بعد أن بات بلير مستشاراً للدكتاتورية في مصر أصبح خلعه من منصبه سفيراً للسلام في الشرق الأوسط ضرورة أخلاقية وديمقراطية.
منذ الإطاحة بأول رئيس منتخب ديمقراطياً في مصر في انقلاب عسكري قبل عام مضى والبلاد تعيش في قبضة من القمع الوحشي المستمر. قضى حتى الآن ما يزيد عن 2500 متظاهر نحبهم، وقد يكون العدد الفعلي للضحايا أكبر من ذلك بكثير، قتلوا بدم بارد في الشوارع على أيدي قوات الأمن. وزج في السجون بما لا يقل عن عشرين ألف شخص.
وحتى الآن صدر الحكم بإعدام ما يزيد عن ألف ناشط، في أجواء يمارس فيها التعذيب على نطاق واسع، وتقمع فيها الحريات الأساسية. وحكم في الشهر الماضي على ثلاثة من صحفيي الجزيرة بالسجن بتهمة “نشر الأخبار الكاذبة”. وصانع الانقلاب المصري، الجنرال عبد الفتاح السيسي، أصبح رئيساً للبلاد بعد حصوله على 96 بالمائة من الأصوات في انتخابات صورية بعد صدور حظر بحق جماعة سلفه محمد مرسي، جماعة الإخوان المسلمين.
هذا هو حال النظام الذي اختار طوني بلير، مبعوث السلام إلى الشرق الأوسط نيابة عن الرباعية (الولايات المتحدة الأمريكية، الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، وروسيا)، أن يقدم له المشورة حول “الإصلاح الاقتصادي” كجزء من برنامج تموله دولة الإمارات العربية المتحدة. ويذكر أن رئيس الوزراء البريطاني السابق كان قد أثنى على الانقلاب الذي أطاح بالحكومة المنتخبة معتبراً إياه “ضرورة حتمية لإنقاذ وطن”.
الآن، يقوم هذا الرجل الذي كان في يوم من الأيام نجم حزب العمال الجديد “بالمساعدة بما يستطيع” لكسب الدعم المالي الدولي لصالح الدكتاتورية في مصر. من الطبيعي أن هذا الرجل الذي تسعى وسائل الإعلام الغربية للحصول على آرائه حول كل شيء من أوروبا إلى الإسلام لا يسعى لتحقيق “مكاسب شخصية” من هذه المهمة وينوي عدم “جني أي مال من مصر”.
إلا أن السر يكمن في “الفرص التجارية” التي يشير إليها موظفوه في نقاشات خاصة سواء في الخليج أو في مصر والتي ستكون متاحة أمام أولئك الذين يشاركون في تقوية نظام السيسي. المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تبقيان مصر على قيد الحياة لأنهما يعتبران الإخوان المسلمين خطراً مهلكاً يتهدد وجود نظاميهما الاستبداديين.
يدفع صندوق أبو ظبي السيادي حالياً لطوني بلير مبلغاً قدره مليون جنيه استرليني في العام. يقول أحد معارف بلير الشخصيين والمقربين “لقد تم إبرام صفقة تجمع ما بين معركة وجودية تشن ضد الحركة الإسلامية وفرص تجارية يسيل لها اللعاب تقدم له مقابل خدمات أشبه ما تكون بالنصائح التي كان يقدمها لجورج بوش حول العراق”. لا عجب إذن أن يعكف طوني بلير على فتح مكتب له في الإمارات العربية المتحدة.
بالطبع جنى طوني بلير أموالاً كثيرة من العديد من الأنظمة القمعية منذ خروجه من الحكومة، ومن هذه الأنظمة قازخستان والكويت وكولومبيا، كما جنى أموالاً من بنوك ومؤسسات تجارية عدة. عمله مع دكتاتور قازخستان نور سلطان نزارباييف عاد عليه بما يقرب من 13 مليون دولار، هذا في الوقت الذي كان النظام يقمع الحريات المدنية.
وها هو اليوم يقتحم ميداناً جديداً من خلال عمله مع السيسي نيابة عن حكام الخليج المعروفين بسياساتهم القمعية. النظام المصري ليس استبدادياً فحسب، بل إن رئيسه هو الذي أطاح بالحكومة المنتخبة في محاكاة لما أقدم عليه من قبل بينوشيه سفاح تشيلي.
كما أن مصر مركزية في صراع الشرق الأوسط وحكومتها فعلياً حليف لإسرائيل. ثمة تناقض في المصالح بين عمل بلير مع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة ودوره كمبعوث سلام إلى الشرق الأوسط، وهو الدور الذي يصفه القادة الفلسطينيون بإنه إما عديم الفائدة أو ببساطة يردد كالببغاء المطالب الإسرائيلية. غدا هذا التناقض خطيراً جداً حتى بات على مشارف السريالية.
نحن بصدد سياسي كان بمثابة رأس حربة غزو العراق بحجج ثبت بطلانها تماماً وبتكلفة تجاوزت نصف مليون شخص قضوا نحبهم، ونتائج كارثية كان منها جلب القاعدة إلى البلاد ونشر فيروس الطائفية الذي ذهب يمزق البلاد تمزيقاً، والتورط في إقرار عمليات التعذيب والاختطاف. لم يكتف هذا السياسي بالاستمرار في إشعال النيران في المنطقة، بل تراه يدعو إلى انتشار هذه النيران من خلال حروب وتدخلات جديدة.
مازال بلير حتى يومنا هذا يدافع عن غزو العراق على أساس أن الدكتاتور صدام حسين قد خلع من السلطة على الأقل، بينما تراه يتقرب من الدكتاتوريين الآخرين وينمي من خلال علاقاته بهم دخله الذي يقدر حالياً بعشرين مليون جنيهاً استرلينياً في العام الواحد.
كان دعم الغرب للطغاة العرب عاملاً مهماً بادئ ذي بدء في نشأة الإرهاب من النمط الذي تنتهجه القاعدة، كما أن التواطؤ الغربي على إسقاط الحكومة الإسلامية الديمقراطية في مصر هو الذي بعث الحياة من جديد في جسد هذا الأرهاب في أرجاء المنطقة، بما في ذلك في العراق.
مدعوماً من قبل المنظومة الرجعية وقلبها في الخليج – والذي نشعر بنفوذه الشيطاني النفطي في كافة أرجاء المؤسسة البريطانية – يعتبر طوني بلير الآن هو المتحدث الدولي الرائد باسم الكبر الإمبريالي الغربي ونيابة عن معسكر إجهاض الديمقراطية في الشرق الأوسط، وكل ذلك في ثياب الحرب على الإسلاموية.
كما بات الآن نموذجاً للفساد في قلب الحياة العامة البريطانية. هذا لا يعني القول إنه ارتكب أعمالاً غير قانونية. ولا يقتصر الأمر على الدخل الهائل، والبيوت السبع، والمليوني جنيه استرليني التي يتلقاها كرسم من جيه بيه مورغان، أو تبادل النفوذ والرأي مع الحكومات المستبدة الفاسدة – وكلها بناء على اتصالات أنشأها حينما كان زعيماً سياسياً منتخباً في بريطانيا.
كما أن بلير لعب دوراً مهماً في تآكل المؤسسات العامة في بلاده، وذلك حينما أدت الخصخصة التي تبناها حزب العمال الجديد إضافة إلى تبني أساليب التوظيف المتبعة في مركز المال في مدينة لندن إلى تسريع تغلغل نفوذ رجال الأعمال إلى الحكومة وإلى سياسة الأبواب المفتوحة التي توفر للسياسيين وموظفي الدولة وظائف قطاع خاص رواتبها عالية في الصناعات التي كان هؤلاء في يوم من الأيام مسؤولين عن الرقابة عليها.
أما دافيد كاميرون ومحافظوه، والذين تربطهم علاقات حميمة بالأنظمة الاستبدادية في الخليج، فقد ذهبوا بهذه العملية إلى أبعد من ذلك، فاعتمادهم على الممولين ومليارديرات مركز المال في مدينة لندن انكشف عنه الغطاء من خلال تبرع البطانة بمبلع 5مليون جنيه استرليني للحزب حصيلة عشاء خيري واحد الصيف الماضي
إلا أن طوني بلير يتبنى سياسة الباب الدوار على مستوى عالمي. متى ما أدرك رؤساء الوزراء أنهم يمكن أن يصبحوا أثرياء إذا ما لعبوا الكرة مع الشركات والدول الصحيحة فإن ذلك يتحول إلى عادة. “الإصلاح الاقتصادي” الذي سيسعى بلير إلى إقناع المصريين به سيتضمن بلا شك خصخصة ورفعاً للقيود الحكومية على النشاطات التجارية مما سيؤدي في النهاية إلى إثراء كفلائه لكن بنتائج كارثية تماماً كتلك التي جرتها على بريطانيا. ليس هناك أوضح دليلاً على ذلك من القلق الذي يساور حلفاءه هنا بسبب التأثيرات السلبية لتركة حزب العمال الجديد.
فيما يتعلق بعامة الناس، ما من شك في أن إثراء طوني بلير من علاقاته بالمؤسسات وبالأنظمة الدكتاتورية قد حط من مكانة مكتب رئيس الوزراء. علاج هذا الخلل يتطلب تغييراً عميقاً في التوجه السياسي. لن يتمكن طوني بلير أبداً من وقف المطالبات بمحاسبته على جرائم الحرب، حتى لو ظل النظام منحازاً لصالحه بشكل كبير.
إلا أن استمراره في لعب دور مبعوث السلام إلى الشرق الأوسط يعتبر فضيحة وإهانة لشعوب المنطقة. يتوجب الآن تجريده مما بقي لديه من سلطات عامة. خلعه من منصبه بات الآن ضرورة أخلاقية وديمقراطية.
المصدر: الغارديان