ترجمة وتحرير نون بوست
عندما نتحدث عن إجراء انتخابات في ظل الأوضاع الأمنية المتوترة في ليبيا، فإن الليبيين ليسو فقط يستحقون الثناء، لكن أيضًا سيكون بإمكانهم تعليم دول ما بعد الصراعات الكثير من الدروس المتعلقة بالمخاض الصعب الذي تعيشه البلاد.
ليبيا لا تزال في قلب الأخبار بعد أكثر من أسبوع على الانتخابات، وهذا لأن الصحافة ما زالت تنتقد بعنف حادث الاغتيال المأساوي الذي تعرضت له الناشطة ضد الميليشيات “سلوى بوقعيقيص” في بنغازي، ومع ذلك، لا تهتم تلك الصحافة بشكل كاف بحقيقة أنه قد أُجريت انتخابات حرة ونزيهة في معظم أنحاء بنغازي، بما في ذلك التي تتواجد بها المجموعات المتطرفة وبينما حدث تزوير واضح في جنزور، إلا أنه قد تم الكشف عن ذلك وتم التعامل معه أيضًا.
هذا ليس عملاً هينًا، فأكثر من 42٪ من الناخبين أدلوا بأصواتهم، مع العلم أن نسبة المشاركة العامة كانت أقل من 20٪ ممن لهم حق الانتخاب، كما أن مجرد فتح لجان الاقتراح يقول إن الجميع، ربما باستثناء بعض أكثر الميليشيات تطرفًا، يؤمنون بشرعية الصندوق ولن يلجأوا إلى السلاح لتهديد تلك الشرعية.
بل لقد أُجريت الانتخابات بشكل حر ونزيه حتى في المناطق التي ليست للحكومة المركزية فيها اليد الطولى، مثل بني وليد ومصراته وسرت.
وفي مناطق أخرى حيث أبعد العنف الناخبين عن الصناديق، تخطط الحكومة الآن لإعادة الانتخابات هناك، وعلى الرغم من كل تلك الجهود، إلا أن بعض المناطق في ديما أو في مناطق أخرى تحت سيطرة الجهاديين لن يمكنها التصويت أو حتى فتح أبواب مراكز الاقتراح بسبب تهديدات العنف، وفي مناطق أخرى، يقاطع البربر الانتخابات إلى أن يتم الاتفاق على لجنة صياغة الدستور.
لكن على الرغم من المقاطعة والعنف في مناطق عدة، إلا أن الوضع الأمني ظل مستقرًا بشكل نسبي خلال يوم الانتخابات، اللواء المنشق “خليفة حفتر” احترم عهده بوقف إطلاق النار، كما أدارت اللجنة العليا للانتخابات اليوم بشجاعة وكفاءة عاليتين.
الإقبال المرتفع “نسبيًا”، والعنف المنخفض “نسبيًا” وخاصة إذا ما قورن بالتوقعات شديدة الانخفاض، تشير إلى أن البرلمان القادم والذي سيحل محل محل المؤتمر الوطني العام، سيمكنه تحمل المسئولية مع هالة جديدة من المصداقية والواقعية، وهو ما سينعكس على الحكومة الجديدة.
ليس هناك وقت أفضل!
الشرعية المتزايدة للسلطات المركزية تمثل أفضل سيناريو لمحاولة ليبيا بناء مؤسساتها الوظيفية، ولتحقيق ذلك، يجب على البرلمان التحرك فورًا وتعيين رئيس للوزراء الذين سيشكلون حكومة يجب أن تمثل إجماع واسع بين جميع التيارات السياسية الرئيسية في ليبيا، باستثناء أنصار الشريعة وأكثر الميليشيات تطرفًا.
مثل هكذا حكومة، ستكون قادرة على تحقيق الاستقرار في الوضع الأمني في شرق البلاد، كما أنها قد تعقد مفاوضات جديدة مع الميليشيات ومع المتشددين، أما بالنسبة للموانئ المحتلة من قبل دعاة الفيدرالية، فإنه من المشجع أن البرلمان الجديد سيكون الإسلاميون أقل سيطرة عليه، وهو ما يعني المضي قدمًا في تسليم أكبر الموانئ النفطية – راس لانوف والسدرة – للحكومة لتصبح جاهزة لاستقبال ناقلات النفط.
المحاولات السابقة للتفاوض مع ميليشيا إبراهيم الجدران فشلت لأن الإسلاميين تصوروا أنهم قادرون على السيطرة على ميليشياته بالقوة، وهذا سيمكنهم من الهيمنة على قطاع النفط لأنفسهم.
نصف الكوب الممتلئ!
بينما يظهر أن تحسين الوضع الأمني في ليبيا سيكون أكبر من قدرة الحكومة المنتخبة شرعيًا، إلا أن المصداقية التي حصلت عليها المؤسسات المنتخبة حديثًا قد تكون هي الملاذ الوحيد للبلاد لوقف دوامة العنف.
وفي الوقت الذي ستُعلن فيه نتائج الانتخابات خلال الأسبوعين المقبلين، سيكون هناك سبب كاف للتوقع أن النتائج ستدفع نحو مصالحة محدودة بين الفصائل الكبرى في البلاد خلال شهر رمضان المبارك.
لكن للتوضيح: طوابير البنزين وتهريب النفط والخطف والسطو المسلح لن يختفي قريبًا. في الواقع، من المرجح أن تستمر الأوضاع في التدهور إذ أن السلطات المركزية لا تزال تفتقر إلى خدمات أمنية متماسكة للجم الميليشيات.
الآن، بعد الانتخابات الناجحة لمجلس النواب والتقدم الذي تم تسجيله من قبل الجمعية الدستورية، يبدو أن مخاض الولادة الثانية للدولة الليبية في مرحلة ما بعد القذافي قد بدأ بالفعل، إنها لحظة مخيفة عندما كانت السلطة يتنازع عليها رئيسان للوزراء، لكن هذا صار شيئًا من الماضي، كما تبدو “عملية الكرامة” التي قادها حفتر الآن قد تم إبطال مفعولها تمامًا بعد اندماجه شبه الكامل في اللعبة السياسية جنبًا إلى جنب مع قوى متحالفة معه، وقد أبلت جيدًا في الانتخابات.
في هذه المرحلة، يجب على السلطات المركزية الوليدة أن تكسب المزيد من القوة وأن تبدأ حلقة ردود الفعل الإيجابية Feedback circle عن طريق البدء في عدد من الإجراءات اللامركزية لدعم الفاعلين المحليين، كما يجب على مجلس النواب والحكومة الجديدة تأسيس اتصالات مع غيرها من مراكز السلطة الفعلية وترسيخ نفسها كمركز تنسيق يدور العمل السياسي من حولها.
إن أهمية الفاعلين المحليين، سواء كانوا حضريين أو قبليين، تظهر بشكل واضح خلال عملية المصالحة العرفية التي تمت في غرب ليبيا بين مدينة الزاوية وقبيلة الورفلة، والتي ربما أن تتكرر في مناطق صراعات أخرى مثل مصراتة والتوارجة أو بين الزنتان والمشاشية.
وعلاوة على ذلك، فإن من المشجع أن دعاة الفيدرالية مثل الجدران، قد أعلنوا عن نيتهم تكريم الاتفاق الذي أُجري في أبريل، مع رئيس الوزراء المنتهية ولايته بفتح الموانئ تحت سيطرتهم، وهو ما بلغ ذروته بالتسليم الأعجوبي لميناء راس لانوف والسدرة للحكومة يوم الأربعاء الماضي، هذا التطور الدرامي غير المتوقع يمكن أن يكون بمثابة مقدمة لمزيد من الترتيبات المتخذة أخيرًا لإنهاء الجمود السياسي والاقتصادي الذي ظهر في فترة المؤتمر الوطني العام.
الاستشراف للمستقبل
مع مضي شهر رمضان، تكون إمكانية تحقيق تقدم كبير في السياسة في طرابلس، إمكانية ضئيلة، حيث إن معظم الليبيين يقضون رمضان في راحة مع عائلاتهم، في الوقت الذي من المرجح أن يسافر فيه الساسة الكبار ورجال الأعمال خارج البلاد هربًا من حر الصيف ونقص الطاقة في البلاد.
ستواصل اللجنة الدستورية عملها، لكن المخاوف الأمنية الجديدة بعد تفجير 29 يونيو قد تضعف من قدرتها على التوفيق بين القوى المتنافسة.
العنف الذي حدث مؤخرًا في ليبيا يظهر أنه يستطيع تحقيق أهدافه بالفعل، ويحرف السياسة الليبية نحو الشعبوية، عملية حوار وطني بإمكانها أن تخفف من هذا المسار.
أما بالنسبة للأمن، للأسف، لا تعطي الميليشيا الإسلامية أو البلطجية المجرمون أي استراحة لليبيا في رمضان، ولا “عملية الكرامة” ستتوقف، وبالتالي، فمن المرجح أن تظل الحالة الأمنية غير مستقرة، وربما ينعكس التوتر والتطورات في العراق على الوضع في ليبيا، وقد تثير نوبات غير عقلانية لدى الإسلاميين الليبيين.
كما أن هناك احتمال أن بعض اللاعبين الرئيسيين في السياسة قد لا يقبلوا بنتائج الانتخابات، وهو ما قد يلحق ضررًا بالغًا بمصداقية البرلمان، كما إن الخوف الناجم عن اغتيال بوقعيقيص قد يخنق المعارضة الشعبية المتزايدة للميليشيات.
ومع ذلك، فإن احتمال حدوث حرب أهلية كاملة في ليبيا هو أمر غير مرجح، فالليبيون كبروا وقد وأنهكتهم الحرب، وكل الميليشيات باستثناء جيش حفتر أو أنصار الشريعة ليس لديهم القدرة على الاشتباكات المباشرة المستمرة.
لذلك، فعلى المدى القصير، سيستمر العنف ونقص الطاقة والعشوائية في البلاد، ومع ذلك، لا يجب استبعاد التوابع الإيجابية على المدى الطويل والتي وضع أساسها انتخاب البرلمان واحتمال أن يسهم ذلك في تسهيل توزيع السلطات في ليبيا.
لذلك يجب علينا جميعًا أن نبتهج برحيل المؤتمر الوطني العام، فمستقبل ليبيا يبدو أكثر إشراقًا بدونه.