لم يكن يدور في خلد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين أعطى أوامره برفع وتيرة الاستهداف الجوي لمواقع الحوثيين في اليمن، منتصف مارس/أذار الماضي، أن العملية ستتجاوز حاجز الـ 45 يومًا دون أن تحقق كافة الأهداف التي شٌنت لأجلها، على رأسها القضاء تمامًا على الحركة ودحرها بشكل كلي وإيقاف هجماتها ضد الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
ورغم كثافة وتيرة الضربات، وما حققته عمليًا من خسائر فادحة في صفوف الحوثيين، مقارنة بالغارات التي استمرت نحو عامل كامل بين يناير/كانون الثاني 2024 ومنتصف الشهر ذاته من عام 2025، إلا أن جماعة أنصار الله لم ترفع الراية البيضاء بعد، ولم توقف عملياتها في البحر الأحمر واستهدافها للسفن الأمريكية والإسرائيلية.
وبعد أكثر من شهر ونصف من شن تلك الهجمات الصاروخية الجوية بات واضحًا أن جز عشب الحركة هدف لن يتحقق إلا بعملية برية واسعة وشاملة، وهو ما استقر في يقين قطاع ليس بالقليل داخل الإدارة الأمريكية، وكشفته العديد من التسريبات الإعلامية، غير أن الإقدام على خطوة كتلك مسألة معقدة تتطلب التنسيق والتفاهم المسبق مع دول المنطقة، خاصة المناوئين للحوثيين، فضلا عما تفرضه البيئة الجيوسياسية اليمنية من ضرورة توحيد الجبهة الداخلية، المقسمة بطبيعة الحال، في مواجهة أنصار الله.
حتى كتابة تلك السطور ليس هناك من تقييم واضح وموضوعي لنتائج الضربات الجوية التي تلقاها الحوثي، هذا بخلاف حالة الضبابية التي تخيم على المشهد، سواء داخل الإدارة الأمريكية أو لدى القوى الإقليمية، بشأن كيفية التعاطي مع الساحة اليمنية في ظل اختلاط الأوراق فيما يتعلق بالتعامل مع هذا الملف، سواء بشكل فردي أو في سياق أكبر وأعم كورقة ضغط ضد طهران لدفعها نحو طاولة المفاوضات تحت أصوات القاذفات ونيران الغارات.
تجييش أمريكي واضح.. الساحة تترقب
وفق ما كشفته تقارير إعلامية لصحف مقربة من دوائر صنع القرار في البيت الأبيض، فإن هناك تجييش أمريكي واضح في المنطقة، ورفع لوتيرة الحضور العسكري بشكل غير مسبوق منذ حرب العراق قبل أكثر من عقدين، ففي غضون الأيام القليلة الماضية، وبالتزامن مع الضربات الجوية، أرسلت الولايات المتحدة مدمرة جديدة و6 قاذفات قنابل من طراز بي-2 وطائرات دعم لوجستي إلى القاعدة العسكرية الأمريكية البريطانية في جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي.
هذا التجييش الكبير قرأه محللون في سياق رسائل التحذير التي تبعث بها واشنطن لطهران وإرباكها، مثلها مثل تفجير ميناء رجائي والاستهداف السيبراني، لدفعها نحو الجلوس على طاولة المفاوضات بشأن البرنامج النووي، دون شروط مسبقة، وإجبارها على إبداء المرونة المطلوبة دون وضع العراقيل وتجاوز الخطوط الحمراء والسقف الذي وضعته إدارة ترامب لضبط وتلجيم بوصلة هذه الجولة من المفاوضات.
غير أنه وفي ذات السياق قرأها أخرون كـ “تمهيد واستعداد ميداني” لشن عملية برية في اليمن ضد الحوثيين، أو على الأقل إعادة تموضع للقوات الأمريكية في المنطقة يهدف لخلق حالة ردع إقليمي، تسيطر به الولايات المتحدة على الممرات المائية والملاحية في البحر الأحمر من جانب، وتحافظ على مصالحها في تلك البقعة الملتهبة من العالم من جانب أخر، ومن زاوية ثالثة بناء جدار عازل لحماية الحليف الإسرائيلي من أي تهديدات خارجية.
وفي المحصلة، وأيًا كانت الدوافع والقراءات المختلفة لرفع وتيرة الحضور العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، فإن القضاء على الحوثي بات هدفًا لوجستيًا استراتيجيًا لواشنطن، إما بهدف حماية الملاحة البحرية أو لتقليم أظافر إيران وتحجيم نفوذها الإقليمي، بما يُضعف ثقلها على مائدة الحوار.
الضربات الجوية لم تؤت ثمارها
أسفرت الهجمات الجوية التي شنتها الطائرات الأمريكية واستهدفت مواقع الحوثيين في محيط مأرب والحديدة، والتي كلفت الخزانة الأمريكية أكثر من مليار دولار في الأسابيع الثلاثة الأولى، عن تكبيد الحركة خسائر فادحة، حيث دمرت تحصيناتها العسكرية وقصف مخازن أسلحة، وقتلت قيادات ميدانية، كما نسفت مراكز قيادة وسيطرة، وأحداث أضرارًا بالغة في شبكات الاتصال العسكرية والبنية التحتية الحوثية.
غير أنه ووفق ما أعلنت الولايات المتحدة فإن الضربة الجوية المركزة والمكثفة ضد اليمن هدفت إلى وقف هجمات الحوثي على إسرائيل والملاحة البحرية، وهو ما لم يتحقق عمليًا، إذ لا تزال الصواريخ الحوثية تهدد السفن الأمريكية والإسرائيلية في البحر الأحمر، فضلا عن قدرة المسيرات التي تطلقها الحركة على الوصول إلى أجواء تل أبيب.
وبعد شهر ونصف تقريبًا لم تتغير خارطة السيطرة الميدانية في اليمن، إذ لا تزال السيطرة الحوثية على مناطق نفوذها قائمة، حتى الأماكن التي استهدفتها الضربات لم تشل الحركة بالشكل الكاف، في ظل افتقار الأمريكيين للمعلومات الاستخباراتية عن أماكن تمركز قوات الحوثي، وهو ما يجعل الكثير من الضربات عشوائية، تستهدف المدنيين العزل والمنشآت النفطية والبنيوية أكثر من استهدافها لعناصر ومواقع حوثية.
وتعليقًا على تلك الضربات نقلت “سي إن إن” عن أحد المسؤولين الأمريكيين قوله “نحن نستنزف كل طاقتنا – الذخائر والوقود ووقت الانتشار”، وبدلاً من أن يستسلم الحوثيون، هددوا بتوسيع نطاق أهدافهم ليشمل الإمارات، التي تدعم الحكومة المنافسة لهم في الحرب الأهلية اليمنية، كما يقول سعوديون إن الدفاعات الجوية للمملكة في حالة تأهب قصوى.
وفي المقابل علق متحدث باسم الحوثيين بقوله: “لن تثني عشرات الغارات الجوية على اليمن القوات المسلحة اليمنية عن أداء واجباتها الدينية والأخلاقية والإنسانية”.
وتذهب كافة التقديرات إلى أن استمرار القصف الجوي على تلك الشاكلة لن يغير من المعادلة الميدانية كثيرًا، حتى لو استمر لسنوات، فالنموذج الأفغاني لا زال حاضرًا في الأذهان، إذ أن الطبيعة الجبلية التي تتميز بها الساحة اليمنية تساعد الحوثي بشكل كبير في إعادة التموضع، وتجهض الضربات الجوية وتفقدها الأثر والتأثير المطلوب، وهو ما يجعل أنصار الله في وضع مريح نسبيًا، يسمح لهم بالصمود وعدم تقديم أي تنازلات للأمريكان.
وأمام هذا الاستنزاف المتواصل للأمريكيين اقتصاديًا وعسكريًا، دون تحقيق الأهداف المنشودة، تصاعد الخطاب الداخلي والخارجي الذي يرى بضرورة شن عملية برية واسعة، إذا ما أرادت الإدارة الأمريكية حسم المعركة عمليًا، بعيدًا عن الضربات البعيدة الموجعة لكنها ليست رادعة، وهو ما بدأت تسربه بعض وسائل الإعلام الأمريكية.
بين العملية الشاملة والمحدودة.. تباين في الرؤى
في 6 أبريل/ نيسان الجاري، نقلت شبكة “سي إن إن” عن مصادر دبلوماسية إقليمية قولها إن هناك استعدادات جارية على قدم وساق لشن عملية برية شاملة ضد الحوثيين في اليمن، تنطلق من الجنوب والشرق، كذلك على طول الساحل، لافتة أن تلك العملية ستحظى بدعم بحري سعودي إماراتي في محاولة لاستعادة ميناء الحديدة الذي تسيطر عليه الحركة.
التقرير أعطى انطباعًا لدى كثير من المراقبين أن هناك توجه جاد هذه المرة نحو الحسم العسكري في اليمن، وأن الولايات المتحدة عازمة على هذه الخطوة، وعليها بالفعل طمأنة حلفاءها الخليجيين من أي عملية برية، كما نقلت الشبكة على لسان الزميل الرفيع في معهد واشنطن، مايكل نايتس، الذي قال إنه “سيتعين على الولايات المتحدة أن تقول للرياض: سنحميكم بنفس الطريقة التي حمينا بها إسرائيل عام 2024 من جولتي الضربات الإيرانية”.
لكن سرعان ما تغير الموقف، فبعد أسبوع واحد فقط من هذا التقرير، وتحديدًا في 15 من الشهر الجاري، نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريرًا أخر، كشفت فيه أن العملية البرية لن تكون شاملة وواسعة النطاق كما جاء على لسان مصادر الشبكة الأمريكية، لكنها ستقتصر على الساحل الغربي وتحديدا مدينة الحديدة.
وبحسب المسؤولين الأمريكيين الذين تحدثوا للصحيفة فإن تلك العملية المحدودة سيقوم على تنفيذها فصائل تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي الموالي للإمارات، دون الكشف عن أي دور واضح للحكومة اليمنية الشرعية، أو فتح جبهات متعددة كما كان متوقعا، وهو ما اعتبره محللون تغيرًا جذريًا في الموقف الأمريكي من مسألة العملية البرية في اليمن.
العملية المحدودة.. هل تقضي على الحوثي؟
على فرضية قيام الولايات المتحدة بشن عملية برية محدودة في اليمن، وبحسب “وول ستريت جورنال” ستكون في منطقة الساحل الغربي وتحديدًا في مدينة الحديدة، يبقى التساؤل الأهم: هل تحرير الحديدة أو الساحل الغربي كاملا من الحوثيين سيقضي عليهم كحركة وعلى نشاطهم في المنطقة ويحقق الأهداف الأمريكية؟
بداية لاشك وأن استعادة الحديدة ستكون خسارة كبيرة للحوثي وتقلص حتمًا من نفوذه في الساحل، وربما تقزم حضوره بشكل لافت، لكن هذا التقزيم لن يطيح بالتهديدات الحوثية للملاحة في البحر الأحمر، إذ أن الجزء الأكبر من الترسانة التسليحية للحركة موزعة في الجبال والوديان وداخل التضاريس الجغرافية المعقدة في المناطق الجبلية الداخلية وليس على الساحل، وهي المناطق التي تحتاج إلى خرائط مفصلة للوصول إليها وهو ما لا يتوفر حاليًا للأمريكان.
وعلى العكس من ذلك فإن القيام بعملية برية محدودة قد يمنح الحركة فرصة لإعادة ترتيب الصفوف، خاصة في حال تحييد بقية الفصائل الداخلية، وهو ما سيساعد أنصار الله على الحفاظ على عمقهم الاستراتيجي الذي ربما يتسع أفقيًا بما يصعب من مهمة الولايات المتحدة داخل اليمن، وربما يعرضها لكوارث غير محسوبة.
بعض الأصوات في الداخل اليمني ترى أن ابتعاد سيناريو العملية البرية الشاملة الهادفة إلى استعادة الدولة ككيان متكامل، والاكتفاء بعملية محدودة، في الحديدة والساحل، خطوة تخدم الرؤية السعودية الإماراتية في المقام الأول، حيث ترسيخ فكرة الانقسام والتفسخ وتغذية الطائفية والمناطقية وإثراء الصراع الداخلي، وهو ما يقود في النهاية إلى هندسة اليمن سياسيًا وجغرافيًا وفق بوصلة الرياض وأبو ظبي على حساب الدولة اليمنية ومستقبلها.
مثل هذا التحرك من شأنه أن يبعث على القلق وعدم الاطمئنان إزاء النوايا الحقيقية بشأن تلك العملية التي قد تتحول إلى ساحة صراع كبيرة بين الحوثيين الباحثين عن البقاء والرؤية الأمريكية الخليجية الهادفة إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه وتكريس واقع الانقسام القائم وترتيب مناطق النفوذ بين الحلفاء.
واشنطن بين المقاربات والأهداف
ويعتبر القيام بعملية برية شاملة في اليمن مسألة ليست سهلة، خاصة في ظل الجغرافيا المعقدة التي قد تحول تلك العملية إلى مغامرة تُطيح بسمعة وهيبة الولايات المتحدة، وتُعيد سيناريو فيتنام وطالبان مرة أخرى، الأمر الذي يتطلب التنسيق الإقليمي المسبق قبل الولوج في تلك المقامرة، خاصة وأنه من المتوقع أن تحارب الولايات المتحدة عبر وكلائها في المنطقة وإن كانت هناك مشاركة فعلية من عناصر أمريكية ستكون محدودة للغاية وعلى الأغلب ستكون عناصر إدارية إشرافية أكثر منها مقاتلة.
وهنا تضع واشنطن على مائدة بحث ومناقشة تلك العملية عدد من المقاربات أبرزها:
– التنسيق الأمني مع الجبهة الداخلية اليمنية والفصائل المقاتلة هناك، سواء كان المجلس القيادي الرئاسي أو الانتقالي الجنوبي أو قوات درع الوطن التي تشكلت مطلع 2022، إذ لابد أولا من توحيد تلك الجبهة بكافة الفصائل وضمان ولائها وانخراطها في العملية البرية، وهي العملية الصعبة في ظل ما تعاني منه تلك التشكيلات من تناحر وصراع نفوذ.
– التفاهم المسبق مع القوى الإقليمية، السعودية والإمارات تحديدًا، كونهما الأكثر استفادة من استهداف الحوثيين، والمتضرر الأبرز من تنامي نفوذهم وتصاعد قوتهم العسكرية، وهو التفاهم الذي قد يواجه عراقيل عدة جراء القلق الخليجي من رد فعل الحركة التي كانت قد هددت قبل ذلك باستهداف العمق السعودي الإماراتي في حال المشاركة في أي عملية برية يمنية.
وكانت كل من الرياض وأبو ظبي قد سارعتنا لنفي ما أوردته صحيفة “وول ستريت جورنال” بشأن الاستعدادات الجارية لشن عملية برية وشيكة في اليمن بدعم أمريكي والإشارة إلى دور لهما فيها، وهو الموقف الذي يعكس حالة القلق التي تخيم على الدولتين خشية التعرض لأي ضربات انتقامية من الحوثيين أو ممولهم الإيراني.
– القلق من الانتقام الحوثي، فالحركات المسلحة التي تفتقد للمؤسساتية والمقاربات السياسية مثل جماعة أنصار الله، من الصعب التكهن برد فعلها، وهو ما تضعه الولايات المتحدة في الحسبان، إذ أن استهدافها بريًا ومحاولة قلعها من جذورها، قد يدفعها للانتقام بشكل هستيري غير منضبط، يٌعرض المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بل ومصالح دول المنطقة بأسرها للخطر، خاصة في ظل ما تمتلكه من ترسانة تسليحية ليست بالهينة وفق ما كشفت العديد من التقارير.
في ضوء ما سبق.. ستضع الولايات المتحدة على طاولة التباحث كافة المتعلقات بتلك العملية البرية، مغرياتها المتمثلة في الهيمنة على الممرات البحرية، مضيق هرمز وقناة السويس وموانئ الساحل اليمني، وتقليم أظافر الحوثي لمنع تهديد الملاحة البحرية وتوظيف ذلك كورقة ضغط ضد طهران، وترسيخ التواجد الأمريكي في المنطقة، وعلى الجانب الأخر مقارباتها الأمنية والسياسية والتي تدفع بقوة نحو تقييم الساحة جيدًا قبل الولوج في مستقنع سيكون من الصعب الخروج منه، وعليه تبقى كافة الخيارات متاحة في انتظار التطورات التي تُغلب خيار على أخر.