مصر التي في خاطري ،، قبل خمس عشرة سنة كانت هي مصر إسماعيل عبد الحافظ وأسامة أنور عكاشة وممكن تقول محفوظ عبد الرحمن على شوية إنعام محمد علي .. ولم أكن قد عرفت بعد مصر نجيب محفوظ ولا جمال حمدان .. كما لم أكن قد عرفت مصر بالطبع من أي مصدر آخر، لا عيانا ولا رواية.
ومصر في مجمل هذه الأعمال كانت ساحرة التكوين بالنسبة إلي، مهما كانت القضايا التي تناقشها، أهلها برنسات وجوها هادئ وحتى الشر فيها هو شر مما يمكن أن يطلق عليه “شر هادئ” أو هو مما لا تقوم الحياة إلا به، شر كدة وفق النظام الطبيعي للكون، مستقيم مع البيئة والطبيعة، والجريمة فيه لو قورنت بمصر في المسلسلات المعاصرة تطلع من أعمال البر.
المهم أني حين وصلت مصر، لم أجد شيئا من هذا العالم ووجدت حياة أخرى، مزدحمة التفاصيل، صاخبة الضجيج، غريبة التكوين، ظللت أربع سنوات كاملة أرقبها بصمت لأعرفها. والحق أني لم أفهم شيئا في هذه السنوات ،، لأنها كانت مراقبة من طرف خفي والحياة لا تفهم بالمشاهدة المجردة،، وإن منحتني المراقبة أرشيفا من الصور والحكايات، حتى تعرفت على “ميت حدر، وحسين بيه، والسكة الجديدة، وبنك مصر” / أحياء المنصورة القديمة فوجدت فيها شيئا قريب بدرجة ما لما كنت أبحث عنه من مصر “المسلسلات” ..
مما لم أفهمه بالطبع هم الإخوان في الجامعة وخارجها “على صلتي الأسرية العميقة”، و”فين العيال الشيوعيين اللي بيطلعوا في المسلسلات” حيث أن المنصورة لم يكن فيها نشاط سياسي آخر، ولأنني تعرفت على الفكر الإسلامي بشكل نظري من القراءة دون مشاركة حركية فقد كان اختباري لما سبق وقرأته يشعرني أن شيئا ما ناقص، ما هو ؟ لم تكن أدواتي المعرفية آنذلك تكفي لأعرفه ،، إضافة لنفوري من المشاركة في الحياة “المصرية” عموما بعدما طلعت مصر التي كانت في خاطري “فشنك”، والاكتفاء بالمراقبة من شرفة عالية.
أول مواقفي الغريبة كانت أيام انتخابات الاتحاد حين طلب مني أحد أصدقائي من الإخوان صورة شخصية ليقدموا ورقا لي ! فأنا سألته : وافرض نجحت ؟ قال لي بركة. قلت له : أيوة أنا مش في بالي اتحاد ومش هعمل فيه حاجة .. قال لي : احنا هنعمل ! طب لما انت هتعمل عايزني ليه .. علشان انت اسمك مش معروف لأمن الكلية .. المهم تجادلنا ساعة حتى وصل ل “أن الناس زهقت من الاختلاط وشوية كلام كدة” والشرف، والفضيلة .. فالصراحة قلت في خاطري : دا أنا جاي مصر أدور ع اللي بيقول ان الناس زهقت منه دا ،، الدنيا أجمل بصحبة الفتيات يا صديقي، أو كما قال أحد أصدقائي : البنات نعمة واللي يكرههم يعمى! هتبقى صحرا في السعودية وفضيلة هنا! وجايين يزهقوا أول ما أنا جيت !! طب يستنو شوية ،، هو سمع الكلمتين دول واعتبر أن أساساتي أصلا مضروبة وأنه يلزمني تربية من جديد ،، وانصرف.
ربما في السنة الخامسة، حين وجدت أحد أصدقائنا في الدفعة يقرأ جريدة العربي الناصري، يومها ضحكت ساخرا وأنا أقول له : يااااه ،، لسة في حد ناصري في البلد ،،
كان هذا العام هو عام التغير في مصر ،، أو لنقل العام الذي بدأت أشعر فيها بحياة جديدة في مصر خارج رتابة السنوات السابقة ،، فيه بدأت كفاية، أو بدأت قبله بسنة ووصلني خبرها وقتها، وفيه خاض الاخوان انتخابات مجلس الشعب التي فوجؤوا هم والنظام بنتيجتها، وكنا نتابعها في عز الامتحانات بحماس وفيه تيقظت شرارات نشاطات كثيرة منها مثلا ما قاله لي أحد أصحاب المشاريع الثقافية في المنصورة أنه بعد نتيجة انتخابات ٢٠٠٥، شعر هو ومجموعة من أصدقائه “اليساريين” “أخيرا لقيتهم بتوع المسلسلات دول” بالخطر على مستقبل مصر الثقافي في حال صعد التيار الإسلامي للواجهة، فقرروا إنشاء مكتبات تكون حاضنة للشباب في محافظات مصر، وافتتحوا ستة مكتبات موزعة في المحافظات ،، هي من أشهر الأسماء في محافظاتها، وكانت رائدة هذا النوع من المكتبات في ذلك الوقت قبل أن تدخل المنظومة الرأسمالية على الخط فيما افتتح لاحقا من مكتبات.
ألقت هذه المكتبات حجرا في بحيرة راكدة، فتحركت الأمواج لتعيد ترتيب أشياء كثيرة، وليجد كثيرون أنفسهم في رحابها ،، وأشهد أني كنت آنس بأجوائها ونشاطاتها وصحبتها كثيرا ،، بل لعل حفل توقيع كتابي الأول “حين يضحك البحر” والتي كانت بنصيحة من صديقي اليساري “الذي شارك بعد ذلك في تأسيس حزب الدستور اللي مش يساري” نقطة مهمة في جعلي أفكر جديا في التركيز في الكتابة و “الاحتراف” فيها.
المهم ،، رافد جديد تعرفت عليه في تلك الفترة هو “جمعية مصر للثقافة والحوار” ومحاضرات الدكتور العوا الفريدة والجميلة .. كانت المحاضرات تجمع أطيافا عديدة، وكانت النواة الحاضنة التي تشكلت حولها بيئة يمكن أن أصفها بأنها تشبه الدكتور العوا “رقيقة، واعية، متعايشة، تفكر في الكلام قبل أن تقوله، وحين تقوله فإنه يخرج منمقا موزونا” .. هذه صفات الرجل وهذه هي الصورة التي يمكن أن تتلقى بها نشاطا من النشاطات التي انبثقت من شرار هذه الجمعية من بعيد .. قبل أن تقترب من صورها فترى التفاصيل والفروق وأحيانا السيئات “التي يمكن معرفة مصادرها بسهولة!”.
والخلاصة الموجزة هنا ،، كان في مصر جيل جديد خارج الإطار النمطي للتكوين الفكري القديم “بتاع المسلسلات” / “خارج ثنائية اخوان / يسار” هكذا أراد أو هكذا بدا لي ،، لتبدأ تكوينات شبابية ما بين فكرية / أدبية / ثقافية تحاول أن تنشئ حياتها الخاصة.
أحتاج هنا أن أفصل و أن أضرب أمثلة ببعض هذه التكوينات لأن نشأتها ورحلتها قد تكون مادة مناسبة لدراسة هذه الفترة، خصوصا أن أملا ما عقد عليها ثم تبدد لأسباب تختلف من جهة لأخرى ،، وهذا حديث آخر.