بعد 55 عامًا على رحيله، يعود الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر (1918-1970) للمشهد مجددًا، مستحوذًا على الأضواء والأحاديث الصحفية والتلفزيونية واهتمامات منصات التواصل الاجتماعي، لكنها العودة التي تنسف بشكل كبير تلك الصورة التي استقرت في الذاكرة الجمعية العربية.
قبل أيام قليلة وبشكل مفاجئ وبدون إنذار أو تمهيد مسبق، ظهر تسريب صوتي لعبدالناصر يجمعه والزعيم الليبي معمر القذافي (1942-2011)، نٌشر على قناة تحمل اسم (nasser tv) عبر منصة يوتيوب، كان الحديث فيه عن دولة الاحتلال ومحاربتها وكيفية استرداد الأراضي المحتلة والانقسام العربي بشأن مواجهة تل أبيب.
التسريب الذي يعود تاريخه إلى الثامن من أغسطس/آب 1970، أي قبل وفاة عبد الناصر بشهر واحد فقط، واستمر أكثر من 17 دقيقة أظهر الزعيم المصري عكس الصورة التي رُوج لها عنه تاريخيًا، منكفئًا على مصريته، ضاجًا بعروبته، ساخطًا على الأجواء الإقليمية المتواجدة آنذاك، موجها انتقادَا لاذعًا لمن يزايد على مصر بشأن الحرب مع “إسرائيل”، مؤكدًا أنه لن يحارب “ومن يريد أن يحارب فليأتِ ويحارب”.
وأكد عبدالناصر خلال حواره مع القذافي على ضرورة تغليب البرغماتية في التعامل مع تل أبيب، مشددًا على أنه لن يضحي بأولاده في حرب مع عدو يمتلك القوة ومدعوم من الولايات المتحدة، وأن الأفضل من وجهة نظره هو الحل السلمي والارتضاء بالحلول الدبلوماسية البطيئة، حتى لو كان المقابل الاعتراف بدولة الكيان المحتل، فيما بدا ساخطًا على الجميع، حكومات عربية وفصائل فلسطينية.
على قدر محاولة التعاطي مع هذا التسريب على أنه شيء عادي ومُستساغ ويعكس صورة رجل الدولة الحريص على أبنائه، كما يحاول الناصريون أن يروجوا وعلى رأسهم نجل عبدالناصر الأكبر( عبدالحكيم)، إلا أنه كان صادمًا للكثير من المراقبين، وذلك من زاويتين أساسيتين، الأولى تتعلق بالتوقيت الحساس الذي خرج فيه هذا التسجيل من ثلاجة النسيان.
والثانية بتحويل المشهد إلى معركة سرديات، حيث تسعى بعض الأطراف قراءة الماضي بلغة تخدم المواقف السياسية الراهنة، وكأنه محاولة شرعنة للتوجهات المثيرة للجدل حاليًا بشأن الموقف العربي المتخاذل إزاء الحرب في غزة والتي قوبلت بموجة انتقادات لاذعة واتهامات بالتواطؤ والخيانة.. ونحاول هنا من خلال بعض الأسئلة فك طلاسم هذا الجدل من كافة جوانبه.
السؤال الأول: هل التسريب صحيح؟
منذ اللحظة الأولى لبث التسريب خرج الناصريون يشككون في صحته، ويدعون تزييفه، وأنه مفبرك، وأن عبدالناصر صاحب الفكر القومي والعقيدة التحررية، من الصعب أن يقول كلاما كهذا، كما جاء على لسان القيادي الناصري المعروف ونقيب المحامين السابق، سامح عاشور، الذي قال إن “الحديث عن تسجيل صوتي منسوب للرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعد أكثر من خمسة وخمسين عامًا على وفاته، أمر لا يستند إلى أي أساس منطقي أو واقعي”.
عاشور ألمح إلى تدخل تقنية الذكاء الاصطناعي في هذا الأمر، موضحا أن ما أسماه صناعة الفيديوهات أو الأصوات المفبركة أصبحت سهلة للغاية حاليًا، مشددًا في الوقت ذاته على أن عبدالناصر كان له أعداء كثيرون، سواء على مستوى الأفراد أو الدول وهم من لهم مصلحة في تشويه صورته، بحسب تصريحاته لصحيفة “المصري اليوم” المحلية.
وادعى القيادي الناصري البارز أن “توقيت نشر هذا التسجيل يثير الكثير من الريبة، خاصة في ظل حالة الاصطفاف الوطني التي يعيشها الشعب المصري حاليًا لمواجهة الضغوط الصهيونية والأمريكية بشأن قضية التهجير القسري”، منوها أن “إسرائيل” هي صاحبة المصلحة المباشرة في نشر وترويج مثل هذه الادعاءات.
قال عبدالحكيم جمال عبدالناصر نجل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إن "بعض المنظمات الفلسطينية التى انتقدت عبدالناصر هى نفس المنظمات التى وقعت على اتفاق أوسلو" وهو اتفاق سلام وقعته منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993.
وأضاف عبدالحكيم في حديث صحافي مع صحيفة "الشروق"… pic.twitter.com/j6JWIGyxJR
— Asharq News الشرق للأخبار (@AsharqNews) April 28, 2025
لكن في المقابل خرج عبد الحكيم عبدالناصر نجل الرئيس الراحل، ليقطع الشك باليقين ويحسم الجدل في هذا الأمر، مؤكدًا أن التسريب صحيح وأن محضر هذا اللقاء موجود في مكتبة الإسكندرية منذ أن قامت أسرة عبدالناصر بإهدائها العديد من أوراق عبد الناصر الخاصة والعامة.
لم يكتف نجل ناصر بتأكيد صحة التسريب فقط بل دافع عما جاء فيه، خلال حديثه لرئيس تحرير صحيفة “الشروق” المصرية، مشددًا على أنه كشف أن والده “كان رجل دولة وليس زعيما حنجوريا كما يعتقد البعض”، لافتا إلى أن مثل هذه التسجيلات لا تقلل من قيمة عبدالناصر.
وبسؤاله عن المستفيد من بث هذا التسجيل في هذا الوقت، أجاب:” المستفيد هو الحقيقة المجردة، وحتى لا يخرج أي أحد ويقول:” قاللى وقولتله”!!، وهو فرصة مهمة أن تعرف الأجيال الجديدة التاريخ بصوت أصحابه بعيدا عن الادعاءات”.
ورغم أن الكثير من الشهادات الواردة والموثقة عن المقربين من عبد الناصر، أصدقاء كانوا أو خصوم، لم تُظهر، لا من قريب أو بعيد، أن تملكت منه الانهزامية والاستسلام الذي تضمنته هذا التسريب بهذه الصورة الفجّة التي يكفر بسببها بالعروبة والقومية التي عاش لأجلها ومات في سبيل تعضيد الوحدة العربية بين الأشقاء، وهنا مسألة أخرى جدلية تحتاج إلى دراسة وتقصي.
السؤال الثاني: تاريخيًا.. هل يحمل هذا التسجيل جديدًا؟
بعد التيقن من صحة هذا التسريب، والعهدة هنا على نجل عبدالناصر، يبقى السؤال: هل ما جاء في هذا التسجيل يحمل جديدًا على مستوى الأحداث التاريخية؟ بمعنى أخر هل هناك من معلومات لم تكن معروفة وردت في هذا المقطع أحدثت كل تلك الضجة؟
بحسب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة، محمد عفيفي، فإن التسريب من الناحية التاريخية لا يتضمن أي جديد يُذكر، مضيفًا أن عبدالناصر فعليًا كان يسعى إلى الدخول في مفاوضات مع تل أبيب قبل مبادرة وزير الخارجية الأمريكية وليام روجرز.
ونوّه في تصريحات له أن الجيش المصري كان يعاني في ذلك الوقت من مشكلة نقص الطيارين، وعليه استعانت الدولة المصرية بالخبراء والطيارين الروس بهدف حماية الجبهة الداخلية من الغارات الجوية الإسرائيلية التي كانت تستهدف المنشآت المدنية بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي والتي كان من الممكن أن تؤدي إلى انقلاب الرأي العام ضد النظام المصري وقتها.
وأوضح عفيفي أن في تلك الفترة لم يكن عبدالناصر قادرًا على شن حرب شاملة ضد “إسرائيل”، إذ كان للتو قد انهى حرب الاستنزاف التي استنزفت قدرات الجيش وعليه كان مشغولا بإعادة بناءه، متجنبًا توريطه في أي حرب أو تصعيد عسكري يقضي على ما تبقى منه، موضحا أن الرئيس المصري كان على خلاف آنذاك مع الأنظمة الثورية العربية التي خرجت للنور حينها، مثل نظام القذافي في ليبيا، والنظام الجديد في العراق، واليمن الجنوبي، تلك المدفوعة بحماس الثورات والانقلابات.
واختتم أستاذ التاريخ الحديث بالإشارة إلى أنه بعد هزيمة 1967 أصبح عبد الناصر أكثر واقعية وبرغماتية في تفكيره السياسي والعسكري مقارنة بما كان عليه الموقف قبل ذلك، “وبالتالي، ما ورد في هذا التسجيل لا يحمل جديداً بالنسبة إلى من يدرسون التاريخ السياسي والعسكري لتلك الفترة” وفق تعبيره.
السؤال الثالث: هل كان التوقيت مصادفة؟
أن يتم استدعاء مقطع تم تسجيله قبل 55 عامًا، ولشخصية بحجم وقيمة وثقل الرئيس المصري جمال عبدالناصر، ومحتوى مثير للجدل كهذا، وأن يعاد بثه اليوم في هذا الظرف الحساس عربيًا، فهي خطوة من الصعب أن يتم تمريرها على أنها مصادفة، إذ أنها من المؤكد ليست كذلك، وهو ما أثار الريبة ودفع بالكثير من علامات الاستفهام لأن تطل برأسها باحثة عن إجابة.
أن يُبث هذا التسريب في وقت تعيش فيه الساحة العروبية أوهن محطاتها التاريخية، حيث الانبطاح الكامل أمام الإملاءات الإسرائيلية، والخذلان الفاضح في التعاطي مع القضية الفلسطينية ممثلة في المشهد الغزي، وتصاعد الخطاب الشعبي العربي الناقم والحانق على الأنظمة والحكومات العربية المتخاذلة والمتهمة بالتواطؤ حد الخيانة فيما يشهده أهل غزة من حرب إبادة على مدار أكثر من عام ونصف من القتل والتهجير والحرق والحصار المطبق.. فهذا ليس بمصادفة.
أن يتزامن هذا التسجيل مع اقتراب الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنطقة، والتي يتوقع معها أن تحمل إملاءات جديدة على الحكومات العربية بخصوص القضية الفلسطينية والتطبيع مع دولة الاحتلال، والتمهيد المسبق لهذا الأمر إعلاميًا هنا وهناك، فهذا هو الأخر لا يمكن تمريره على أنها صدفة بحتة.
✍️ محمد هنية:
الظهور المفاجئ للتسجيل النادر بين الرئيسين #جمال_عبد_الناصر ومعمر #القذافي في هذا التوقيت، وبعد 55 سنة، وقبل زيارة الرئيس #ترامب والمتوقع أن تشهد إملاءات على الحكومات العربية بخصوص القضية الفلسطينية يثير الريبة الشديدة؟
• فهل تسعى الجهة التي تقف وراء هذا التسريب… pic.twitter.com/kfSf0aoVnX— د. محمد دخوش (@MuhDakhouche) April 27, 2025
السؤال الرابع: ما الرسائل التي يحملها هذا التسريب؟
المقطع الذي تجاوز 17 دقيقة حمل العديد من الرسائل السياسية الهامة أبرزها:
- التشكيك في مسألة الوحدة العربية والاتفاق على قلب رجل واحد في مواجهة القضايا المصيرية والتي على رأسها القضية العروبية الأم، القضية الفلسطينية.
- عدم التعويل على الأنظمة العربية في نصرة القضية الفلسطينية واسترداد حقوق الشعب الفلسطيني.
- ترسيخ مفاهيم الواقعية السياسية والميل نحو البرغماتية بعيدًا عن الشعارات والمبادئ القومية العروبية التي اعتاد الشارع العربي على رفعها لسنوات طويلة.
- تغليب المسار التفاوضي السياسي بديلا للصدام في التعامل مع تل أبيب، والميل نحو فتح قنوات اتصال معها – التطبيع بصورته الحالية- بدعوى حقن دماء العرب وتجنيبهم ويلات الحروب.
التسريب الذي خرج للرئيس الراحل جمال عبدالناصر بالأمس
هدم كل ما قيل عن تمسك عبدالناصر بالقضية الفلسطينية وعن حلمه بوحدة عربية
وإسقاط كل الحنجوريات الفارغة التي دعها لسحق إسرائيل
فماذا يقول الناصريين اليوم؟
والسؤال الاهم هل سرب النظام هذا التسريب لتبرير تنسيق السيسى مع الاحتلال… pic.twitter.com/GWExY4aRIB— حزب تكنوقراط مصر (@egy_technocrats) April 27, 2025
- تمرير السردية التي تعظم من قدرة الكيان المحتل مقارنة بالقدرات العربية، على الأقل عسكريًا، الأمر الذي يجعل من الصعب عربيًا الدخول في مواجهة مسلحة مع الإسرائيليين، بمعنى أخر ترسيخ سياسة الرضوخ وتعزيز ثقافية الانهزامية.
- التأكيد على أن العجز العربي تجاه القضية الفلسطينية ليس مسألة حديثة، بل هي ضاربة بجذورها في عمق التاريخ منذ عقود طويلة، وعليه لا تتحمل الأنظمة الحالية هذا الوزر منفردة.
- تشجيع الأنظمة العربية على انتهاج مقاربات تفاوضية دبلوماسية مع الاحتلال، والابتعاد عن مرتكزات المقاومة والصمود، والانتصار للاستراتيجية الوطنية على حساب الاستراتيجية العروبية القومية.
السؤال الخامس: هل من تأثير لتلك الرسائل على الوعي الجمعي العربي؟
كثير من الناصريين أشاروا إلى أن ما تضمنه التسريب يصب في صالح تجميل الصورة الذهنية المأخوذة عن عبدالناصر تاريخيًا، كرجل دولة يدافع عن شعبه ويؤمن بقضايا أمته ويبذل الغال والنفيس لأجل حقوق الشعب الفلسطيني، ويستشيط غضبًا من خذلان بقية الأنظمة والفصائل التي تتعامل مع الملف بحماسة غير واقعية مما لذلك من ارتدادات كارثية على الجميع.
لكن في المقابل هناك من قفز سريعًا من مركب التمجيد تلك، وارتأى النزول مجدفًا في ماء الواقعية، محذرًا من خطورة مثل هذا التسريب على الوعي الجمعي، حيث مخطط إعادة التشكيل، والتمهيد بخطوات مدروسة لتقديم المزيد من التنازلات العربية تجاه القضية الفلسطينية، عبر الإيهام بأن رمز العروبة وحامل مشعلها الأول جمال عبد الناصر كان مستعدًا قبل أكثر من 5 عقود لتقديم مثل تلك التنازلات والدخول في صفقات وتفاهمات ومفاوضات مع دولة الاحتلال.
بعض النشطاء وصفوا هذا الأسلوب بـ “هندسة الوعي الجمعي” وذلك عبر استحضار مواقف رمزية لزعامات قومية في ظروف سياسية حساسة لتوجيه رسائل محددة، معتبرين أن الهدف الرئيسي من نشر هذا التسجيل في هذا التوقيت بالغ الحساسية إنما هو تبرير لخطوات سياسية قد يتم اتخاذها قريبًا مثل التطبيع أو تقديم تنازلات حول القضية الفلسطينية.
السؤال الأخير: من المستفيد من هذا التسريب؟
لفهم كواليس ما يحدث، ومحاولة فك طلاسم المشهد، يقولون في المثل: فتش عن المستفيد، وهي القاعدة التي يمكن تطبيقها على تلك التسريبات، بداية من مصدرها وهو نجل الرئيس الراحل، والذي لم يتوانى مطلقًا- لا هو ولا عائلته- في أي مناسبة كانت أن يستدعي إرث والده لتمرير وتبرير قرارات وسياسات آنية، حتى لو كان الثمن تلويث سمعة والدهم وحرق قميص أخر الأنبياء كما وصفه الشاعر السوري نزار قباني.
استدعاء تاريخ ناصر لخدمة حاضر النظام الحالي باتت سمة رئيسية في السنوات الأخيرة، ظاهرة تورط فيها أبناء الزعيم الراحل بصورة مثيرة للجدل، فعلوها قبل ذلك أكثر من مرة أبرزها حين تنازلت مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، حيث خرجت ابنته هدى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة لتؤكد أنها “عثرت بالصدفة المحضة على وثيقة لوزارة الخارجية بتاريخ 20 مايو 1967، قبل إغلاق خليج العقبة بيومين، صادرة عن إدارة شؤون فلسطين في وزارة الخارجية تؤكد أن تيران وصنافير سعوديتان”.
الكاتب الصحفي المصري وائل قنديل، يرى أن التعرف على المستفيد من خروج تلك التسريبات من أرشيف الذكريات الناصرية بذات المضمون وفي هذا التوقيت “الذي تتهيأ فيه المنطقة للانتقال من حالة عربية تعادي الاحتلال الصهيوني إلى حالة شرق أوسطية تتعاون فيها معه وتذعن لهيمنته عليها” ليست عملية صعبة.
سواء كان تسريب التسجيل الصوتي بين الزعيم جمال عبد الناصر ومعمر القذافي مفبركًا أو مقتطعًا من سياقه الزمني أو من حديثه العام، فإن الهدف يبقى واحدًا: تبرير التطبيع والخنوع العربي اللامتناهي.
— عادل السعيد (@AlsaeedAdil) April 28, 2025
موضحا في مقال له أن المستفيد الأبرز من هذا الأمر “هو نظام عربي انتهى” وبات على بعد أمتار قليلة من التخلص من كل من يتخذ المقاومة سبيلا لانتزاع الحقوق، هذا النظام الذي احتفى بمقتل رموز المقاومة واحدًا تلو الأخر، “ولم يعد باقياً من مسبّبات الإزعاج سوى ظلال الرموز القديمة التي رفعت شعارات مثل “لا صلح لا اعتراض لا تفاوض”، و”ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة”، فلنحرق رموز الماضي كما أحرقنا الحاضر المقاوم”.
وبشكل أكثر وضوحًا رأى أخرون أن هذا التسريب قد يكون مدفوعاً برغبة جهة ما في التأكيد على أن الواقعية المصرية في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي وتجنب الصدام والميل نحو التفاوض وفتح قنوات اتصال مع الاحتلال مهما كان الثمن، وهو ما يفعله النظام الحالي بقيادة عبد الفتاح السيسي، استراتيجية ليست جديدة، بل تضرب بجذورها في عهد جمال عبد الناصر نفسه، ما يضفي نوعاً من الشرعية التاريخية على النهج الحالي.
لكن يبقى السؤال: مثل تلك التسريبات، بصرف النظر عن صحتها، هل يمكنها أن تكون مبررًا لتمرير الخذلان العربي الفاضح إزاء الفلسطينيين وهم يتعرضون لحرب إبادة تستنهض كل صاحب ضمير إنساني ناهيك عن كونه عربي، مسلم كان أو مسيحي؟ هل يمكن لتلك المقاطع -وإن كثرت- أن تقدم شرعية تاريخية لانبطاح الحكومات العربية أمام المحتل الإسرائيلي ومسوغًا للاستمرار في هذا العار؟.
المؤكد في هذا الأمر أن هذا التسريب وعشرات الالاف غيره، صحيحًا كان أو مزيفًا، لن ينجح في زحزحة الوعي الجمعي العربي عن مقاربته العروبية القومية، ولن يستطيع مهما أوتي من مخططات التمرير والترويج لتلك السرديات الانهزامية أن يعيد تشكيل المزاج الشعبي العربي الرافض للمحتل شكلا ومضمونا، والمؤمن تمامًا أن القضية الفلسطينية شرف هذه الأمة، وأن “إسرائيل” عدوها الأبرز، وأن المقاومة حتى تحرير كامل الأرض هي الغاية والعقيدة التي لا يمكن النكوص عنها مهما بدت الصورة قاتمة.