وجاءت تلك التطورات بعد قتال استمر أياما، انسحبت على إثره القوات العراقية تاركة العديد من مخازن الذخيرة والأسلحة الحديثة من ضمنها ست طائرات هليكوبتر من طراز بلاك هوك. تلك الأسلحة الأميركية الصنع التي منعت إدارة أوباما وصولها للمعارضة المعتدلة في سوريا بحجة الخوف من وصولها إلى المتطرفين عموما وإلى هذا التنظيم بالذات.
كما استطاع ذلك التنظيم الحصول على ما قيمته حوالي نصف مليار دولار أو أقل قليلا من البنك المركزي في الموصل كي يصبح أغنى تنظيم جهادي في العالم.
وسط حالة من الذهول والإرباك على المستوى الدولي، يميل العديد من السياسيين العراقيين من السُنّة، للاعتقاد بأن ما يحدث ليس إلا مجرد مؤامرة أو “لعبة سياسية” تنطوي على انهيار مدروس ومخطط له بقرار سياسي من المالكي، حيث يسعى هذا الأخير للهروب إلى الأمام بعد الانتخابات النيابية الأخيرة من خلال الدخول في حرب مباشرة مع المكونات السنية، الأمر الذي سيؤدي إلى إعادة توحيد صفوف المكونات الشيعية العراقية خلفه ويزيد من فرص حصوله على الدعم الأميركي مجددا تحت راية مكافحة الإرهاب السني الذي يقوده تنظيم “الدولة”.
غير أن حجم الانهيار الحاصل في الجيش العراقي والمساحة الواسعة التي خرجت من نطاق سيطرة حكومة المالكي يوحي بوجود خطر حقيقي على وحدة العراق وعلى المالكي وحكومته أنفسهم، بما يضعف فرضية المؤامرة و”اللعبة السياسية” أو أنه يشير على الأقل إلى سوء تقدير في الحسابات بما أدى إلى انهيارات وانسحابات في الجيش العراقي أكبر مما كان متوقعا بكثير.
ولكن بغض النظر عن الخلفيات والأسباب الحقيقية التي أدت إلى التطورات الأخيرة، فإنه سيترتب عليها تحولات إستراتيجية عميقة المدى والتأثير على المنطقة بشكل عام، يمكن إيجاز بعضها على المستوى السياسي بما يلي:
– في العراق: لن يطول الوقت كثيرا قبل أن تبدأ الخلافات بين تنظيم “الدولة” والمجاميع العراقية الأخرى بالظهور، حيث إن المنظومة الفكرية التي يستند إليها التنظيم في ممارساته ستحول دون إمكانية صناعة توافق مع أي مكون آخر، وخاصة أنه يرى نفسه الدولة صاحبة الشرعية وعلى الآخرين الانصياع والإذعان.
بالإضافة إلى ذلك فإن الحشد الطائفي على الجانب الشيعي وإعلان مرجعيتهم العليا (آية الله علي السيستاني) في ١٤ يونيو/حزيران الجهاد والدعوة للتطوع، يشيران إلى إمكانية أن تتطور حالة الثورة والتمرد في المناطق السنية إلى حالة من الحرب المفتوحة طويلة الأمد، بما يعيد إلى الأذهان المصير المدمر لنموذج المدن السورية المحررة، حيث استطاع النظام السوري حصار المدن الداخلية وتجويعها، كما أنه قام بتدمير المدن التي يصعب حصارها عبر الطيران بما أوقف عجلة النمو والحياة فيها وحوّل الغالبية من أهلها إلى لاجئين في دول الجوار.
لا يوجد ما يمنع تكرار نفس المشاهد بالعراق في حال تطورت الأحداث إلى حرب طائفية واسعة، مما يعني إغراق أغلب المدن العراقية في دوامة العنف والاضطرابات وتوقف عجلة الحضارة لفترات قد تكون طويلة.
في سوريا ولبنان: في حال استمرار واتساع حالة الحرب في العراق فإنها ستؤدي إلى استهلاك فائض القوة المتوفر لدى المليشيات الشيعية في العراق، مما سيعمل على انسحاب هذه المليشيات من المشهد السوري بالتدريج، وبالتالي ستزداد الأعباء والضغوطات على حزب الله اللبناني، وكذلك على القيادات الإيرانية التي عليها أن تنسق جهودها في ساحتي معارك تفصل بينهما خطوط متداخلة.
كما أنه من المتوقع أن ينشغل تنظيم “الدولة” في معركته مع قوات المالكي بما سيخفف الضغط على المعارضة السورية المسلحة، حيث أعلن في ١٤يونيو/حزيران إيقاف معاركه مع جبهة “النصرة” وغيرها من الكتائب في سوريا، الأمر الذي سيترك آثارا هامة وواضحة على التوازنات العسكرية في الواقع السوري ويؤدي إلى إضعاف حزب الله في لبنان بشكل كبير.
التوازن الإقليمي في المنطقة: البعد الأهم الذي قد تحمله هذه التطورات هو إضعاف الدور التركي في الملفين السوري والعراقي، وتحويل إيران إلى قطب إقليمي هام يمتد نفوذه من باكستان إلى البحر الأبيض المتوسط.
ففي ظل تراجع المركزية الغربية في العالم وانكفاء الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة العربية، بات من الواضح وجود فراغات نفوذ وضعف في الهيمنة الغربية، مما دفع تركيا وإيران للتنافس على ملء هذا الفراغ والإفادة منه، حيث تسعى كل منهما لبناء منظومة سياسية تكون هي في القلب منها وصاحبة التأثير الأكبر فيها.
ففي الوقت الذي اعتمدت فيه تركيا على قواها الناعمة، مرتكزة على التسويق لنموذجها الحضاري المتصالح مع تاريخه والقادر على المزاوجة ما بين الحداثة والإسلام، قامت إيران ببناء منظومتها السياسية بالاعتماد على التحالفات الطائفية في المنطقة، مرتكزة على أسطورة الممانعة وقضية تحرير فلسطين.
إن احتجاز موظفي القنصلية التركية في الموصل من طرف تنظيم “الدولة” الذي قام قبل ذلك بإرسال العشرات من “الانتحاريين” والسيارات المفخخة للمعابر الحدودية السورية التركية يبعث اليوم برسائل متعددة المعاني للدولة التركية ويضعها أمام معضلة سياسية جدية، حيث إن التدخل المباشر في الحرب ضد هذا التنظيم قد ينقل القلاقل إلى داخل أراضيها عبر المفخخات و”الانتحاريين” مما سيخلق المزيد من القلق والتوتر داخل الدولة التركية، ويجرها للدخول في مستنقع لا ترغب الدخول فيه.
إذ أنه سيعمل على استنزاف إنجازاتها ومقدراتها الاقتصادية خلال العقدين الأخيرين، كما أنه سيضعف مسيرة تدعيم الديمقراطية لصالح الحفاظ على الأمن وتقوية الجيش، مما سيحرف الدولة التركية عن مسارها كقوة إقليمية صاعدة ذات نموذج حضاري متميز.
بينما ستؤدي سياسة النأي بالنفس وعدم التدخل إلى الانكفاء السياسي وفقدان تركيا للقدرة على التأثير الفعّال على المدى البعيد، مما يعني خروجها من الملف السوري والعراقي وتركهما لإيران كي تستخدم نفوذها فيهما كأوراق تفاوضية في بازارات تبادل المصالح والمنافع مع الغرب وكذلك مع الحلفاء الروس والصينيين على حد سواء.
وسيعني هذا في المحصلة ازدياد فرص إيران في التحول إلى قطب إقليمي رئيسي، يتم التعامل معه على أنه شريك في مكافحة الإرهاب، وراعٍ للمصالح الغربية في المنطقة في ظل السياسة الأميركية الجانحة للسلم ولعدم التدخل العسكري. وإعلان الرئيس الإيراني حسن روحاني في ١٤ يونيو/حزيران خلال مؤتمر صحفي عن استعداده للتنسيق مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب يمكن فهمه في هذا السياق.
طبعا فإن السياسة الإيرانية الطامحة للتوسع والهيمنة تنطوي على استنزاف كبير للطاقات والموارد الإيرانية، والتي سيتوجب تعويضها من خلال لعبة الأمم عندما يدرك العالم أن إيران هي الوحيدة صاحبة اليد العليا للسياسة في العراق ولبنان وسوريا، وأن أغلب مواقع النفط والغاز العراقية والسورية معا تقع في دائرة نفوذ ما يسمى تنظيم “دولة العراق والشام الإسلامية” الذي لم ينفذ أي عملية عسكرية ضد إيران، كما أن هناك العديد من المؤشرات التي تؤكد اختراق هذا التنظيم من طرف الإيرانيين.
ربما يرى بعض الباحثين أن من الظواهر التي رافقت ثورات الربيع العربي هي ظاهرة ربيع المنظمات السلفية الجهادية التي وجدت في فراغ السلطة -الذي أحدثه الاستعصاء في الحالة السورية- فضاء رحبا للانتقال من حالة التنظيمات السرية الرخوة إلى مرحلة أكثر تقدما في تجربة بناء هياكل حكم لدولة مفترضة.
غير أن العديد من التطورات في سوريا والعراق ولبنان في السنوات الأخيرة حملت معها أيضا العديد من الفرص الواعدة والأوراق السياسية الرابحة لإيران، التي جعلتها أيضا تعيش ربيعها السياسي الحالم بالانتقال من طور الدولة الإقليمية الهامة إلى حالة القطب الإقليمي الذي يهيمن على دول المنطقة ويقوم بضبط الإيقاع السياسي فيها.
وعندما يتحقق ذلك فلن تمانع إيران في إرسال بشار الأسد ونوري المالكي إلى لاهاي في إطار صفقات سياسية أكبر، لأنها ستكون الطرف الوحيد الذي سيضع قواعد اللعبة السياسية التي ستأتي بمن يخلفهم.