في عام ٢٠١٠، ومع الاعتصام الذي قام به العاملون بموقع إسلام أون لاين إثر التغيرات الإدارية التي حدثت فيه، كتبت تدوينة صغيرة بعنوان “جيلنا حين يحلم” .. كنت حينها مأسورا بانتماء ما لجيل ما لم تتحدد ملامحه وإن كنت أعرف محيطي منه ممثلا في بعض الجماعات الأدبية أو لقاءات قهوات وسط البلد أو زيارات الساقية أو المكتبات التي باتت تمثل حالة ثقافية شابة في بلد كل شيء فيها قد شاخ شيخوخة الوهن ولا شيخوخة الحكمة!.
ولأنني في مصر لم يفارقني إحساس الغربة عن محيطي أيا كان، عملا بالعبارة التي كتبتها في إشراق والتي عبرت بدقة عني في تلك الفترة : “حين تولد غريبا في بلد فإن غربتك تصحبك أينما رحلت لا يمحوها عنك العودة حيث يدونون لك وطنك ولا البقاء حيث تدون وهما وطنا ليس لك” ،، ـ واستطرادا أقول هنا إن رحلتي لإيران في ٢٠١١ هي ما محا عني إحساس الغربة كله، وصالحني على الجغرافيا كلها ـ نرجع لموضوعها ،، فسواء دوائر الإخوان التي وجدت نفسي قريبا منها مع أيامي في مصر بحكم التربية والنسب عام ٢٠٠٠ أو تلك التي بدأت أكتشفها مع تحرري قليلا من قيود الدراسة المنتظمة مع بداية عام “الامتياز” الذي تعرفت فيه أكثر على القاهرة وتجمعاتها كان كل هذا غريبا علي غير قادر على إقناعي بانتمائي لأي منه.
بين عامي ٢٠٠٥ و ٢٠١٠ عرفت مصر أكثر، بدأت رحلاتي فيها وبدأت علاقاتي خارج إطار كلية الطب بجامعة المنصورة، ولذكر الكلية بمدينتها دلالة أعنيها إذ أنه وقبل عام ٢٠٠٥ لم تكن كلية طب المنصورة سوى نموذج اجتماعي وفكري لعموم الأقاليم المصرية، هي ليست القاهرة ولا عين شمس، هي كلية من كليات الأقاليم غالب طلبتها من ربوع الدقهلية البسيطة، تدرك ذلك حين تراجع صورا أخذت في السنة الأولى لأي كلية .. صورا تنضح بالريفية وإن تزيت بأزياء المدن وبدا عليها أنها أول تشقق شرنقة الريف عن كائنات ستحولها الجامعة بعد ذلك لمصريين أوغاد كل على حسب كليته وجامعته، والأقاليم أوغادها أقل بالضرورة .. فدي ميزة من ميزات المنصورة” .. ربما مع توسع جامعة المنصورة اقتصاديا ببرامج موازية كشراكة كلية الطب بجامعة مانشستر أوفدت للمدينة الهادئة شرائح جديدة ،، كما يمكننا أن نؤرخ لبدء ظهور حراك ثقافي “دون التعليق على مضمونه أو درجته” في المنصورة بعام ٢٠٠٥ وما حولها “+ / ” لاعتبارات سنمر عليها بالتأكيد .. المهم أن تعرفي على مصر “جغرافيا وبشرا” بدأ في عام ٢٠٠٥ وبدأ من القاهرة المدينة الأكثر سوءا وكآبة في خاطري منذ عرفتها وإلى اليوم ،، وليس للوصف علاقة بأي من الأحداث التالية بعد ذلك.
كان مجرد وصولي إلى القاهرة مؤذنا بانطفاء الروح الذي كنت بالأساس أرحل بحثا عنه، ولولا إضاءات نفسية لعلاقات شخصية تشكلت رويدا رويدا فيها ما تحملت هذه الزيارات ولا رغبت فيها.
على مستوي العمل، كان أول مكان خاص بت فيه طبيبا وأنا في امتياز هو مجمع عيادات حقير في منطقة اسمها “بشتيل” من خرائب الجيزة ،، لتكتمل الصورة توقف لحظة وتذكر أني محمد المولود في بلاد العرب، والذي عاش حياته في المدينة المنورة ثم نزل بالطائرة على كلية الطب بالمنصورة ،، ثم هو الآن يبيت وحده وقبل أن يدخل الجيش حتى أو يرحل إلى قنا .. يبيت في بشتيل !
هذه حكاية أخرى قد أحكيها يوما ،، أما الآن فأنا أحاول أن أرمي الخطوط العامة للوحة أحب أن أرسمها للسنوات السابقة على ٢٠١١ وأكمل منها رؤيتي “الشخصية جدا” لهذا الضجيج الذي عم فلم يسمع فيه أحد شيئا ..
وأزعم أن زاويتي زاوية مراقب لم ينتمي انتماءا كاملا لأي من مكونات العالم من حوله حتى تلك الفترة، وعليه فأرجوا ألا يكون فيها تأثير قبلي يصرف اللوحة عن حريتها ،، كما أرجوا ألا تغلبني طبقيتي التي يراها بعض أصدقائي فأحمل ظالما على شيئ أو أحد.
الحكايات قد تطلب للتسلية، وقد تطلب أحيانا لتفكيك الخيوط المعقدة، ولعلني أكتفي في الفترة التالية لظروف عملي الذي يتطلب مني قدرا من تفرغ ذهني لا يسمح لي بالمتابعة التفصيلية للأحداث اليومية، بتدوين صورة مصر التي أدركتها خلال هذه السنوات لعلها ترتب شيئا من خطوط الحكاية التي عشناها والتي لم تنتهي بعد ..
ما كنت لأستخف “يعني أراه خفيفا” الكلام اليوم لولا انعزالي ما يقترب من العام بعيدا عن كل هذا الضجيج الذي كان قد أصمني، وكل ضجيج لا تتحمله الأذن بالضرورة ينتهي إلى صمم وإن كان مؤقتا، وكل ضوء شاهق يحرمك الروية في حينه، وبعده حتى تستعيد شبكيتك حيوتها.