في تصعيد ليس الأول ولن يكون الأخير طالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالمرور المجاني للسفن العسكرية والتجارية التابعة للولايات المتحدة عبر قناتي السويس وبنما دون دفع أي رسوم، مضيفًا في منشور على منصة تروث سوشال: “طلبت من وزير الخارجية ماركو روبيو أن يتولى هذا الأمر على الفور”.
وفي ذات السياق قال مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايك والتز، إن بلاده ليس عليها أن تدفع رسوما لمرور سفنها في قناة تدافع عنها، وهي التصريحات التي تتماشى مع التوجه الجديد لإدارة ترامب الرامية إلى السيطرة على الممرات المائية الدولية وبسط النفوذ الأمريكي عليها أو على الأقل تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب من خلالها.
وأثارت تلك التصريحات الصادمة -وإن كانت غير مفاجئة- حالة من الجدل على منصات التواصل الاجتماعي، فيما فجرت ينابيع الغضب لدى الشارع المصري الذي وصفها بأنها محاولة ابتزاز رخيصة ومعتادة ومتوقعة من ترامب للضغط على القاهرة من أجل تحقيق مكاسب وأهداف أخرى، معلنين رفضها شكلا ومضمونًا.
وتشهد قناة السويس منذ بداية الحرب في غزة أكتوبر/تشرين الأول 2023 أزمة خانقة جراء توتير الأجواء في البحر الأحمر بفعل ضربات الحوثي واستهدافها للسفن القادمة من وإلى الكيان المحتل، وهو ما أثر على حركة الملاحة بداخلها والتي تراجعت بنسب تتراوح بين 40 – 60%، يتزامن ذلك مع تصعيد الهجمات الأمريكية ضد اليمن وهو ما زاد من سخونة الأجواء في الممرات الإقليمية الدولية، البحر ومضيق باب المندب وقناة السويس.
والقناة تعد أقصر الطرق البحرية بين أوروبا والبلدان الواقعة حول المحيط الهندي وغرب المحيط الهادي، والذي يربط بين البحرين الأبيض والأحمر، ويسمح بتنقل السفن التجارية والحربية بين أوروبا وشرق آسيا دون المرور من أفريقيا، ويستحوذ بحسب مراقبين على نحو ثلث السفن العالمية، وتمر عبره 10% من حركة التجارة البحرية الدولية.
سياق مهم لفهم الأحداث
قبل يومين أعلنت لجنة الشحن البحري الفيدرالية الأميركية فتح تحقيق حول “نقاط الاختناق البحرية العالمية” والذي يهدف إلى تقييم ما إذا كانت أي دولة أو شركة شحن بحري أو مشغّل بحري آخر يخلق ظروفاً غير مواتية للشحن الأميركي والتجارة الخارجية، وشمل التحقيق العديد من الممرات الملاحية العالمية ومن بينها قناة السويس المصرية وبنما والقناة الإنجليزية.
هذا التحقيق وإن كان الهدف المعلن منه إيجاد حلول للمشاكل التي تتسبب في المعوقات التي تعترض الملاحة الأمريكية في الممرات المائية إلا أنه في الواقع يهدف إلى فرض نفوذ أميركي على هذه الممرات، وفق ما ذكر رئيس شركة “زينث إنتربرايز – Zenith Enterprise”، عمرو قطايا.
وأوضح قطايا أن إدارة ترامب تسابق الزمن لبسط الهيمنة الكاملة على كافة الممرات الملاحية الدولية، مستشهدًا بقناة بنما الذي يرى أن مشكلتها الحقيقية تكمن في الاستثمارات الصينية فيها، وأن الولايات المتحدة تسعى من خلال هذه التحقيقات إلى استعادة السيطرة عليها، وهو ذات الأمر الذي تحاول تطبيقه في قناة السويس، حيث فرض تعليمات معينة على الإدارة بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب وفرض السيطرة عليها، كليًا أو جزئيًا.
حتى الممرات الملاحية في شمال أوروبا، مثل بحر المانش وبحر الشمال، يعتبرها رئيس شركة “زينث إنتربرايز – Zenith Enterprise”، مناطق استراتيجية تسعى الولايات المتحدة إلى السيطرة عليها، وذلك في إطار سعيها لتعزيز نفوذها في التجارة العالمية، متوقعًا أن تسفر هذه التحقيقات عن وضع مطالب وشروط تتيح لأمريكا فرض سيطرة إدارية أو رقابية على هذه الممرات، تمهيدًا لفرض نفوذ أكبر في المستقبل.
تفنيدًا لدعاوى ترامب.. من يحمي قناة السويس؟
كثيرًا ما يعزف ترامب على وتر أن أمريكا هي شرطي العالم، وأنها حامي حمى الجميع، وأن ما كان معمولا به في السابق لم يعد صالحًا اليوم، فالحماية لابد لها من مقابل، هذا الخطاب كرره كثيرًا حتى مع حلفاءه، وهو السبب الأبرز وراء توتير العلاقات بين بلاده ودول أوروبا، خاصة بعد مطالبته لهم بشكل مباشر تحمل نفقة حمايتهم بأنفسهم، وأن أمريكا لن تقوم بهذا الدور بالمجان مرة أخرى.
وفي ولايته الأولى كذلك كان هذا الخطاب حاضرًا وبقوة، حين أومأ إلى أنظمة وحكومات الخليج أنهم في مأمن بسببه، وأنه لولا بلاده لما بقي حاكم في منصبه أسبوعين، كما خاطب العاهل السعودي قبل ذلك، وهو الخطاب الذي أنعش بسببه خزائن الولايات المتحدة بأكثر من نصف تريليون دولار، اعتبرها البعض حينها إرضاء للرئيس الأمريكي وشراء صمته إزاء التهديدات التي يلوح بها بين الحين والأخر.
اليوم يكرر الرئيس الأمريكي النغمة ذاتها، ملوحا أن بلاده تحمي قناة السويس، وأن على الدولة المصرية أن تسدد فاتورة تلك الحماية من خلال إعفاء السفن الأمريكية، تجارية كانت أو عسكرية، من أي رسوم مقررة، وهو ما يمنحها امتيازات استثنائية مقارنة بغيرها من السفن الأخرى.
المعضلة هنا ليست في مسألة الإعفاء من الرسوم فحسب، إذ أن تلك الخطوة يمكن التفاوض بشأنها خاصة في ظل العلاقات الجيدة التي تربط بين القاهرة وواشنطن، بعيدًا عن التوتر الأخير بسبب الموقف من مسألة تهجير أهالي قطاع غزة، لكن التهديد الأبرز يمكن في أن تكون هذه الخطوة حلقة أولى في سلسلة مطولة من المطالب والضغوط التي تقود في النهاية إلى فرض السيطرة على قناة السويس، التي تعد شريانا استراتيجيًا ورئة محورية للاقتصاد المصري لا يمكن التفريط فيها تحت أي مبرر أيًا كان.
يجب ده ايه يا جدع انت ! وتمر على فين يا فخامة الرئيس ده اخرك اليومين دول باب المندب وترجع تانى 🙂 يجب دفع الرسوم زيك زي غيرك اعقل كده يا أبو حنان وكفاية هرتلة وحباة الغالية
— Alaa Mubarak (@AlaaMubarak_) April 27, 2025
بالعودة إلى القناة ذاتها فوفق ما أشارت العديد من المصادر التاريخية فإن فكرة إنشاء قناة السويس تعود إلى زمن المصريين القدماء، تحديدًا منذ أواخر عهد الملك “أمنحتب الأول” في القرن 20 قبل الميلاد، حيث طُرحت وقتها كفكرة ربط البحرين الأحمر والأبيض لتأمين حدود مصر الشرقية.
لكنها نُفذت بشكل عملي عام 1847 ق.م، في عهد الملك سنوسرت الثالث (1878 ق.م – 1839 ق.م)، حيث شَق قناة للربط بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط عن طريق النيل، سُميت بـ”قناة سيزوستريس”، وهو الاسم الإغريقي لسنوسرت الثالث، وذلك بهدف توطيد التجارة وتيسير المواصلات بين الشرق والغرب، ما يعني أن القناة دٌشنت قبل أن تكون هناك دولة اسمها أمريكا بمئات السنين.
وتخضع قناة السويس التي تعد جزءاً لا يتجزأ من الأراضي المصرية، للسيادة المصرية الكاملة وفق مبادئ القانون الدولي المستقرة لاتفاقية القسطنطينية لعام 1888، التي تنظم الملاحة في القناة وتضمن حرية المرور لجميع السفن، بغض النظر عن جنسيتها، وتحدد رسومًا للعبور لا يمكن القفز عليها وإلا بات ذلك تهديدًا مباشرًا للسيادة المصرية.
ولعبت مصر دورًا محوريًا في حماية القناة وبقية الممرات الإقليمية على مدار عقود طويلة مضت، وهو ما يفند مزاعم الرئيس الأمريكي الذي يتوهم أن بلاده وحدها من تحمي هذا الشريان، ففي بداية الشهر الجاري تسلمت القاهرة قيادة قوة المهام (CTF 153)، وهي قوة دولية تابعة للقوات البحرية المشتركة ومهمتها تعزيز الأمن والاستقرار في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، تأسست في أبريل/نيسان 2022 وتتخذ من البحرين مقرًا لها، وتضم 39 دولة من بينها مصر والولايات المتحدة، بهدف مكافحة الأنشطة غير المشروعة في المنطقة.
كما دشنت مصر في 2020 في جبهتها الشرقية، قاعدة برنيس العسكرية، وذلك لحماية السواحل الجنوبية ومواجهة التحديات الأمنية في البحر الأحمر وتأمين الملاحة حتى قناة السويس، هذا بخلاف تطوير أسطولها البحري لأجل هذا الهدف ذاته، والتنسيق مع المجتمع الدولي في التصدي لأي عمليات أو انشطة تستهدف السيطرة على مضيق باب المندب أو إغلاقه.
خطوة متوقعة
لم تكن رغبة ترامب في الهيمنة على الممرات الملاحية العالمية حدثًا مفاجئًا ولا مستغربًا، فكافة المؤشرات كانت تذهب بهذا الاتجاه، حتى قبل تسلمه السلطة، إذ أن تاريخه كرجل أعمال تجعله من الشخصيات التي لا يمكن توقعها ولا ضبطها على بوصلة محددات بعينها.
السياسي المصري والسكرتير الأسبق لرئيس الجمهورية الراحل حسني مبارك، ومدير مكتبة الإسكندرية سابقًا، مصطفى الفقي، كان قد كتب مقالا في 18 فبراير/شباط 2025 تحت عنوان (المضايق المائية .. الخطر القادم) حذر فيه من جنون ترامب في السيطرة على المضائق المائية والممرات الدولة للتجارة والملاحة، متوقعًا أن يأت الدور على قناة السويس وهو ما حدث بالفعل.
يقول الفقي “أنا أستطيع أن أستشف من قراءتى لتاريخ رجل الأعمال دونالد ترامب أنه قد يفاجئ العالم بفاصل جديد من أفكاره تحت عنوان «الممرات المائية الدولية» فإذا كان قد بدأ بقناة بنما فإن أفكاره سوف تنسحب على المضايق المائية الأخرى والممرات الدولية للتجارة والملاحة بدءًا من مضيق هرمز إلى باب المندب إلى قناة السويس إلى جبل طارق”
ويرى السكرتير الأسبق لرئيس الجمهورية أن ترامب سيعتمد في هذا المسار على أطروحاتٍ كاذبة “حول حرية التجارة، وضرورة سيطرة الولايات المتحدة الكاملة أو بالشراكة مع غيرها على تلك المضايق في السلم وفى الحرب بغض النظر عن المعاهدات الدولية والوثائق السياسية والمبررات الشرعية ومواءمات المشروعة”، واصفًا الرئيس الأمريكي بالذي هبط على العالم مقتنعًا أنه مسيطر على الكون، “قادر على إدارة شؤون البشر واتخاذ أي قرار يريده بغض النظر عن ردود الفعل المعتمدة على حقوق الآخرين والوثائق التاريخية والمعاهدات الدولية، لقد فقدنا القدرة على الدهشة أمام قرارات وتصريحات ترامب”.
ويتوقع السياسي المصري أن مستقبل المنطقة كلها سيتحدد على ضوء التطورات الأخيرة على مسرح العلاقات الدولية، والتي منها نشوب حرب تجارية ومضاربات نقدية بين الغرب والشرق، وأن الحرب الباردة الاقتصادية سوف تكون أكثر تأثيرًا من الحروب العسكرية، فالحصار والمقاطعة والعقوبات الاقتصادية تبدو كلها مظاهر واضحة لما يمكن أن يصل إليه العالم في السنوات القادمة، مختتمًا مقاله بقوله “إن الرجل الذي يكره الأجانب ويحتقر الآخرين ويمضى في تفكير أحادي لابد وأن يتطرق إلى المضايق المائية لخلق مزيد من الحساسيات وصنع المزيد من الاضطرابات”.
عقلية استعمارية
يرى الباحث المتخصص في القانون الدولي، عضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولي، محمد محمود مهران، أن المطالبة بإعفاء السفن الأمريكية من رسوم العبور يعد نوعاً من الامتيازات الاستعمارية المرفوضة تماماً في القانون الدولي المعاصر، ويشكل عودة إلى عقلية استعمارية متجاوزة تتعارض مع مفاهيم العلاقات الدولية المعاصرة القائمة على الاحترام المتبادل والمعاملة بالمثل
ويضيف مهران في تصريحات صحفية له أن طلب ترامب يمثل “انتهاكاً صارخاً للسيادة المصرية وقواعد القانون الدولي”، معتبرًا أن “قناة السويس جزءاً لا يتجزأ من الأراضي المصرية، وتخضع للسيادة المصرية الكاملة وفق مبادئ القانون الدولي المستقرة، وأي محاولة للمساس بهذه السيادة أو فرض استثناءات تمييزية لصالح دولة معينة يعد خرقاً واضحاً لمبدأ المساواة بين الدول وللنظام القانوني الدولي المعاصر.
وأضاف أن النظام القانوني الذي يحكم قناة السويس يستند إلى مبدأين أساسيين: الأول هو السيادة المصرية الكاملة على القناة، والثاني هو حق جميع السفن في المرور الحر عبر القناة مقابل رسوم متساوية تفرض على الجميع دون تمييز.
وأشار إلى أن هذين المبدئين متوازنان ومتكاملان، ولا يمكن قبول الانتقاص من أحدهما بحجة الحفاظ على الآخر، لافتا أن “الرسوم التي تدفعها السفن العابرة للقناة ليست ضريبة أو جباية استثنائية، بل هي مقابل خدمات فعلية تقدمها الهيئة المصرية لقناة السويس، بما في ذلك صيانة القناة وتوسيعها وتعميقها وضمان سلامة الملاحة فيها، فضلاً عن خدمات الإرشاد البحري والقطر والإنقاذ وغيرها”.
وحذر أستاذ القانون الدولي من أن مثل هذه التصريحات غير المسؤولة قد تؤدي إلى توترات دبلوماسية غير مبررة بين مصر والولايات المتحدة، وتضر بالعلاقات الاستراتيجية بين البلدين في وقت يحتاج فيه الجانبان إلى تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة، منوها إلى أنها تشكل سابقة خطيرة، قد تدفع دولاً أخرى للمطالبة بامتيازات مماثلة، مما قد يهدد النظام القانوني المستقر الذي يحكم الممرات المائية الدولية، ويؤدي إلى فوضى في العلاقات الدولية.
غضب شعبي.. الابتزاز غير مقبول
قوبلت التصريحات الترامبية بموجة عاصفة من الغضب الشعبي حيث اعتبرها خبير القانون الدولي المصري أيمن سلامة بأنها تفتقر إلى أي أساس قانوني أو منطقي، وتتعارض مع الاتفاقيات الدولية المعمول بها منذ عقود طويلة، فيما وصفها عضو مجلس النواب (البرلمان) مصطفى بكري بأنها بمثابة “ابتزاز لدولة ذات سيادة”، مؤكداً أن “قناة السويس قناة مصرية خالصة”، وأن “الاعتداء علي سيادة الدولة المصرية ، وهو أمر مرفوض وغير مقبول جملة وتفصيلاً”.
وأرجع بكري المقرب من دوائر السلطة في مصر مثل تلك التصريحات إلى ما أسماه “البلطجة الأمريكية” وأنها تأتي في سياق محاولات ابتزاز الدول ذات السيادة، وأنها سرقة علنيه وفرض إتاوة علي بلد مستقل، وعضو في الأمم المتحدة.
وتابع في منشور له على حسابه على فيس بوك ” مايجري الآن هو استمرار لسيناريو الابتزاز الأمريكي ضد العرب ، هو حلقه من حلقات بلطجة القوه وفرض سياسة الأمر الواقع، هذه محاوله للتحرش بمصر وقيادتها”
كما دخل علاء مبارك، نجل الرئيس المصري الراحل، حسني مبارك، على خط الرد على تصريحات الرئيس الأمريكي، ساخرًا منها ومتهما إياه بالجنون أو ما أسماه “الهرتلة”، منوها أن الحد المسموح به للسفن الأمريكية هو باب المندب وأنه في حال الرغبة في عبور قناة السويس فعليها دفع الرسوم مثلها مثل بقية السفن الأخرى.
وفي ذات السياق أطلق الخبير في الشؤون الإفريقية رامي زهدي، في منشور مطول باللغتين العربية والإنجليزية على صفحته على فيسبوك، ما أسماها “اللاءات الثلاثة”: لا عبور مجاني ، لا مساومة، لا ضغوط، وتابع “من لا تعجبه القواعد، فليبحث له عن ممر آخر، بعيدًا عن مياه السيادة المصرية”.
وأكد زهدي على بعض النقاط الأساسية في منشوره أبرزها، أن قناة السويس ممر مائي دولي خاضع للسيادة الكاملة لجمهورية مصر العربية، تُدار وفقًا للقوانين والاتفاقات الدولية، ولا يجوز لأي جهة أو دولة، مهما كان شأنها، فرض شروط أو التحدث بمنطق الاستعلاء أو الوصاية، كما أن مصر دولة صاحبة قرار حر وإرادة مستقلة، لا تسمح بمرور أي سفينة عبر مياهها الإقليمية إلا طبقًا للقوانين المنظمة، ومع دفع الرسوم المستحقة بلا تمييز أو استثناء. ولن يرضى شعبها إلا بسيادة مكتملة غير منقوصة.
ويرى الخبير المصري أن تصريحات ترامب التي حملت نبرة استعلاء، تعكس أزمة عميقة في فهمه لمعادلات القوى الدولية الجديدة، حيث لم يعد مقبولًا في عالم اليوم ممارسة سياسة فرض الإرادة أو استجداء الامتيازات عبر الضجيج الإعلامي، محذرًا مما أسماه محاولات تطبيع منطق «المرور المجاني » تحت أي ضغوط سياسية أو عسكرية، مؤكدًا أن الشعب المصري، الذي خاض معاركه من أجل حريته وكرامته، لن يقبل تحت أي ظرف أن تتحول قناة السويس إلى ممر مجاني أو ساحة ابتزاز سياسي أو اقتصادي.
واختتم مقاله بقوله “مرة ثانية.. إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد ضاق بها الحال حتى باتت تطلب الإعفاء من رسوم عبور قانونية، فعليها أن تدعو حلفاءها لجمع الأموال المطلوبة ودفع الرسوم المستحقة نيابة عنها ، عاشت مصر حرة مستقلة ،وعاش شعبها سيد قراره وإرادته”.
شبح سيناريو بنما يُطل برأسه
موقف ترامب من قناة السويس يذكر بالحملة التي قادها ضد قناة بنما، تلك القناة التي بنتها الولايات المتحدة عام 1914 وظلت تحت سيطرتها حتى اتفاقية عام 1977 التي نصت على تسليمها في نهاية المطاف إلى بنما، على أن يكون تشغيلها بشكل مشترك من قِبل البلدين حتى استعادت الحكومة البنمية السيطرة الكاملة عليها بعد عام 1999.
ومع توليه السلطة تحرش الرئيس الأمريكي بالقناة أكثر من مرة، ملوحا بعصا التهديد واحتلالها عسكريًا بزعم المبالغة في الرسوم المفروضة على الشاحنات الأمريكية العابرة نها، وبعد جولات من السجال المتبادل بين البلدين، استقر الحال بالإدارة الأمريكية بأن تهيمن على القناة بشكل غير مباشر، وذلك من خلال سيطرة ائتلاف مؤسسي أمريكي على الشركات التي تدير الموانئ الرئيسية في القناة بموجب صفقة بلغت قيمتها 19 مليار دولار، وهو ما يعني عمليًا الهيمنة على القناة دون احتلالها عسكريًا كما لوح ترامب.
وقبل 3 أيام تقريبًا وقعت الولايات المتحدة ممثلة في وزير دفاعها بيت هيغسيت، ونظيره البنمي، فرانك أريغو، اتفاقًا سيُمكن الجيش الأميركي والشركات العسكرية الخاصة العاملة مع أمريكا من استخدام المواقع المسموح بها والمنشآت والمناطق المخصصة للتدريبات والأنشطة الإنسانية، حسبما أفادت وكالة الصحافة الفرنسية، في خطوة وصفت بأنها تنازل كبير حصلت عليه واشنطن حتى لو لم تتمكن من إقامة قواعد عسكرية حول هذا الممر الحيوي.
ما حدث مع بنما ليس ببعيد عن مخيلة المصريين، حيث تصاعد المخاوف من تكرار السيناريو ذاته مع قناة السويس، وهو ما دفع الكثير من المحللين والخبراء للتحذير من الوقوع في ذات الفخ مرة أخرى، في إشارة إلى ضرورة التفكير مليًا قبل الإقدام على أي صفقة، تتعلق ببيع امتياز إدارة موانئ أو مواقع استراتيجية لكيانات أجنبية، أيًا كانت المغريات المادية، إذ أن مثل هذه الخطوات تعتبر بمثابة تمهيد الطريق أكثر وأكثر للاستعمار بأشكاله المختلفة، فيما تقوض الاستقلال والسيادة الوطنية للدول.
ثمة مؤشرات تجعل من الصعوبة بمكان قراءة هذا التصعيد الترامبي بمعزل عن الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية على القاهرة إزاء بعض الملفات، على رأسها الملف الغزي ومخطط التهجير الذي تتصدى له مصر- حتى الآن- وهو ما أثار غضب وحفيظة الأمريكان، هذا بخلاف الموقف من التطورات الإقليمية سواء في سويا أو اليمن.
تحاول الإدارة الأمريكية – رغم العلاقات القوية التي تربط بينهما- خنق النظام المصري بأحبال عدة، والسعي لتركيع الدولة المصرية لاستعادة مسارها كـ “دولة وظيفية” تخدم الأجندة الأمريكية منذ عقود، وهي المساعي التي تضع السلطة الحليفة في مصر في مأزق أخلاقي وسياسي كبير أمام الشارع الثائر الرافض لهذا الانتهاك الصارخ لسيادة بلاده.. ليبقى رد الفعل الرسمي من القاهرة هو المتغير الأساسي الذي يحدد مسار البوصلة الأمريكية بشان هذا الملف.