يتقن دونالد ترامب القادم من عالم الأعمال لعبة التفاوض والابتزاز لتحقيق مطالبه؛ فمنذ اليوم الأول لاستلام مهامه في البيت الأبيض نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، استخدم سلاح التمويل الفيدرالي كورقة ضغط لفرض سياساته على المؤسسات، سواء الداخلية أو الدولية.
في الداخل، بدأ بتجفيف منابع الدعم الفيدرالي عن عدد من المؤسسات، خصوصًا تلك التي تمسكت ببرامج المساواة والتنوع التي لطالما رفضتها إدارته وسعت إلى إلغائها على الفور، ولم تكن معاهد التعليم العالي الخاصة والحكومية على حد سواء بمنأى عن تداعيات هذه المواجهة؛ إذ طالتها آثار الحرب التي شنّها ترامب على الجهات التي لا تتماشى مع رؤيته السياسية.
أمسك ترامب ببطاقة التمويل الفيدرالي الذي تزوده الحكومة لتلك المؤسسات على هيئة منح وعقود تستهدف قطاع البحث بالدرجة الأولى، كعصا لتأديب الجامعات التي ترفض الخضوع لمتطلباته المنطوية على أيديولوجيا محافظة، تُجرد الجامعات من تنوعها وثقافة الحريات والحقوق التي تروج لها، وتحدّ من استقلاليتها وقدرتها على اتخاذ قراراتها بمعزل عن التدخل الحكومي المباشر.
فما هو أساس تلك الحملة؟ من هو الملهم الذي تستقي منه إدارة ترامب أجندتها وسياساتها الصادمة؟ وأي تباين خلقته الحملة في ردود فعل مؤسسات التعليم العالي؟ وأي أثر قد تحمله على المدى الطويل؟ كيف ستواجه الجامعات هذه الحرب التي يبدو أنها ستطول؟ يسلط هذا المقال الضوء على هذه الأسئلة وغيرها.
حرب مشرعة الأبواب
انطلقت حملة إدارة ترامب ضد الجامعات بالتزامن مع حملة اعتقال وفسخ تأشيرات الطلبة الأجانب وترحيلهم، تنفيذًا لوعد قديم قطعه في خضم انتفاضة الطلبة ربيع العام الماضي مناصرةً للقضية الفلسطينية واحتجاجًا على سياسات “إسرائيل” الإبادية في القطاع، بدعم من الولايات المتحدة وتمويل من مؤسساتها، بما فيها مؤسسات التعليم العالي.
تأتي هذه الحملة التي تستهدف المؤسسات نفسها، لا الطلبة الأجانب وحسب، في سياق تنفيذ مباشر لقرار تنفيذي اتُخذ في أول أسبوع له في البيت الأبيض، تحت عنوان: “إجراءات إضافية لمناهضة معاداة السامية”، وقد ركز القرار بشكل استثنائي على مؤسسات التعليم العالي، وعلى نشاط الطلبة الأجانب والهيئات التدريسية في الحرم الجامعي؛ مطالبًا كلًّا من وزير الأمن القومي ووزير الدولة ووزير التعليم بالعمل على صياغة عدد من التوصيات الكفيلة بمناهضة معاداة السامية في تلك المؤسسات.
كما طالب إدارات الجامعات بمراقبة التحركات الطلابية والتبليغ عن أي مخالفات، متوعدًا الطلبة المتورطين في الاحتجاجات بفسخ تأشيراتهم الدراسية، وقد أثار القرار، منذ اتخاذه، مخاوف إدارات الجامعات، حيث تأهبت لحملة قاسية ستشنّها الإدارة قريبًا، وهو ما كان بالفعل.
إضافةً إلى هذا القرار الأساسي، وقّع ترامب قرارًا تنفيذيًا جديدًا يؤثر مباشرة على اعتماد الجامعات وتقييمها، بناءً على النتائج التي تحرزها، وبالتالي على قدرتها في الحصول على تمويل لبرامجها المختلفة، وخاصة مساعدات الطلبة.

يوجه القرار إصبع الاتهام إلى جامعات النخبة، التي يرى ترامب أن تقييمها مبالغ فيه ولا يعكس واقعًا حقيقيًا، ويتهمها بتقديم محتوى تعليمي متدنٍ من حيث النوعية، كما يطالب وزارة التعليم بمنح اعتمادات جديدة لجامعات أخرى غير تلك المعروفة، معتبرًا أن الأخيرة تروّج لأيديولوجيات يسارية متطرفة.
ويفتح هذا القرار الباب على مصراعيه لابتزاز المؤسسات القائمة، وفي الوقت نفسه، يشجع على افتتاح مؤسسات جديدة تحظى بتأييد اليمين وتتبنى أيديولوجيته، لتكون هي المستفيدة الأكبر من كعكة التمويل الفيدرالي.
كما أصدر ترامب مؤخرًا قرارًا جديدًا يحدد ما يجب الإفصاح عنه عند تلقّي الجامعات هبات ومنحًا أجنبية؛ علمًا بأن القانون يلزم الجامعات بالإفصاح عن مصادر التمويل الخارجية إذا تجاوزت مبلغ 250 ألف دولار أمريكي، في حين يسعى الكونغرس إلى خفض هذا الحد إلى 50 ألف دولار.
وقد وجّه ترامب اتهامًا مباشرًا إلى جامعة هارفارد، متّهمًا إياها بمخالفة القانون وتلقي هبات من جهات أجنبية دون الإفصاح عنها، لكنه لم يُقدّم أي دليل يدعم هذا الادعاء، وهو اتهام لا يشكّك فقط في التزام الجامعة القانوني، بل يطعن أيضًا في التزامها الوطني، ملمّحًا إلى احتمال انخراطها في أجندات أجنبية معادية.
بدأت الإدارة سريعًا بتنفيذ قراراتها، مستخدمةً بطاقة التمويل الفيدرالي كخطوة أولى، فإلى جانب جامعتي هارفارد وكولومبيا اللتين تصدرتا عناوين الأخبار في الأسابيع القليلة الماضية، باعتبارهما من جامعات النخبة وشهدتا حراكًا طلابيًا لافتًا، تأثرت جامعات ومعاهد أخرى بقرارات ترامب القاضية بقطع التمويل الفيدرالي لمؤسساتها البحثية والعقود التي تجمعها بالحكومة الفيدرالية.
وجاء على رأس هذه الجامعات: جامعة نورثويسترن، التي خسرت ما يقارب 790 مليون دولار أمريكي، وجامعة كورنل التي حُجبت عنها مساعدات ومنح فدرالية تصل إلى مليار دولار، وجامعة برينستون بواقع 210 ملايين دولار.
أما جامعة بنسلفانيا، فقد جُمّد لها مبلغ 175 مليون دولار، عقابًا لها على سماحها للمتحولين جنسيًا بالمشاركة في رياضاتها الجامعية، في مخالفة مباشرة لتعليمات إدارة ترامب.
ويُتوقع أن يتسع نطاق هذه الحملة، مع اتساع تحركات وزارة التعليم؛ إذ أرسلت الأخيرة ما يقارب 60 رسالة إلى جامعات أمريكية تُبلغها بخضوعها لتحقيقات تتعلق بادعاءات معاداة السامية وتعرّض طلبة إسرائيليين للمضايقات خلال الأشهر الماضية، كما فتحت الوزارة 30 تحقيقًا إضافيًا بشأن برامج التنوع العرقي، سواء في عمليات قبول الطلبة أو تعيين الموظفين داخل الحرم الجامعي.
هارفارد في وجه العاصفة
في رسالة مطوّلة وُجّهت إلى رئيس جامعة هارفارد، طالبت إدارة ترامب إدارة الجامعة باعتماد عدد من السياسات الجوهرية في نظامها، تنوعت بين إلغاء التوظيف وقبول الطلبة بناءً على برنامج التنوع العرقي والمساواة والكرامة، وهو البرنامج الذي يمنح فرصًا خاصة للفئات المهمّشة والأقليات ذات الحظوظ المحدودة بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو غيرها من المحددات، وبين سياسات تمسّ الحريات الأكاديمية وحقوق التعبير.
فقد شملت المطالب التضييق على حق الاحتجاج والتظاهر داخل الحرم الجامعي، حيث خلطت الرسالة بين الهوية اليهودية والجنسية الإسرائيلية، وطالبت بتوفير الحماية الكاملة لليهود والإسرائيليين من أي مضايقة، تنفيذًا لسياسات “محاربة معاداة السامية”. في المقابل، دعت الرسالة إلى تقييد نشاط الأجسام الطلابية وحقها في التعبير والتجمّع السياسي، ومحاسبة الكادر الإداري والأكاديمي المتعاطف أو المتعاون مع هذه التحركات.
لم تقف الرسالة عند هذا الحد، بل طالبت أيضًا بتدخل جهات خارجية لمراقبة الأداء الجامعي وتقييم مدى امتثال الجامعة لهذه السياسات، ما يُعدّ مساسًا مباشرًا باستقلاليتها وتهديدًا لتحررها من التبعية لأطراف سياسية وضغوط أيديولوجية خارجية.

برّر البيت الأبيض مطالبه الراديكالية تجاه أعرق جامعة أمريكية بالادعاء أن سياسات الجامعة تنتهك القوانين الوطنية وأخلاقيات العمل، معتبرًا أن برامج الكوتة التي تطبقها “تمييزية”، وأن النشاط الطلابي في الحرم الجامعي يهدد أمن اليهود ويضايق حريتهم الأكاديمية، وذهب إلى أبعد من ذلك، بوصف الجامعة بأنها “معقل لأيديولوجيا يسارية متطرفة” ومحطة تستضيف شخصيات أجنبية “معادية للولايات المتحدة”.
جاء رد رئيس الجامعة، آلان جاربر، بعد أيام قليلة، برسالة رفض فيها مجمل مطالب ترامب، معتبرًا إياها تدخلًا سافرًا في استقلالية التعليم العالي، وتهديدًا مباشرًا للحرية الأكاديمية التي تضمنها الجامعة لطلبتها وهيئاتها الإدارية والتدريسية.
ما إن رفضت الجامعة مطالب الإدارة، حتى بادر ترامب، في رد فعل عقابي، إلى تجميد أكثر من 2.2 مليار دولار من المنح والعقود الفيدرالية المقدَّمة لجامعة هارفارد، لا سيما تلك المخصصة لقطاعات البحث والاختراع.
وقد ظهرت تداعيات هذا القرار سريعًا على الحياة الأكاديمية داخل الجامعة؛ إذ تلقّى عدد من الأساتذة والباحثين رسائل تُفيد بتجميد أعمالهم ومشاريعهم البحثية، خصوصًا تلك المعتمدة على التمويل الفيدرالي، والتي تبلغ تكاليفها عشرات ملايين الدولارات، وتتركّز بمعظمها في الأقسام الحيوية والطبية، وفقًا لصحيفة جامعة هارفارد.
لم يكتف ترامب بهذا التجميد، بل نشر تغريدة عبر منصته “تروث سوشال”، هدّد فيها بسحب صفة “المؤسسة الأكاديمية” عن الجامعة، ما من شأنه أن يُخضعها للضرائب على عائداتها وأصولها، ويعاملها كمؤسسة سياسية مدينة بكامل الضرائب للحكومتين الوطنية والفيدرالية.
وبرّر تهديده بالقول إن الجامعة “مصرّة على نشر مرض سياسي وأيديولوجي داعم وملهم للإرهاب”، ولا تؤدي، بحسب زعمه، دورًا يخدم الصالح العام. وفي خطوة إضافية من التضييق، هددت إدارة ترامب بحرمان جامعة هارفارد من حق قبول الطلبة الأجانب، في حال لم تُذعن لمطالبها.
في البدء كانت كولومبيا..
لم تكن جامعة هارفارد أول من طالتها نيران تهديدات ترامب؛ إذ سبقها سحب التمويل الفيدرالي من جامعة كولومبيا بمقدار 400 مليون دولار، في محاولة للضغط عليها لتبنّي سياسات تمنع تكرار انتفاضة الطلبة التي انطلقت من حرمها في ربيع عام 2024.
فشلت الجامعة، التي كانت أول أهداف حملة إدارة ترامب، في التصدي بحزم لهذا التدخل، إذ رضخت للضغوط الفيدرالية، وعدّلت عددًا من سياساتها، لتكون بذلك أول مؤسسة أكاديمية تخضع علنًا لإملاءات الإدارة.
وقد جاءت رسالة الإدارة إلى كولومبيا أقل تطلبًا من تلك الموجّهة إلى هارفارد، لكنها كانت أكثر تركيزًا على النشاط الطلابي، حيث طالبت بتقييد حرية التعبير داخل الحرم، وملاحقة الحركات الطلابية التي تتهمها بـ”معاداة السامية”، وهي تهمة باتت تُستخدم، مرة بعد أخرى، في خلط متعمّد بين أتباع الديانة اليهودية وبين حملة الجنسية الإسرائيلية بوصفهم ممثلين لكيان سياسي.

وقد بدا أن مجلس أمناء الجامعة قد أذعن فعليًا لمطالب إدارة ترامب، وذلك بعد سلسلة اجتماعات عقدها مع ممثلين عن السلطات الفيدرالية، أعلن في أعقابها أن هذه المطالب “تتفق تمامًا مع سياسة الجامعة وقيمها”، ونتيجة لذلك، أعلنت الجامعة عن تعيين 36 موظفًا أمنيًا يتمتعون بصلاحيات تخوّلهم اعتقال المتظاهرين وفضّ التجمعات الاحتجاجية داخل الحرم الجامعي.
شملت الإجراءات أيضًا فرض قيود صارمة على أماكن التظاهر، ومنع تغطية الوجوه خلال الاحتجاجات، إلى جانب اعتماد عقوبات تأديبية بحق المخالفين. وأبلغت الجامعة إدارة ترامب بتفاصيل هذه الخطوات، ومن ضمنها اللجوء إلى المجلس التأديبي وفصل أو طرد الطلبة المشاركين في الاحتجاجات.
كما أقدمت الجامعة على إجراء تغييرات جوهرية في المناهج التي تتناول قضايا الشرق الأوسط، إلى جانب إعادة النظر في تركيبة الهيئات التدريسية المشرفة على هذه المواد، بزعم ضمان “حيادية الجامعة”، ما أثار غضبًا واسعًا في أوساط الطلبة والكادر الأكاديمي، بل وامتدّ ليشمل قطاعات واسعة من المجتمع المحلي المحيط بالجامعة.
لم يكن هذا التحول في سياسة جامعة كولومبيا وليد اللحظة، بل جاء امتدادًا لتغيّرات سابقة بدأت تتشكل منذ أن أصبحت الجامعة بؤرةً لانتفاضة الطلبة في ربيع العام الماضي، ففي تقرير نُشر صيف العام ذاته، قدّمت إدارة الجامعة تعريفًا خاصًا لمعاداة السامية، بوصفها “تصرفات تنطوي على تمييز أو كراهية أو عنف ضد اليهود، بما في ذلك اليهود الإسرائيليين”.
وقد انطوى التقرير، الذي رصد ما اعتبرته الجامعة “حالات معاداة للسامية” تعرض لها طلاب يهود وإسرائيليون خلال موجة الاحتجاجات، عددًا من التوصيات التي تهدف إلى تقويض تلك التحركات ومحاسبة القائمين عليها، وشملت استحداث برامج تدريبية لـ”مناهضة معاداة السامية”، وتخصيص منح دراسية لهذا الغرض، إلى جانب الإعلان عن إنشاء مركز أبحاث جديد يُعنى بالدراسات اليهودية والإسرائيلية داخل الجامعة.
حملة من الفوضى والسلطوية
وفقًا لتقرير أعدته منظمة “Inside Higher Ed” المتخصصة في شؤون التعليم الجامعي في الولايات المتحدة، ساد الذهول مجالس إدارات الجامعات مع إطلاق إدارة ترامب شرارة حملاتها في جامعة كولومبيا، وما تبعها من تجميد للتمويل الفيدرالي المخصص لجامعة هارفارد.
ويشير التقرير إلى أن ما جعل حملة إدارة ترامب صادمة ومسببة للفوضى وعدم اليقين في أوساط التعليم العالي، هو اتساع نطاقها، فقد تميزت الحملة ليس فقط بالقطع المفاجئ والكبير في التمويل، مما أدى إلى شلل كامل في بعض الأقسام الجامعية، بل أيضًا بطبيعة التحقيقات والجهات الرسمية التي تولتها.
وللمرة الأولى في التاريخ المعاصر للمؤسسات الأكاديمية، لم تقتصر التحقيقات على وزارة التعليم، بل شملت أيضًا وزارات الدفاع والعدل والصحة والطاقة، ما يشي بطبيعة أمنية للحملة، ذات أبعاد اقتصادية وسياسية، بعيدة عن الأهداف الأكاديمية التقليدية لهذه الجامعات.
تفتقر تهديدات إدارة ترامب بقطع التمويل الفيدرالي عن الجامعات إلى وجود آليات واضحة للتحقيق أو تبرير أو تقديم مسوغات قانونية يمكن الاعتماد عليها لمواجهة هذه القرارات في ساحات القضاء أو خارجه، إذ يبدو أن الإدارة تتبع نهجًا سلطويًا من شأنه أن يعيد رسم خارطة التعليم العالي في الولايات المتحدة لسنوات قادمة.

ما يزيد من حدة الفوضى أن الجهة المسؤولة عن اتخاذ قرارات تجميد التمويل لا تزال غير معروفة حتى الآن، في مشهد يعكس الارتباك في آلية صنع القرار داخل إدارة ترامب، مع تورط جهات غير مختصة بالتعليم العالي، في حين أن القانون يحدد أن هذه المهمة يجب أن يتولاها مكتب الحقوق المدنية التابع لوزارة التعليم.
علاوة على ذلك، تجاوزت حملة الإدارة الحالية القوانين الفيدرالية والتوجيهات المنظمة لعملية تجميد التمويل، التي تلزم بإجراء تحقيقات نزيهة وجدية، وإعطاء المؤسسات التعليمية فرصة للدفاع عن نفسها وتصحيح سياساتها بما يتفق مع متطلبات القانون. بالمقابل، تكتفي إدارة ترامب باستخدام مصطلح “التحقيق” جزافًا بصورة عامة ودون التزام فعلي بالإجراءات القانونية أو الكشف بشفافية عن الجهات المعنية بإجراء التحقيق واتخاذ القرار.
أمام هذا المشهد، تجد الجامعات نفسها محاصرة في دائرة من الابتزاز: إما الإذعان لمطالب الإدارة أو مواجهة خطر فقدان التمويل، وهو مسار لم تشهده المؤسسات التعليمية الأمريكية حتى في أكثر الفترات السياسية حساسية مع إدارات سابقة.
يمتد تأثير الضغط الفيدرالي على مؤسسات التعليم العالي إلى ما هو أبعد من مسألة التمويل المباشر؛ رغم أن ورقة التمويل تظل أداة تأثير بعيد الأمد، خصوصًا على مؤسسات الأبحاث، لا سيما تلك التي تركز على التجارب السريرية المتعلقة بأمراض السرطان، وتأثيرات البيئة والتلوث على الصحة العامة، وتجارب الأدوية والغذاء، وغيرها من المجالات الحيوية التي تتطلب تمويلًا ضخمًا لا تستطيع صناديق الائتمان والاستثمار والأوقاف الجامعية تغطيته لفترات طويلة مهما بلغت قيمتها.
يزداد الأمر تعقيدًا نظرًا للاعتماد شبه الكامل للجامعات والكليات والمعاهد الحكومية على التمويل الحكومي بمستوياته المختلفة: الفيدرالي، وحكومات الولايات، والحكومات المحلية، على خلاف الجامعات الخاصة التي تستند إلى مزيج من التبرعات الخيرية، والأعمال الوقفية، وأقساط الطلاب في تغطية نفقاتها.
لا تقتصر خطورة هذا الضغط على الشأن الأكاديمي فقط، إذ إن الإسهامات البحثية لمؤسسات التعليم العالي تمتد لتغطي مجمل قطاعات الاقتصاد الأمريكي، بما فيها الطب والتكنولوجيا والصناعات المدنية والعسكرية.
ومن ثم، فإن محاصرة هذه المؤسسات أو تقويض دورها يحمل تهديدًا طويل الأمد ليس فقط للاقتصاد الأمريكي، بل للأمن القومي أيضًا، عبر حرمان المجتمع الأمريكي من أحد أهم مصادر الإبداع والتفوق العلمي والتقني.
ملهمي ترامب من أقصى اليمين
تبرز أوجه التشابه الكبيرة بين الحملة الشرسة التي تشنها إدارة ترامب على مؤسسات التعليم العالي والطلبة الدوليين، وبين التوصيات الواردة في مشروع “2025” الذي صاغته منظمة “التراث” (Heritage Foundation)، إحدى أبرز المنظمات اليمينية المتطرفة. ويتألف المشروع من نحو 900 صفحة تفصّل السياسات المقترحة لإعادة هيكلة أقسام ووزارات الحكومة الفيدرالية ضمن رؤية محافظة متشددة.
وبحسب تحقيق أجرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن أكثر من نصف القرارات التنفيذية التي أصدرها ترامب تتطابق مع توصيات مشروع “2025”، أما في قطاع التعليم العالي تحديدًا، فقد نفذت إدارة ترامب حتى الآن ما لا يقل عن ثلث التوصيات الخمسين المتعلقة بهذا القطاع، سواء بشكل كامل أو جزئي.
وتتطلب بقية التوصيات تدخلًا تشريعيًا من قبل الكونغرس أو خطوات إدارية إضافية من وزارة التعليم، مما يعني أن تنفيذها الكامل يحتاج إلى وقت أطول، وقد دفع هذا الأداء السريع مدير المشروع السابق، بول دانز، إلى التصريح بأن ترامب “تفوق على أكثر أحلامنا جموحًا خلال أسابيع معدودة”.
ومن بين أبرز التوصيات التي تعمل إدارة ترامب على تنفيذها في قطاع التعليم العالي: خصخصة القروض الطلابية التي تبلغ التزامات الحكومة الفيدرالية بشأنها نحو 110 مليارات دولار، وإلغاء برامج العفو الجزئي عن هذه القروض، وفرض ضرائب على الأصول المالية للجامعات الأمريكية، والعمل على تفكيك وزارة التعليم الفيدرالية، لتحويل مسؤولية العملية التعليمية إلى الولايات منفردة دون وجود مرجعية فيدرالية موحدة.
لم يكن مشروع “2025” المصدر الوحيد الذي استلهمت منه إدارة ترامب سياساتها تجاه مؤسسات التعليم العالي؛ إذ اعتمدت أيضًا على توصيات الحزب الجمهوري المتعلقة بالتعليم العالي، التي جاءت ضمن وثيقة من ستة عشر صفحة تحدد معالم السياسات المقترحة لجعل الجامعات “أماكن آمنة ووطنية مرة أخرى”، بحسب نص الوثيقة.
وتضمنت التوصيات بنودًا تدعو إلى ترحيل “داعمي حماس الراديكاليين”، وتحسين سياسات مناهضة معاداة السامية، إضافة إلى مقترحات تتعلق بالرياضات الجامعية، وثقافة التعامل مع قضايا المتحولين جنسياً.
علاوة على ذلك، استندت الإدارة في صياغة خططها إلى مقال مطول للباحث ماكس إيدين، الباحث السابق في معهد “أمريكان إنتربرايز” المحافظ، والذي يعمل حاليًا موظفًا في البيت الأبيض، وفيه يفصّل كيف يمكن للإدارة استخدام التمويل الفيدرالي كأداة ضغط لإجبار إدارات الجامعات على الانصياع لمطالبها.
بما في ذلك إنهاء برامج التنوع العرقي، والتضييق على الطلبة الأجانب، وغيرها من السياسات التي تهدف إلى تقييد استقلالية التعليم العالي وتحويل بيئته الليبرالية المفتوحة إلى بيئة أكثر محافظة وتشددًا.
تحالف الجامعات دفاعًا عن الاستقلالية
كان لموقف جامعة هارفارد الشجاع تأثير ملهم على بقية مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة، إذ شكلت منارة لجامعة كولومبيا وعشرات الجامعات الأخرى لتوحيد صفوفها في مواجهة مطالب إدارة ترامب، فما إن كشفت هارفارد عن تحديها للإدارة حتى سارعت رئيسة جامعة كولومبيا المؤقتة، كلير شيبمان، إلى إرسال رسالة إلكترونية إلى مجتمع الجامعة تؤكد فيها أن كولومبيا لن تسمح بأي تدخل حكومي سافر في سياساتها، وأنها ستقاتل للحفاظ على استقلاليتها وحرية التعليم فيها.
ولم تكتفِ هارفارد برفض الضغوط الترامبية، بل بادرت إلى رفع دعوى قضائية ضد الإدارة الفيدرالية، متهمة إياها بتجميد تمويلها بشكل غير مشروع، وأثارت الجامعة دفوعًا دستورية تتعلق بحقها في الاستقلالية وحرية التعبير، مؤكدة أن التدخل الحكومي من شأنه أن يقوض سياساتها الداخلية.

كما أشارت في دعواها إلى أن عملية التحقيق المزعومة افتقرت إلى الشرعية ولم تلتزم بالإجراءات التي أقرها الكونغرس قبل اتخاذ قرار بتجميد التمويل، معتبرة أن الإدارة الحالية قد تجاوزت الصلاحيات الممنوحة لها بموجب الدستور.
وتعد هذه الخطوة اختبارًا حقيقيًا لحدود التدخل الحكومي في التعليم العالي، تقوده واحدة من أعرق الجامعات الأمريكية، صاحبة أكبر صندوق وقفي في البلاد بقيمة 53 مليار دولار.
ومع تصاعد المواجهة بين هارفارد والإدارة الأمريكية، أدركت الجامعات الأصغر أنها بدورها عرضة لخطر حملة “الهندسة السياسية” التي تقودها إدارة ترامب لإعادة تشكيل التعليم العالي بما يتفق مع رؤيتها المحافظة.
ونتيجة لذلك، وقعت أكثر من مئتي جامعة وكلية ومعهد عالٍ، من بينها جامعة كولومبيا وجامعات نخبة أخرى، بيانًا جماعيًا يرفض تدخل إدارة ترامب في استقلالية مؤسسات التعليم العالي، ويعلن دعم هذه المؤسسات الكامل لهارفارد في معركتها القضائية ضد الإجراءات الحكومية التعسفية.