“الخلية” والإخوان والضغوط الإقليمية: قراءة في مشهد أردني متشابك

في الثالث والعشرين من أبريل/نيسان الجاري، أعلن وزير الداخلية الأردني مازن الفراية حظر جميع نشاطات جماعة الإخوان المسلمين في البلاد، واعتبارها “جمعية غير مشروعة”، تنفيذًا لأحكام قضائية سابقة، وشمل القرار إغلاق جميع مقرات الجماعة، مع تسريع إجراءات اللجنة المعنية بمصادرة أصولها. وأكد الوزير أن الانتماء إلى الجماعة أو الترويج لأفكارها بات يُعدّ مخالفًا للقانون ويُعرّض مرتكبيه للمساءلة القضائية.
وفي سياق موازٍ، أصدرت هيئة الإعلام تعميمًا يحظر بث أو نشر أي تصريحات صادرة عن أعضاء الجماعة أو من يمثلهم، كما منعت عرض مقابلات أو حوارات معهم، بالإضافة إلى حظر نقل أو إعادة نشر البيانات أو المنشورات الصادرة عنهم عبر مختلف وسائل الإعلام.
أثار القرار جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية، وفتح بابًا من التساؤلات حول دوافعه وتوقيته، إذ تساءل البعض: لصالح من تُشيطن هذه الخلية وتُحوّل بوصلتها نحو الداخل الأردني؟ ولماذا لم توضح الحكومة صراحةً أن ما وُصف بالمخطط كان يهدف إلى التهريب نحو الضفة الغربية، لا إلى استخدامه داخل الأردن؟ كما طُرح تساؤل أكثر إلحاحًا: هل سيُتهم كل من يختلف مع سياسة الدولة بأنه يناهضها أو يشكّل خطرًا عليها؟
ما القصة؟
بدأت فصول القضية حينَ كشفت دائرة المخابرات العامة في الخامس عشر من نفس الشهر إحباطها ما وصفته بـ” “مخططاتٍ تهدف إلى المساس بالأمن الوطني وإثارة الفوضى والتخريب المادي داخل المملكة”، مشيرةً ألى أنها قبضت على 16 ضالعًا يشتبه بتورطهم في تلك المخططات التي كانت تتابعها بشكل استخباري دقيق منذ عام 2021.
وبحسب بيان المخابرات، شملت هذه المخططات تصنيع صواريخ بأدوات محلية وأخرى مستوردة، وحيازة مواد متفجرة وأسلحة نارية، وإخفاء صاروخ جاهز للاستخدام، ومشروع لتصنيع طائرات مسيّرة، فضلًا عن تجنيد وتدريب عناصر داخل البلاد وإرسالهم لتلقي تدريبات في الخارج.
تلا ذلك تصريحاتٌ لوزير الإعلام الأردنيّ محمد المومني، أكدَ فيها أن المتهمين أحيلوا إلى محكمة أمن الدولة بتهم تتعلق بمخالفة قانون منع الإرهاب، بعد انتهاء التحقيقات ومصادقة النائب العام على قرار الظن، مشيرًا إلى أنَّ بعض المتهمين ينتمون لجماعة غير مرخّصة ومنحلة بموجب القانون، في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين، معتبرًا أن ما جرى يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن الدولة، وأنه “لن تُقبل أي مبررات لتلك الأفعال”، بحسب تعبيره.
خطابُ المومني أشعلَ الشارع الأردنيّ وخاصةً بعدَ تلميحهِ إلى التهديد المُباشر للبلد، وهو ما تركَ انطباعًا واضحًا بأنَّ الخليةَ استهدفت أمن البلاد، إلا أنَّ أهالي 4 من الموقوفين أصدروا بيانًا نفوا فيه أيَّ علاقةٍ لأبنائهم بعدد من القضايا التي وصفت بـ”خلايا الإرهاب”، لافتين إلى أن الحكومة ضمت هذه القضايا المختلفة معًا دون تقديم أدلة موضوعية تثبت وجود صلة بينها وبين قضية أبنائهم الأربعة.
وأكدوا أن الحكومة لم توضح في روايتها ما هو القصد الجرمي من اتهام أبنائهم الأربعة بالتفكير في صناعة الطائرة المسيرة، كما لم تقدم أي أدلة على وجود نية لاستخدام الطائرة –إن صُنعت مستقبلًا– في أعمال خارجة عن القانون.
كما انتقدوا الطريقة التي عُرضت بها القضية، معتبرين أن الحكومة أوحت بوجود صلة بين الموقوفين وقضايا أخرى، عبر بث تسجيلات لاثنين منهم بعد عرض تسجيلات لموقوفين آخرين متهمين في ملفات مختلفة، في محاولة، كما قالوا، لربط أبنائهم بتلك القضايا دون الاستناد إلى دليل موضوعي يُثبت العلاقة.
وقالوا إنَّ أبناءهم يتعرضون لحملة تشويه ممنهجة عبر وسائل الإعلام، تتهمهم بالانخراط في ما وصفوه بـ”مشروع تصنيع طائرات مسيرة” أو “خط إنتاج الطائرات المسيرة”، معتبرين ذلك تضخيمًا غير مبرر ضمن حملة تفتقر إلى المهنية الصحفية. مشددينَ على أن دعم المقاومة فعل نبيل، لا سيما في ظل الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون، إلا أن الموقوفين الأربعة لم يقوموا بأي أعمال ملموسة في هذا الجانب.
ونفى البيان انتماء أيٍّ من الشبان الأربعة إلى جماعة الإخوان المسلمين، مؤكدين أنه لا تربطهم أي علاقة بالجماعة بل تم عرض تسجيلات اثنين من الشبان بعد تسجيلات بعض الموقوفين على ذمة قضايا أخرى، وهو ما يُعد محاولة لربطهم بتلك الملفات دون أي دليل.
في المقابل، أظهرت التحقيقات اعتراف أحد المتهمين، وهو مهندس مدني، بانخراطه في مشروع لتصنيع صواريخ بالتعاون مع شخص آخر ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، فيما أقر قريب له بانتمائه إلى الجماعة منذ عام 2010.
ما بين رواية الدولة وتفسيرات أخرى
يقول أستاذ العلاقات الدولية، حسن البراري، إنَّ التجييش ضد الأردن وجيشه ينم عن عدم نضوج فكرة الدولة الأردنية في عقول الضالعين في القضية التي أعلنت المخابرات عن إحباطها، لافتًا إلى أن حجم التجييش الذي حدث في المجتمع الأردني في الفترة الأخيرة من جماعة الإخوان المسلمين كانت كفيلة أن تنتج الضالعين في القضية أو غيرهم.
ويرى عضو مجلس الأعيان، عمر العياصرة، أن المتورطين في الاعترافات هم ضحايا لتحوّل خطابي داخل الحركة؛ إذ باتت فيه الدولة تُصوَّر “ساحة” لا “وطنًا”، وأن البيئة الداخلية للحركة تدفع بعض الشباب للتفكير في العمل المسلح خارج البلاد، مؤكدًا أن التعبئة الفكرية، المباشرة أو غير المباشرة، والانحرافات في خطاب وأدبيات الجماعة وقيادتها، ساهمت في التطرف، وشدد على أن الدولة لن تدخل في صدام مباشر مع الجماعة.
وخلال ندوة نظمها منتدى الأردن لحوار السياسات، صرح الفريق أول الركن المتقاعد طلال الكوفحي بأن المزاعم التي تروّج لفكرة أن ما جرى كشفه كان يهدف لدعم المقاومة الفلسطينية “غير صحيحة”، معتبرًا أنها بعيدة عن المنطق والواقع، وأوضح أن طبيعة الخلية وتركيبتها، إلى جانب الفهم العسكري للأسلحة والصواريخ التي كانت قيد الإعداد، كلها تشير إلى أن المخططات كانت تستهدف الداخل الأردني، وتسعى لزعزعة الأمن والاستقرار والإخلال بالأمن الوطني.
واتفق معه مدير الأمن العام الأسبق، فاضل الحمود، حين قال إنًّ مدى الصواريخ التي كانت معدة ما بين 3-5 كيلومترات، وأن الطائرات المسيرة التي سعوا لتصنيعها تسير لمسافة 12 كيلومترًا بحد أقصى، مؤكدا أن مداها لا يمكن أن يستخدم في نُصرة المقاومة كما يشيع البعض، مما يظهر أنها كانت معدة للاستخدام داخل الأراضي الأردنية.
من جانبه، كتب المدير العام الأسبق لقناة الجزيرة، ياسر أبو هلالة، عبر صفحته على فيسبوك، أن القضية لا يمكن فصلها عن طبيعة العلاقة المعقدة بين الأردن وفلسطين، حيث توحّد الجغرافيا والديموغرافيا الضفتين، وأشار إلى أنه مع اندلاع الحرب في غزة، تصاعد الضغط الشعبي داخل الأردن لنصرة الفلسطينيين.
وأضاف أن الأردن، الذي مرّ بمراحل متباينة بين تضييق العمل المقاوم واحتضانه، يواجه اليوم مشهدًا يعيد إلى الأذهان تجارب سابقة لحركة حماس داخل المملكة، حين كانت تعمل تحت مظلة جماعة الإخوان المسلمين قبل الفصل التنظيمي بينهما.
وذكر أيضًا أنَّ التوتر بين الدولة والتنظيمات الإسلامية ليس جديدًا، فتاريخيًا، خاض الإخوان معارك ضد الاستعمار من مصر إلى فلسطين، دون صدام مع أنظمتهم، لكن الأنظمة غالبًا ما خلطت بين مقاومة الخارج وتهديد الداخل.
في السياق ذاته، نقلت إحدى الصحف الحكومية تعليقًا للخبير العسكري، عادل بني عيسى، أكد فيه أن يقظة الأجهزة الأمنية أحبطت مخططات وصفها بـ”الخطيرة”، كانت تستهدف حياة المدنيين عبر تصنيع طائرات مسيّرة قابلة للانفجار، وأوضح بني عيسى، وهو عميد متقاعد من القوات المسلحة الأردنية، أن الكشف عن هذه المخططات يبعث برسالة واضحة لكل من يحاول المساس بأمن الأردن، مفادها أن مؤسسات الدولة تتمتع بخبرة استخبارية وعسكرية عالية، قادرة على كشف أي مؤامرة قبل تنفيذها، واصفًا تلك المخططات بأنها “إجرامية”.
قضية “الخلية” بين مجلس النواب والضغوط الخارجية
ناقش مجلس النواب الأردنيّ القضيّة المنظورة أمام القضاء، في مخالفةٍ واضحةٍ للمادة 114 من النظام الداخلي، الذي ينص على أنَّ لرئيس المجلس الحق في منع المتكلّم من الكلام في عدة حالات، من ضمنها إذا تعرّض لوقائع قضيّة معروضة أمام القضاء؛ لأن ذَلك يؤثر على سير العدالة فيها.
وخلال مؤتمر البرلمانات الداعمة لفلسطين، أكد رئيس مجلس النواب، أحمد الصفدي، أن الأردن يثبت دومًا أنه وطن قوي راسخ، وسيظل كذلك رغم كل المحاولات الرامية إلى زعزعة استقراره. وقال الصفدي إن الأردن “ليس ساحة لتصدير الأجندات ولا يعرف المتاجرة بدماء الشعوب”، مشددًا على أن موقفه ثابت في الانحياز الصادق لقضايا أمته العربية والإسلامية.
طالب النائب صالح العرموطي، عضو حزب جبهة العمل الإسلامي، الحكومة بتقديم معلومات دقيقة ومسؤولة حول القضية، محذرًا من إثارة الفتنة عبر روايات غير موثقة. وفي المقابل، دعا عدد من النواب إلى فصل 31 نائبًا من الحزب، على خلفية الضجة المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، التي اعتبرها بعضهم ذراعًا سياسية للحركة، علمًا بأن الجماعة كانت قد حصدت نحو مليون صوت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وفيما كان الإعلام المحلي يتسابق لاستضافة محللين وبرلمانيين وشخصيات عامة لإدانة الخلية ومهاجمة الجماعة، كان محامي المتهمين ينشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي تصريحات يؤكد فيها أن موكليه يعتبرون الوطن خطًا أحمر، وأن ما جرى تصنيعه كان موجهًا ضد “إسرائيل”، بهدف إدخال الأسلحة إلى الضفة الغربية، وليس للإضرار بالأردن.
بدوره، قال النائب، وسام الربيحات، إن الوطنية الحقيقية لا تقوم على المفاضلة مع فلسطين وقضيتها العادلة، مؤكدًا أن من يصر على هذه المفاضلة ليس وطنيًا، بل “مزاود متكسب ومتصيد حاقد”، بحسب تعبيره.
من جهتها، أصدرت جماعة الإخوان المسلمين بيانًا أكدت فيه أن ما أُعلن عنه من قبل الحكومة يتعلق بأعمال فردية تمت على خلفية دعم المقاومة، نافية أن يكون للجماعة علم أو علاقة بهذه الأفعال، ومشددة على أن مصالح الأردن فوق كل اعتبار.
في المقابل، أدان حزب جبهة العمل الإسلامي أي تورط في أعمال تهدد أمن الأردن واستقراره، مؤكدًا موقفه الثابت برفض المساس بأمن الوطن، ودعمه الكامل للمؤسسات الرسمية، مع التمسك بأن حمل السلاح هو حق حصري للدولة وحدها.
واستنكر محاولات التشكيك بدوره الوطني أو استغلال بعض الحوادث الفردية للنيل من الحركة الإسلامية، معبّرًا عن ثقته بالقضاء الأردني في محاسبة أي متورط وكشف حقيقة الدوافع وراء ما حدث.
خطاب “التهديد الداخلي”: كيف بررت السلطة حملتها؟
في الخطاب الحكومي والإعلامي الأخير، جرى تصوير جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها تهديدًا مباشرًا للأمن الوطني والاستقرار الداخلي، فقد وصف وزير الداخلية مخطط الخلية بأنه “الأخطر منذ سنوات”، مشيرًا إلى ارتباطها فكريًا وتنظيميًا بالإخوان، وأضاف أن الجماعة كانت “تعمل في الخفاء وتقوم بأنشطة تهدّد الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية”، فيما ذهب بعض النواب والصحفيين إلى وصفها بأنها “تنظيم إرهابي خطير ينبغي سحقه”.
الموقف الرسمي شدد على رفض أي ولاءات خارجية، حيث أكد رئيس الوزراء جعفر حسان أن “الوطن هو القضية الأولى، ولا يعلو على الأردن شيء”، في إشارة ضمنية إلى ما وصفته السلطات بمزاعم ارتباط الجماعة بمحاور إقليمية.
وبررت الحكومة إجراءاتها بالإشارة إلى ما كشفته تقارير الأجهزة الأمنية حول “مخطط الفوضى”، الذي تضمن اتهامات بتصنيع صواريخ وعبوات ناسفة، وارتباط هذه الأنشطة بجماعة الإخوان، وأسهمت هذه الرواية الرسمية في تعزيز صورة الجماعة كحركة تنطوي على ازدواجية خطيرة بين خطابها العلني وأنشطتها السرية، مما سهّل ربطها بالإرهاب في الخطاب السياسي.
كما استُدعي في هذا السياق البعد الفلسطيني، حيث رُبط الإخوان تاريخيًا بحركة حماس، خاصة بعد إعلان حماس دعمها للإفراج عن المعتقلين، وهو ما اعتُبر “تدخلًا فجًا” في الشأن الأردني، وأوردت وسائل إعلام تقارير عن تلقي عناصر الخلية تدريبات على أيدي حماس في لبنان، ما غذّى القناعة الرسمية بأن الجماعة أصبحت جزءًا من صراع إقليمي أوسع، وبرز التحذير من الولاءات الخارجية كجزء أساسي من الخطاب الحكومي.
وعلى المستوى الإقليمي، جاء هذا التصعيد في سياق تحوّل سياسي أوسع منذ منتصف العقد الماضي، حيث صعّدت دول مثل مصر والسعودية والإمارات ضغوطها لدفع الأردن نحو تشديد موقفه من جماعة الإخوان المسلمين، وعلى الرغم من أن عمان ظلت لفترة طويلة تتبنى سياسة احتواء مرنة تجاه الجماعة، إلا أن التحولات الإقليمية المتسارعة انعكست تدريجيًا على الموقف الرسمي والخطاب العام داخل المملكة.
غير أن تصاعد نفوذ الإخوان المسلمين مؤخرًا، وفوزهم بـ31 مقعدًا نيابيًا، إضافة إلى معارضتهم للاتفاقيات الموقعة مع “إسرائيل” ودعمهم المستمر للمظاهرات المؤيدة لفلسطين في عمّان، عزز من قلق الحكومة الأردنية، التي رأت في تمدد الجبهة الإسلامية تهديدًا مباشرًا لاستقرار الداخل، ما أسهم في تغذية خطاب “شيطنة” الجماعة، ووفّر غطاءً رسميًا لتبرير موجة الإجراءات القمعية التي استهدفتها لاحقًا.
الداخل والإقليم والخارج: مثلث الضغوط على الإخوان
كشفت صحيفة “ذا تلغراف” البريطانية عن زيارة سرية أجراها وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إلى لندن، ناقش خلالها قضايا إقليمية مثيرة للجدل، وهاجم جماعة الإخوان المسلمين ونشاطاتها في بريطانيا، موجّهًا أيضًا انتقادات حادة للمتظاهرين المؤيدين لفلسطين.
وفي السياق نفسه، نشر معهد “Responsible Statecraft” مقالًا بعنوان: “هل كان حظر الإخوان المسلمين في الأردن محاولة لإرضاء إسرائيل والسعودية؟”، حيث ربط الكاتب بين قرار الحكومة الأردنية حظر الجماعة وزيارة وفد سعودي رفيع المستوى، يضم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إلى عمان.
وأشار المقال إلى أن تعامل الأردن مع ملف الإخوان يثير تساؤلات حول قدرة النظام على احتواء حالة الغضب الداخلي، محذرًا من أن استهداف الجماعة قد يؤدي إلى تصاعد الاحتقان الشعبي بدلًا من احتوائه، في ظل التحديات الوجودية غير المسبوقة التي تواجه المملكة.
يقول الناشط السياسي علاء القضاء، في حديثه لـ”نون بوست”، إن حملة “شيطنة” جماعة الإخوان المسلمين في الأردن تستند إلى ثلاثة محددات رئيسية: داخلي، وإقليمي، ودولي، موضحًا أن الدافع الداخلي يتمثل برغبة صانعي القرار في إنهاء حالة الاحتجاج الشعبي المتواصل دعمًا لغزة، والتي امتدت لأكثر من 17 شهرًا.
وقد اعتُبرت هذه الاحتجاجات مصدر إزعاج دائم للسلطة، وأثرت على الرواية الرسمية التي اعتبرها الشارع مقصرةً بحق غزة، خصوصًا مع تنامي الغضب الشعبي إزاء اتفاقيات السلام، وصفقة الغاز، وتداعيات اعتراض الصواريخ الإيرانية، والمطالبات باتخاذ مواقف أكثر حزمًا تجاه الاحتلال، بدلاً من الاقتصار على التحركات الدبلوماسية.
وأضاف القضاء أن المحدد الإقليمي يتمثل في الضغوط القادمة من دول مثل مصر والسعودية والإمارات، التي دفعت باتجاه تفكيك حركات الإسلام السياسي في المنطقة، وأشار إلى أن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن باتت تمثل آخر وجود حقيقي لهذا التيار العربي، مما جعلها هدفًا إضافيًا لهذه الضغوط الإقليمية.
على الصعيد الدولي، يشير القضاء إلى أن التيار الأمني الأردني استغل أجواء الحرب الأخيرة على غزة والدعم الأمريكي المفتوح لـ”إسرائيل” لتسريع الإجراءات ضد جماعة الإخوان المسلمين، وأوضح أن هناك رغبة دولية أوسع في القضاء على مصادر دعم المقاومة في المنطقة، بما في ذلك الإخوان الذين “لم يحملوا السلاح يومًا ضد الدولة، بل خاضوا مواجهاتهم المسلحة ضمن إطار الصراع مع العدو الإسرائيلي خلال النكبة والنكسة”.
ويحذر القضاء من أن تفكيك الجماعة قد يؤدي إلى فراغ سياسي خطير، قائلًا: “منع الإسلاميين من العمل السياسي سيخلق حالة فراغ، ويترك الساحة لأحزاب ضعيفة مرتبطة بالنظام، تفتقر إلى قاعدة شعبية حقيقية”، معتبرًا أن هذا النهج من شأنه أن يعمّق الغضب الشعبي ويزيد من الاحتقان، لا سيما مع غياب النخب الوسيطة القادرة على شرح قرارات الدولة للمجتمع.
كما شدد على خطورة تفكيك الجماعة دون توفير بدائل حقيقية، محذرًا من أن غياب تنظيم مسؤول قد يترك الشباب المتحمسين دون قيادة تضبط حركتهم وخطابهم، ما قد يفتح الباب أمام تحولات غير محسوبة العواقب، مؤكدًا أن تفكيك الجماعة قد يكون “وصفة جاهزة لأزمات أكبر”.
وفي السياق نفسه، أكد المحامي والقاضي السابق لؤي عبيدات في تصريح لـ”نون بوست” أن ما جرى، وما أشعلته الحكومة وتدخلت فيه المجالس الشبابية ووسائل الإعلام والبرلمان والكتاب، ينطوي على مخالفات قانونية واضحة، وأشار إلى أنه لا يجوز مناقشة قضايا منظورة أمام القضاء في الساحات العامة، خصوصًا في بلد صغير كالأردن حيث يتسع نطاق الحوار بسهولة، مما قد يؤدي إلى التأثير على استقلالية القضاء وحيادته في التعامل مع القضية.
ويضيف عبيدات أن المادة رقم 224 من قانون العقوبات الأردني رقم (16) لسنة 1960 تنص على أن “كل من نشر أخبارًا أو معلومات أو انتقادات من شأنها أن تؤثر على أي قاضٍ أو شاهد أو تمنع أي شخص من الإفضاء بما لديه من المعلومات لأولي الأمر، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز خمسين دينارًا”، مشيرًا إلى أن ما حدث من قبل الناطق الإعلامي للحكومة يندرج ضمن هذا النص القانوني.
كما أوضح عبيدات أن النواب خالفوا النظام الداخلي لمجلس النواب حين ناقشوا قضية منظورة أمام القضاء، مشيرًا إلى أن معظم القضايا المشابهة لقضية الخلية عادةً ما تُسند فيها تهم تتعلق بحيازة أسلحة أو تصنيعها بقصد استخدامها على وجه غير مشروع، أو ارتكاب أعمال من شأنها الإخلال بالنظام العام وتعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر، وذلك استنادًا إلى نصوص قانون منع الإرهاب في الأردن، وأكد أن عبارة “من شأنها” في النص القانوني خطيرة للغاية، إذ تعني أن الجريمة تقوم بمجرد وجود الخطر، دون الحاجة إلى وقوع الضرر الفعلي.
مصير الحزب
في مقابلة تلفزيونية، أوضح النائب عن حزب الجبهة ينال فريحات أن الحزب أردني مستقل شارك في منظومة التحديث السياسي وحصل على الأغلبية النيابية، وأشار إلى أن العلاقة بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين كانت تاريخيًا نموذجية، حيث لم يسبق للتنظيم أن رفع السلاح في وجه الدولة طوال ثمانين عامًا، وأكد فريحات احترام الحزب للدستور والقانون، مشددًا على حق الجبهة في التعبير عن أسفها لقرار الحظر.
كما دعا إلى ضرورة انتظار صدور الأحكام القضائية في قضية الخلية قبل إطلاق الأحكام على الجماعة بأكملها، موضحًا أن أربعة فقط من عناصر الخلية اعترفوا بانتمائهم إلى الإخوان، في حين لم تصدر أي أحكام قضائية ضد عشرات الآلاف من شباب الجماعة.
يرى علاء القضاء أن المشهد لا يزال ضبابيًا، مشيرًا إلى أن “هناك من يعتقد أن التصعيد سيتوقف عند حظر جماعة الإخوان المسلمين، بينما يتوقع آخرون أن يمتد إلى حظر حزب جبهة العمل الإسلامي وفقدان مقاعده النيابية، خاصة إذا استمرت سياسة تجاوز القانون تحت غطاء القضاء”.
وأوضح أن السيناريو المرجح يتمثل في تفكيك تدريجي للجبهة خلال عام أو عامين عبر أحكام قضائية متتابعة، لتجنب صدمة مفاجئة للرأي العام، وتمرير القرار بخطوات محسوبة.
ورغم أن حزب جبهة العمل الإسلامي لا يزال مرخّصًا قانونيًا في الأردن بموجب قانون الأحزاب السياسية، ويخضع لرقابة الهيئة المستقلة للانتخاب، إلا أن علاقته التاريخية بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة تضعه اليوم في دائرة الاستهداف، فعلى مدار سنوات، عُرف الحزب بوصفه الذراع السياسية للجماعة، ولا يزال كثير من أعضائه يجمعون بين عضوية الحزب والانتماء إلى الإخوان.
وفي هذا الإطار، اتخذ الحزب خطوة أولية بتجميد عضوية ثلاثة من أعضائه الذين وردت أسماؤهم في التحقيقات المتعلقة بخلية تصنيع الصواريخ، وفق ما أفادت به مصادر حزبية، وفي حال ثبت وجود ارتباط تنظيمي بين الحزب والجماعة المحظورة، فإن مصير الحزب سيكون الحل القضائي استنادًا إلى أحكام قانون الأحزاب، مما يؤدي تلقائيًا إلى إسقاط عضوية نوابه في مجلس النواب.
من جانبه، أوضح رئيس مجلس مفوضي الهيئة المستقلة للانتخاب، موسى المعايطة، أن الأعضاء الثلاثة الذين جرى تجميد عضويتهم “ليسوا من بين النواب”، مشددًا على أن أي إجراء قانوني ضد الحزب سيعتمد على مدى ثبوت علمه أو تورطه في أنشطة الخلية، وأضاف أن قانون الأحزاب ينص بوضوح على حل أي حزب يُدان أعضاؤه بارتكاب جرائم تمس الأمن الوطني.
في المقابل، جاء قرار حظر جماعة الإخوان المسلمين واضحًا وشاملًا، إذ نص على تجريم أي نشاط أو ترويج لأفكار الجماعة، استنادًا إلى أحكام قانون العقوبات وقانون الجرائم الإلكترونية، إضافة إلى مصادرة جميع أصولها المنقولة وغير المنقولة، تنفيذًا لحكم قضائي سابق صدر عام 2020 قضى بعدم مشروعية وجودها.
وبموجب هذا القرار، نفذت قوات الضابطة العدلية أوامر النيابة العامة بتفتيش مكاتب الجماعة في عدد من المحافظات، حيث تم إغلاق المقرات وحجز كافة المستندات الموجودة فيها، ووفقًا لبيان صادر عن وزير الداخلية الأردني، فإن “أي نشاط” مرتبط بالجماعة يُعد عملًا مخالفًا للقانون، ويعاقب مرتكبه بالسجن أو بالغرامة.