ترجمة وتحرير نون بوست
داعش تعلن تأسيس نظام الخلافة، ونتائج الانتخابات الرئاسية في أفغانستان مشكوك فيها، والمحادثات مع إيران حول الملف النووي تسير ببطء، وأوكرانيا تتجزأ وهي في حالة من الفوضى مع وقف مؤقت لإطلاق النار، وبريطانيا في وضعية قريبة جدًا من انفصالها من الاتحاد الأوروبي.. كل هذا حدث ويحدث، ونحن مطالبون بأن نتساءل: ما الذي يحدث في العالم؟
بعد سقوط جدار برلين أعلن الرئيس جورج بوش عن بداية “النظام العالمي الجديد”، وأشاد كل من بيل كلينتون وتوماس فريدمان بزوال “سياسة القوة”. وفي السياسة الأميركية المعاصرة، ألقى الديمقراطيون باللوم على جورج بوش باعتباره سبب كل هذه المصائب، بينما ألقى الجمهوريون باللوم على باراك أوباما وعلى هيلاري كلينتون، ويمكن العثور على أدلة وافرة لهذه الاتهامات ذات الدوافع السياسية لكلا الجانبين.
ولكن اللوم الحقيقي يكمن في جانب آخر، فالرؤساء الثلاثة للولايات المتحدة ما بعد الحرب الباردة كان لهم نصيبهم من الأخطاء لنصل إلى هذه الوضعية، ولكن هناك أصل مشترك لكثير من هذه الإخفاقات وهو التمشي في نشر المثالية الليبرالية في إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
وهذا التمشي يتجاوز الخطوط الحزبية ويوحد كل التوجهات السياسية من ليبراليين، من الديمقراطيين إلى الجمهوريين والمحافظين الجدد، فالرغبة في توسيع الليبرالية في أوروبا الشرقية تكمن وراء توسيع الناتو، وهو ما يفسر لماذا حاولت الولايات المتحدة تصدير الديمقراطية إلى أفغانستان وجميع أنحاء الشرق الأوسط، بدلاً من التركيز على التصدي لتنظيم القاعدة بعد هجمات 11/09 .
وهذا التوجه كان أساس استراتيجية بيل كلينتون “المشاركة والتوسيع”، وجورج دبليو بوش “مذهب الحرية”، واحتضان باراك أوباما لثورات الربيع العربي وقرار التدخل في ليبيا، وهذا باختصار موضوع مركزي في نسيج معقد من السياسة الخارجية الأمريكية الأخيرة.
وترتكز الليبرالية على مجموعة واضحة من الرغبات الأخلاقية والسياسية، فهي تضع الفرد في مركز الحياة السياسية، وترى أن كل إنسان يملك حقوقًا غير قابلة للتصرف، الليبراليون يؤكدون حق الحرية الفردية، كما يعتقدون أن هذه المبادئ تنطبق على جميع البشر، ووفقًا لذلك، يعتقد الليبراليون أن الديمقراطية هي أفضل شكل من أشكال الحوكمة لأنها تدافع عن سيادة القانون، حرية التعبير، واقتصاد السوق، كما أنهم يعتقدون أيضًا أن معظم البشر سيكونون أفضل حالاً إذا كانت هذه الممارسات تطبق في مستوى عالمي.
ومميزات الليبرالية جذابة للغاية، ولكن الواجب الأخلاقي لهذه المبادئ الليبرالية الأساسية لا يعني أنها ستوجه مبادئ السياسة الخارجية، وفي الواقع، يشير العقدين الماضيين أن تأسيس السياسة الخارجية لأي قوة عظمى في المقام الأول على المثل الليبرالية كان في معظمه وصفة مكلفة وفاشلة.
المشكلة المركزية هي أن الليبرالية لا تخبرنا عن كيفية ترجمة المبادئ الأخلاقية في استراتيجيات فعالة واضحة، فالليبرالية تحدد مجموعة من المبادئ الأخلاقية – التي من المفترض أن تتبعها جميع المجتمعات – ولكن لا تبين ما ينبغي أن تفعله دولة ليبرالية إذا كانت بعض البلاد الأجنبية أو زعيم يرفض “فعل الشيء الصحيح”.
حين نلاحظ ما يحدث كلما تصرفت بعض الحكومات الأجنبية بطريقة غير ليبرالية واعترضت جهود الولايات المتحدة أو الغرب لتوسيع حقوق الإنسان والديمقراطية، أو أي مبدأ من المبادئ الليبرالية، تكون ردة الفعل التلقائية لقادة الولايات المتحدة هي الغضب والتنديد.
في الأشهر الأخيرة، على سبيل المثال، ردة فعل وزير الخارجية جون كيري على استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم كانت بأن قال إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سقط في قواعد “القرن 19″، وبالمثل، بيل كلينتون وجورج دبليو بوش استنكرا كل خصومهما (سلوبودان ميلوسيفيتش، علي خامنئي، كيم جونغ ايل، الزعيم الليبي معمر القذافي، إلخ) مع وصف الدول المخالفة للمبادئ الليبرالية كجزء من “محور الشر”.
وعند فشل الإدانة الأخلاقية فإن الليبرالية لا تقدم أية بدائل جيدة، فالعقوبات الاقتصادية هي أداة ضعيفة وعادة ما تنتهي بتعزيز سلطة الحكام المستبدين بدلاً من تقويضها، وعلاوة على ذلك، فإنها تسبب معاناة واسعة على شعوب بأكملها في حين تترك النخبة الحاكمة سالمة إلى حد كبير.
وعند محاولة نشر المثل الليبرالية بتهديد السلاح فإن الوضع سيزداد سوءًا، فكما رأينا في العراق وأفغانستان وليبيا وأماكن أخرى كثيرة، “تغيير النظام” بقوة السلاح تسبب في تدمير المؤسسات السياسية والاجتماعية القائمة وانهيار النظام القديم، والاحتلال الأجنبي جعل نشر المثل الليبرالية غير محتملة، والفوضى الناتجة عن عدم النجاح في تطبيق الديمقراطية مكنت الفوضويين من استغلالها، وأجبرت السكان المحليين إلى اللجوء إلى المصادر القديمة من الهوية المحلية (مثل القبائل والعشائر، أو الطوائف الدينية) لحمايتهم من هذه الفوضى.
علاوة على ذلك؛ الحكومات الليبرالية التي تسعى إلى نشر المثالية من خلال شن “الحروب الصليبية” كثيرًا ما ينتهي بها الأمر إلى الكذب على شعوبها من أجل الحفاظ على الدعم الشعبي.
وأخيرًا، ولأن معظم الليبراليين مقتنعين بأن معتقداتهم العزيزة هي خارج النقاش، فإنهم فشلوا في إدراك أن المجتمعات غير الليبرالية قد لا ترحب بهذه الهدايا الرائعة من الخارج، على العكس من ذلك، فالمزيد من التدخل الأجنبي – سواء من خلال الاحتلال العسكري والعقوبات، أو حتى المنظمات غير الحكومية – سيزيد من قمع الطغاة، ولن يستقبل السكان “محرريهم” بالورود كما كان مفترضًا، وإنما بالعبوات الناسفة.
فمشاريع بناء الدولة على النمط الغربي ستنتج تشويه الاقتصاديات المحلية وتأجيج الفساد في نهاية المطاف، وخصوصًا عندما يكون المحتل الليبرالي المثالي ليست له أية فكرة عن خصوصيات المجتمع المحلي.
الاستنتاج واضح، فالولايات المتحدة والدول الليبرالية الأخرى يجب عليهم القيام بعمل أفضل بكثير لتعزيز القيم السياسية من خلال إتقان هذه الممارسات في الداخل بدلاً من محاولة تصديرها إلى الخارج، فإذا كانت المجتمعات الغربية مزدهرة، وترقى إلى مستوى المثل العليا المعلنة، فالناس في المجتمعات الأخرى سيرغبون في محاكاة بعض أو كل هذه الممارسات، وتكييفها بشكل يتناسب وخصوصياتهم المحلية.
وفي بعض البلدان، قد تحدث هذه العملية بسرعة، وفي حالات أخرى قد لا تحدث إلا بعد صراعات صعبة، وفي بعض الأماكن إلا بعد عدة عقود، هذه الحقيقة قد تكون مؤسفة، ولكنها واقعية، فمحاولة تسريع عملية الانتقال الديمقراطي وتطبيق مبادئ الليبرالية، التي استغرقت عدة قرون في الغرب، من المرجح أن تتسبب في تأخير وفشل نشر هذه القيم.
المصدر: فورين بوليسي