استَهدفَت المقاومةُ دبابة وجرافة بقذائف مضادة للدروع، ما أدى إلى اشتعال النيران فيهما، كما فجرت نفقًا مفخَّخًا بقوة هندسية إسرائيلية شرقي التفاح.
وفي حي الشجاعية، نُفِّذت عملية معقَّدة ضد قوة إسرائيلية تحصنت داخل منزل، إذ أُمطرت بالقذائف المضادة للدروع والرشاشات، ما أسفر عن سقوط عدد من القتلى والجرحى.
أما في شمالي القطاع، تمكنت المقاومة خلال تنفيذ كمين “كسر السيف” شرقي بيت حانون من استهداف جيب عسكري تابع لكتيبة جمع المعلومات القتالية بقذيفة مضادة للدروع، ما أسفر عن إصابات مؤكدة. وفور وصول قوة الإسناد، فُجِّرت عبوة “تلفزيونية 3” مضادة للأفراد ألحقت خسائر إضافية بهم. كما استُهدفت مواقع إسرائيلية مستحدَثة بأربع قذائف “RPG” وقُصفت بعدد من قذائف الهاون.
واستكمالًا للكمين بعد أيام، نفَّذ المقاومون عملية قنص محكَمة أسفرت عن إصابة أربعة جنود وضباط على شارع العودة شرقي بلدة بيت حانون.
وتحمل هذه العمليات عدة مؤشرات بارزة:
- اعتماد المقاومة أسلوب الضربات المباغتة في مناطق يصنفها الاحتلال مناطق “عازلة”.
- استخدام أنفاق وكمائن متقدمة جدًّا لتكون أساسًا لغالبية العمليات.
- التركيز على توثيق الضربات ونشرها بمواد مرئية لإبراز فعالية العمل المقاوم والبنية التحتية.
- اختيار مناطق تعرضت لضربات إسرائيلية مكثَّفة لتكون نقاط انطلاق للهجمات، ما يثبت قدرة المقاومة على استعادة الفعالية في بيئات مدمرة.
أكد هذا التصعيد المدروس أن صمت المقاومة كان تكتيكيًّا، مرتبطًا بقراءة دقيقة للميدان واستشراف نمط عمل جيش الاحتلال، وقد جاءت الضربات محمَّلة برسائل مباشرة للجيش والحكومة الإسرائيلية، تثبت عجز القيادة العسكرية الجديدة عن احتواء المقاومة أو توقُّع استراتيجيتها الدفاعية المرنة والمتدحرجة وفقًا لقراءة قيادة المقاومة لا تطورات الميدان فحسب.
ثمن الدماء: استراتيجية المقاومة في استنزاف الجيش الإسرائيلي
يتضح من نمط العمليات الأخير أن المقاومة الفلسطينية تعتمد استراتيجية تقوم على تحقيق أقصى درجات الاستنزاف لجيش الاحتلال، مع الاستثمار المدروس للذخيرة المحدودة بفعل الحصار والضربات المتواصلة.
وفي هذا الإطار، حرصت المقاومة على أن تكون كل طلقة مدفوعة بثمن دموي، كما تجلَّى في مقطع عملية القنص شرقي بيت حانون، التي أسفرت عن سقوط قتلى وإصابات مُحقَّقة في صفوف الجنود الإسرائيليين مع كل رصاصة تُطلق.
تدرك المقاومة أن كل إصابة مباشرة تحمل قيمةً استراتيجيةً مضاعَفةً في هذه المرحلة الحساسة، فقد رصدت حجم الحرص الذي يبديه رئيس أركان جيش الاحتلال الجديد لتفادي معارك دامية، وتصميم عملياته ضمن مناطق مفتوحة ومؤمنة سلفًا، خشية سقوط خسائر بشرية في ظل غياب أفق سياسي للحرب.
في المقابل، تتابع المقاومة عن كثب حالة الاسترخاء التي تسيطر على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، بعد فقدان الحرب زخمها الشعبي عقب التهدئة الأخيرة. وأصبح المجتمع الإسرائيلي أقل استعدادًا لتقبُّل سقوط قتلى بصورة يومية، خصوصًا في ظل تزايُد الاقتناع بأن الحرب باتت تخدم أجندة سياسية خاصة بنتنياهو وائتلافه، دون تحقيق تقدُّم حقيقي في ملفات حساسة مثل ملف الأسرى.
وفي ظل تصاعُد العرائض الموقَّعة من جنود وأفراد أمن للمطالبة بوقف الحرب، والأزمة المتفاقمة في تجنيد قوات الاحتياط بفعل الاستنزاف الطويل، تعي المقاومة أن كل خسارة بشرية في صفوف جيش الاحتلال تمثِّل ضغطًا متراكمًا على المستويَين العسكري والسياسي معًا.
استراتيجيًّا، تسعى المقاومة إلى تحويل التمركز الإسرائيلي في ما يسمى بـ”المنطقة العازلة” إلى عبء مستمر، عبر استهداف المواقع الجديدة بالنيران والكمائن، بما يبقي الكلفة البشرية حاضرة طالما استمر الاحتلال في تثبيت قواته داخل أراضي القطاع.
كما ترسم المقاومة سيناريوهات لأية عمليات برية إسرائيلية محتملة، مستنِدة إلى إرسال إشارات بأن جزءًا كبيرًا من شبكة الأنفاق ما يزال سليمًا أو جرى ترميمه، بما يتيح استعادة الزخم العملياتي، مدعومًا بخبرة ميدانية متراكمة. وبالتالي، ستعتمد عمليات التصدي في المرحلة المقبلة على الكمائن المحكمة والعبوات الناسفة، بوصفها أداة رئيسية لرفع كلفة أي تقدم بري.
في ضوء هذه المعطيات، تركِّز المقاومة اليوم على نمط ضربات دقيقة ومُحقَّقة، تستهدف الأرواحَ لا الآليات، مدرِكةً أن الاستنزاف المادي لم يكن حاسمًا في تغيير مواقف القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، بينما الاستنزاف البشري ما يَحمل التأثير الأكبر على مسار الحرب وإرادة الاحتلال الاستمرار فيها.