يُعد الحديث عن المؤسسة العسكرية والاقتصاد أحد تابوهات السياسة المصرية، حيث ظلت القوات المسلحة حريصة على الاحتفاظ به كشأن خفي عن العامة والخاصة على السواء في الثلاثين سنة الأخيرة.
ويتساءل الجميع عن الجيش المصري ومقدراته وقدرته على إدارة البلاد في تلك الأزمة الطاحنة التي تسببت فيها قيادته، خاصة وأن كثيرا من المتابعين للشأن المصري يراهنون على موجة ثورية جديدة ستكون مبنية أساسا على العوز الاقتصادي والذي لن تستطيع الفاشية العسكرية السيطرة عليها.
قبل ان يطرد حسني مبارك من منصبه، وبعد ذلك ايضاً، ظل حجم حصة الجيش المصري في الاقتصاد موضع جدلٍ كبير. فمن المعروف أن الجيش يشارك في تصنيع كل شئ، ابتداءاً من زيت الزيتون وتلميع الأحذية، وانتهاءاً بمراكز الاقتراع، التي استخدمت في الانتخابات البرلمانية المصرية لعام 2011، ولكن لا أحد يعلم (على وجه اليقين) مدى سيطرة الصناعات العسكرية على اقتصاد البلاد. وقد نقلت تقارير اخبارية أن أحد “الخبراء” يقدرها على مستوى الخريطة بحوالي من خمسة بالمئة الى أربعين بالمئة أو أكثر. فيما أشار وزير التجارة السابق، رشيد محمد رشيد، الموجود حتى الآن في المنفى، مدفوعاً إلى مغامرةٍ تخمينية من قبل صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أنها “أقل من عشرة بالمئة“. وأفادت مجموعة واسعة من الشخصيات باستحالة قياس أثر ما أسماه الباحث روبرت سبرنجبورج “الشركة العسكرية”، حيث لا يقتصر الأمر على تصنيف ممتلكات الجيش باعتبارها من أسرار الدولة – فقد يسجن الصحفيون في حالة تقديم تقارير عنها – وإنما أيضاً لتوسعها وتشعبها، ولا يمكن الوثوق بشكل كامل في أي تقديرلها.
تمتلك القوات المسلحة المصرية ويدير لواءاتها وعقدائها بأنفسهم – برغم افتقادهم للخبرة اللازمة- جزءاً ضخماً من اقتصاد البلد يقدره الخبراء بما بين ٢٥ و ٤٠ بالمائة.
جزء ما من موازنة الجيش المصري مرتبط بأنشطة عسكرية كشراء أسلحة أو إنتاجها، وفي حقيقة الأمر المعلومات عن هذا الجزء منكشفة ومنشورة للعالم بأجمعه من عدو وصديق لأن لدينا شريك رئيسي فيه ملتزم بالشفافية أمام مواطنيه ينشر كل شئ عن نفسه وعمن يتلقون معونة عسكرية منه في شكل أسلحة أو إنتاج حربي مشترك معهم، وهذا الشريك هو بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية التي تمنح القوات المسلحة المصرية ١.٣ مليار دولار من دعماً سنوياً من خلال برنامجها لـ“التمويل العسكري الخارجي”، ثم تنشر من خلال مواقعها الحكومية كـ “مكتب الحكومة الأمريكية للمحاسبية” أو وزارتي الدفاع والخارجية أو الكونجرس تفاصيل ما باعتنا أو ساعدتنا على إنتاجه في مصانعنا من دبابات وخلافه.
وبحسب الباحثة زينب أبوالمجد والتي كتبت مقالا تفصيليا عن دور الجيش في الاقتصاد المصري فقد بدأت قصة تحكم المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري من بعد ثورة يوليو ١٩٥٢– أو انقلاب يوليو العسكري بحسب ما تراه– مع تحويل عبد الناصر نظام الدولة من ليبرالي إلى اشتراكي يقوم على ملكية الحكومة لكل شئ، وكان من المفترض أن يتبع الجميع سبيل الزهد السوفيتي في الاستهلاك حتى نستطيع النهوض. نصب ضباط الجيش- أو النخبة الحاكمة الجديدة- أنفسهم مديرين لممتلكات الدولة من مصانع وشركات القطاع العام.
تراجعت مكانة العسكر قليلاً كنخبة حاكمة وحيدة محتكرة للسلطة في عهد السادات، بعد أن تمرد السادات على التقشف السوفيتي وأراد أن ينفتح على العالم الغربي ينهل هو وشعبه من بضائعه الاستهلاكية البراقة. واضطر العسكر عندها للقبول بمشاركة السلطة مع طبقة صاعدة من رجال الأعمال الطفيليين المقربين من السادات وأسرته.
ولكن – لحسن الطالع- جاءت اتفاقية السلام مع إسرائيل لتنقذ النخبة العسكرية من هذا الوضع وتعيد لها الكثير مما فقدت. بعد أن وضعت الحرب أوزارها ووقع السادات اتفاقية كامب ديفيد، لم يكن من الممكن تسريح العدد الهائل من جنود وضباط الجيش المدربين تدريباً عالياً على القتال، فكان أن تم إنشاء “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية” الذي أقام المشروعات المختلفة وقام بتعيين لواءات وعقداء الجيش مديرين لها. ومُنحت مشروعات القوات المسلحة امتيازات فوق سلطات الحكومة القانونية والمحاسبية، حيث أنها معفاة من الضرائب ولا تخضع للوائح والقوانين التي يخضع لها الجميع في القطاعين العام والخاص.
المؤسسة العسكرية لا تؤمن بالنيوليبرالية الأمريكية أو عقيدة السوق الحر، والتي أحد مكوناتها الخصخصة وإطلاق يد رجال الأعمال في إدارة الاقتصاد وانسحاب الدولة، لأن تلك العقيدة- اتفقنا معها أو كرهناها- تعني فقدانهم لممتلكات الدولة التي يديرونها. ألمحت إحدى برقيات ويكيليكس المرسلة من السفير الأمريكي السابق إلى أن المشير طنطاوي لا يحب سياسات الإصلاح الاقتصادي لأنها تقلل من سيطرة الدولة المركزية.
في إحدى برقيات وزارة الخارجية بتاريخ سبتمبر 2008 التي نشرتها ويكيليكس، دعت (مارغريت سكوبي) سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية في مصر آنذاك، التكتلات العسكرية بأنها “شبه تجارية”، وخلصت إلى أنه كان ينظر إلى خطط الحكومة للخصخصة بإعتبارها “تهديداً لموقف [الجيش] الاقتصادي”، وأن الجيش “يعارض بشكل عام الإصلاحات الاقتصادية”. وقد قدم (فرانك ريتشاردوني) السابق لسكوبي، حجة مماثلة في برقية بتاريخ مارس 2008:” يعتقد (المشير حسين) طنطاوي أن خطة مصر للإصلاح الاقتصادي تعزز عدم الاستقرار الاجتماعي من خلال تقليل رقابة (الحكومة) على الأسعار والإنتاج”.
تتمثل مصالح الجيش التجارية في أقدم المصانع التي تديرها وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية. كما يشرف الجيش على العديد من الشركات التابعة للشركات القابضة المملوكة للدولة، ويملك أسهماً في مشاريع القطاعين العام والخاص. في كثير من الحالات، تعتبر هذه العمليات الصغيرة جزء لا يتجزأ من مجموعات الشركات العابرة للقارات، والتي تشمل قطاعات اقتصادية عدة، من البناء والشحن البحري إلى تصنيع الأسلحة.
ويتميز الجيش المصري بقدرته على جذب شركاء الاستثمار الأجنبي بشكلٍ جيد. وذلك لأن جزءاً كبيراً من القطاعات الاقتصادية التي يسيطر عليها بشكلٍ قوي، هي أيضاً تلك التي لديها امكانيات كبيرة للربح. تشمل هذه القطاعات النقل البحري والجوي والنفط والغاز، والمشاريع البيئية الصناعية مثل معالجة مياه الصرف الصحي وتوليد الطاقة المتجددة.
يضاف لكل ذلك نشاط المؤسسة العسكرية في الأراضي. للقوات المسلحة قانوناً الحق وضع اليد على أية أراضي مملوكة الدولة “تنفيذاً لخطة الدفاع عن الدولة”، لكن تستخدم قيادات الجيش هذا الحق لاستخدام الأراضي العامة في أغراض تجارية بغرض التربح وليس في أغراض أمنية.
ويبدو أن استراتيجية الاستثمار العسكرية تجني فوائد جمة: فلم يكتف المجلس العسكري فقط “بإقراض” البنك المركزي المصري مليار دولار في شهر ديسمبر عام ٢٠١١ وحسب، لكنه تمكن أيضاً من صرف مكافآت شهرية كبيرة للصف الثاني من أفراد الجيش تعادل 400 دولار منذ بدء الانتفاضة ضد مبارك، وقالت قيادات عسكرية لاحقا أن الجيش المصري وضع قرابة ١٠ مليارات دولار من ميزانيته في خزينة الدولة.
وقد أدى انخراط القيادات العسكرية في أنشطة اقتصادية لانخراطهم الحتمي في منظومة الفساد وقمع العمالة، نظام الدولة كله قائم على الفساد وقمع الطبقات الدنيا العاملة، والعسكر بكونهم أطراف مديرة فيه فهم بالضرورة صانعين لمثالبه.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان سيد مشعل وزير الانتاج الحربي قبل الثورة نائبا في مجلس الشعب، نجح في البرلمان عن طريق توظيف أصوات عشرات الآلاف من العمال بمصنع “٩٩ الحربي” والكائن بدائرته “حلوان”.
مصنع ٩٩ الحربي حلوان له قصة تتعلق بمسألة قمع المؤسسة العسكرية للعمال، حيث أنها لا تخضع لأية قيود نقابية أو حكومية في هذا الشأن. في شهر أغسطس للعام ٢٠١٠ خرج عمال المصنع في موجة احتجاج عنيفة عندما توفي زميل لهم انفجرت في وجهة أنبوبة، كان اللواء مدير المصنع قد أتى بمجموعة من اسطوانات الغاز من غير اختصاص عمال هذا المصنع لتجريبها، وعندما انفجر العديد منها قال لهم لا يهم إن مات منكم واحد أو اثنين، وعندما مات بالفعل أحد منهم اقتحموا مكتب اللواء وأشبعوه ضرباً ثم اعتصموا. تم تحويل قيادات العمال لمحاكمة عسكرية واتهامهم بإفشاء أسرار حربية لأنهم تحدثوا في شؤون أنابيب البوتاجاز!
المعاملة القمعية تستمر ضد من يخدمون في مزارع الجيش، وهم في الحقيقة مجندين فقراء يشتغلون بالسخرة بدون أجر. يلتحق الجندي القادم من الأرياف أو المدن الفقيرة بالتجنيد الإجباري ليتم تلقينه شعارات وطنية في طوابير الصباح، لينسى كل هذا ومعه كرامته عندما يجد نفسه عاملاً بالسخرة في أحد مزارع الجيش التي تمتد فوق مئات الآلاف من الأفدنة.
من ناحية أخرى مصر خارج القاهرة تخضع لحكم عسكري شبه مكتمل الأركان، حيث أن ٢١ من ال ٢٩ محافظ المعينين قبل الثورة في أقاليم قبلي وبحري هم لواءات جيش متقاعدين، بالإضافة لعشرات آخرين من رؤساء المدن والمراكز من عقداء وعمداء الجيش المتقاعدين أيضاً.
ويتولى هؤلاء إدارة قطاعات اقتصادية واسعة في المحافظات كل محافظة تبعاً لمواردها، حيث يتحول لواءات الجيش الذين لا يتمتعون بأي خبرة تذكر دون قيادة الدبابات والطائرات الحربية فجأة إلى مديرين لقطاع السياحة الجوهري والحيوي في محافظات الأقصر وأسوان، أو قطاع صناعة السكر في قنا، أو صيد الأسماك والشحن والتفريغ بالسويس..الخ.
الكثيرون يقولون أن الانقلاب العسكري في مصر، تم في جزء كبير منه للحفاظ على نفوذ المؤسسة العسكرية وتحكمها في الاقتصاد وفي المجال المدني المصري بشكل عام.
كتب الباحث والأكاديمي اللبناني عقب تولي مرسي الرئاسة في مصر، وقبل عشرة أشهر من الانقلاب العسكري في ورقة نشرها مركز كارنيغي، كتب قائلا: “يتعين على مرسي والأحزاب السياسية في مصر التوصل إلى توافق قوي على الحد من السلطات الاستثنائية التي يسعى المجلس العسكري لتضمينها في الدستور الجديد، من أجل تجنب قيام وصاية عسكرية صريحة”
لكن على ما يبدو أن الأحزاب السياسية والرئاسة في مصر لم يتعلموا ذلك الدرس، إلا عندما رأوا الوصاية العسكرية الصريحة ماثلة أمام أعينهم في انقلاب تسبب في مقتل آلاف المصريين خلال أقل من شهرين.
التساؤل الذي يطرح نفسه الآن هو مدى استعداد المصريين لتحمل تبعات الفاشية العسكرية بالتوازي مع التردي الاقتصادي.
الوقت كفيل بالإجابة.
المصادر: MERIP، جدلية، جمهورية الضباط في مصر.