سيون أسيدون: مغربي يهودي يقف في صف العدالة الفلسطينية

في سجلات المناضلين المغاربة اليهود المناهضين للصهيونية، يبرز اسم سيون أسيدون بوصفه حالة استثنائية، إذ جعل من القضية الفلسطينية محورًا لنضاله الحقوقي والسياسي لعقود، رافضًا الانخراط في السرديات الرسمية، سواء في المغرب أو في “إسرائيل”.
وُلد أسيدون في مدينة أغادير بعد يوم واحد فقط من إعلان ديفيد بن غوريون، الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية، قيام “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين عقب نهاية الانتداب البريطاني. ومنذ شبابه، عاش أسيدون يحلم بزوال الاحتلال، ودفع ثمن هذا الحلم من حريته، حيث اعتُقل خلال ما يُعرف في المغرب بـ”سنوات الرصاص”.
رغم السجن والملاحقة، ظل وفيًا لقناعته بأن مقاومة الظلم أياً كان مصدره أو شكله واجب أخلاقي لا يُقبل التراجع عنه. هذه القناعة رسّخته كأحد أبرز الأصوات المناصرة لفلسطين في شمال إفريقيا، متحديًا الرواية الصهيونية، ومقاومًا محاولات التطبيع في محيطه.
هوية متعددة الأبعاد
وُلد سيون أسيدون في 14 مايو/أيار 1948 بمدينة أكادير، لعائلة يهودية أمازيغية الجذور، وهو ما أضفى على هويته طابعًا مركبًا يجمع بين الانتماءين الأمازيغي والعربي، وبين الدين اليهودي والتكوين الثقافي المغربي.
تلقى تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، غير أن الزلزال المدمر الذي ضرب أكادير عام 1960 اضطر عائلته إلى الانتقال نحو مدينة الدار البيضاء، حيث تابع دراسته الثانوية في ثانوية “ليوطي” الشهيرة، وفي عام 1966، غادر المغرب إلى فرنسا لمتابعة دراسته الجامعية في الرياضيات بجامعة باريس.
في فرنسا، انفتح أسيدون على الفكر اليساري والأدبيات الماركسية، وتشرّب الأفكار الثورية، مشاركًا في انتفاضة مايو/أيار 1968 التي هزّت فرنسا. وقد شكلت هذه المرحلة أرضية حاسمة لتبلور وعيه السياسي.
لكن التحول الأعمق في نظرته للعالم جاء بعد نكسة عام 1967، إذ ترك انحياز الإعلام الغربي المطلق لـ”إسرائيل” أثرًا بالغًا في نفسه، ما دفعه إلى مساءلة الرواية الصهيونية للتاريخ اليهودي، وإعادة التفكير في جذور الصراع في الشرق الأوسط.
أواخر الستينيات، عاد سيون أسيدون إلى المغرب مدفوعًا برغبته في الإسهام في بناء وطن ديمقراطي عادل، فكان من مؤسسي “منظمة 23 مارس” سنة 1970، وهي حركة ماركسية-لينينية معارضة للنظام الملكي آنذاك، رفعت صوتها ضد الفساد والاستبداد، في مرحلةٍ كان فيها ثمن الكلمة الحرة السجن أو النفي.
وفي عام 1972، اعتُقل بسبب نشاطه السياسي، وقضى 12 عامًا خلف القضبان بتهمة “المساس بأمن الدولة”، إلى جانب عدد من الشخصيات المعارضة، فيما عُرف لاحقًا بـ”سنوات الرصاص”.
وعقب الإفراج عنه، لم يتراجع عن مبادئه، بل خصص جهده للنضال المدني داخل المغرب، فأسس فرع “ترانسبارنسي المغرب”، التابع لمنظمة الشفافية الدولية، وانخرط في فضح ملفات الفساد وسوء تدبير المال العام، مساهمًا في ترسيخ ثقافة المساءلة والمحاسبة.
يرى أسيدون أن النضال ضد الفساد والاستبداد لا ينفصل عن الدفاع عن القضية الفلسطينية، فكلاهما يعكسان بنى سياسية تفتقر إلى العدالة، وتقوم على منطق الإقصاء والاستغلال.
فلسطين: جوهر النضال الأخلاقي
رغم انخراطه العميق في الشأن الوطني المغربي، لم تكن فلسطين بالنسبة إلى سيون أسيدون قضيةً هامشية، على العكس، رآها تجسيدًا للاستعمار الجديد والتمييز العنصري، واعتبر أن ما تمارسه “إسرائيل” من تهجير وقتل واستيطان، يُحاكي أبشع أنماط الاحتلال في التاريخ المعاصر.
وبعد خروجه من السجن عام 1984، تحوّل إلى أحد أبرز الأصوات المناصرة للقضية الفلسطينية في المغرب، مدفوعًا لا بالعاطفة، بل برؤية سياسية وأخلاقية تعتبر الصهيونية مشروعًا استعماريًا قائمًا على الإقصاء ومحو الآخر.
يُعد أسيدون من الداعمين البارزين لحركة المقاطعة العالمية (BDS)، التي انطلقت عام 2005، بوصفها أداة سلمية فعالة لدعم مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، كما أسّس “حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل في المغرب”، وساهم في تنظيم حملات واسعة ضد المنتجات الإسرائيلية، خصوصًا في قطاعات التمور والتكنولوجيا الزراعية، وكان يؤكد أن “كل درهم يُدفع مقابل سلعة إسرائيلية يتحوّل، بشكل أو بآخر، إلى رصاصة تخترق صدور إخوتنا الفلسطينيين”.
كما أنه لم يتردد في انتقاد المثقفين والفنانين المغاربة الذين شاركوا في أنشطة فنية أو ثقافية لها علاقة بـ”إسرائيل”، واعتبرهم شركاء في “تبييض الاحتلال”، إذ تمثّل المقاطعة بكافة أشكالها، بالنسبة إليه، أداةً مَدنية فعالة للضغط على الاحتلال وإنهاء معاناة الفلسطينيين.
على خلاف كثير من المغاربة اليهود الذين اختاروا الهجرة إلى “إسرائيل”، ومن بينهم بعض أقاربه، لم تنجح الدعاية الصهيونية في التأثير على عائلة سيون أسيدون، التي فضّلت البقاء في المغرب، وكان سيون يُعبّر عن امتنانه لهذا القرار بقوله: “ولماذا يسافر المرء من بلده الذي ينتمي إليه؟”.
رفض أسيدون مرارًا الخلط بين اليهودية والصهيونية، مؤكّدًا أن الصهيونية تُشوّه اليهودية وتخون قيمها الأخلاقية والروحية، محذرًا من الوقوع في فخ الادعاء الإسرائيلي بأنها تمثّل جميع يهود العالم.
وبينما يعتبر اليهودية دينًا وثقافة وهوية، يرى في الصهيونية مشروعًا سياسيًا استعماريًا قائمًا على الإقصاء والعنف، ولذلك فإن معارضته للصهيونية تنبع من التزامه بالعدالة ورفضه لكل أشكال العنصرية، لا من موقف معادٍ لليهود أو للسامية.
وقد استلهم أسيدون موقفه من حركات يهودية مناهضة للصهيونية مثل “صوت اليهود من أجل السلام“، التي تؤكد أن دعم فلسطين لا يتناقض مع الانتماء اليهودي. وكان يشير دائمًا إلى أن كثيرًا من اليهود، بمن فيهم ناجون من المحرقة، يعارضون سياسات “إسرائيل” وجرائمها، انطلاقًا من إنسانيتهم، لا بالضرورة من منطلق ديني.
سيون أسيدون وطوفان الأقصى
كان سيون أسيدون من أبرز الأصوات الرافضة لاتفاق التطبيع بين المغرب و”إسرائيل”، وعبّر عن موقفه هذا صراحة في أكثر من مناسبة. غير أنه لا يرى أن التطبيع بدأ عام 2020، بل يعتبر جذوره أعمق، تعود إلى القرن العشرين، حين وُقّعت اتفاقية مع الوكالة اليهودية لتهجير اليهود المغاربة إلى “إسرائيل”، التي كانت حينها في أمسّ الحاجة إلى اليد العاملة.
ومنذ السابع من أكتوبر، الذي يعتبره لحظة كاشفة لسقوط مقولة “الجيش الذي لا يُقهر”، حرص أسيدون على المشاركة في المسيرات والوقفات الداعمة لفلسطين، وكتب مقالات رأي، وأدلى بحوارات لوسائل إعلام عربية ودولية، أدان فيها ممارسات الاحتلال، ودعا صراحة إلى وقف التطبيع.
كما ندّد بتوظيف التراث اليهودي المغربي في خدمة أجندات سياسية تطبيعية، مؤكدًا أن يهودية فئة من المغاربة يجب أن تُصان بوصفها مكوّنًا وطنيًا أصيلًا، لا أداة سياسية.
ورغم بلوغه مشارف العقد الثامن من عمره، لا يزال أسيدون وفيًا لبوصلته النضالية، فهو يناصر المقاومة الفلسطينية، ويعتبر حركة حماس جزءًا من هذه المقاومة، ويؤمن أن ما تقوم به هو “واجبها من أجل تحرير وطنها”.
كما لا يتردد في مهاجمة “الانحياز الفاضح” للغرب لصالح “إسرائيل”، معتبرًا أن الاحتلال يمثل “حارس مصالح هذه القوى في المنطقة”، ما يُفرغ مواقفها من أي قدرة أخلاقية أو سياسية على حل القضية الفلسطينية.
ببطاقته المغربية وكوفيته الفلسطينية، التي يقول إنها هدية من رفيق فلسطيني، يواصل سيون أسيدون حضوره في مختلف الساحات والمسيرات المناصرة لفلسطين. ليظل صوتًا نادرًا للوضوح الأخلاقي، رفض أن يكون جزءًا من السردية الرسمية، لا في المغرب ولا في “إسرائيل”.
ومن خلال تجربته، يكسر أسيدون الصورة النمطية عن اليهود، ويذكّر أن النضال من أجل فلسطين لا يتطلب أن يكون المرء عربيًا أو مسلمًا، بل أن يكون إنسانًا يؤمن بالعدالة والحرية.