كعادة “مادس جلبرت” فور علمه بتجدد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يحمل حقيبته مسرعًا إلى مصر حيث بوابة العبور إلى القطاع.
جلبرت الطبيب النرويجي وأستاذ الطوارئ معروف لدى السلطات المصرية وله شعبية بمستشفى الشفاء بقطاع غزة.
48 ساعة هي الفاصلة بين بدء العدوان ووصول جلبرت للقاهرة متجهًا إلى معبر رفح، إلا أن السلطات المصرية رفضت دخوله هذه المرة، ظل يشرح ويشرح الدور الإنساني الذي يقوم به دون أن يستجيب له أحد.
حمل نفسه واتجه إلى معبر آيرز الذي يخضع للإشراف الإسرائيلي ولم يبذل الرجل جهدًا للدخول إلى غزة لأداء مهمته الإنسانية.
مادس لم يصيبه الخوف الذي أصاب الكثيرون من تهم التخابر والتجسس وتمويل جماعات إرهابية التي توجه لكل من له علاقة بحركة حماس أو قطاع غزة أو يرغب في الدخول لمعالجة الجرحى والمصابين، لكنه شعر بالألم والأسى على الوضع عند معبر رفح.
عندما نظرت لبوابة معبر رفح شعرت بمادس، فهذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها معبر رفح هادئ لا يعكر صفوه سوى أصوات القذائف الإسرائيلية التي تدك أهل غزة ودخول 11 جريح فقط من أصل ما يقرب من 200 إلى الجانب المصري.
يقف الجنود المصريون في أماكنهم عند مدخل البوابة دون قلق، والرمال الصفراء تغطي أبصارهم، لا يدركون أن هذه البوابة ذات المدخلين هي المنفذ الوحيد لأهالي غزة إلى العالم ورغم ذلك أًغلقت في وجههم لتتركهم محاصرين بين نيران طائرات العدو وبوارجه البحرية.
المعبر بعد 8 أيام من تجدد العدوان الإسرائيلي على القطاع الصغير غريب وغير مألوف في مثل هذا الظرف، لا تقف أمامه سيارة نقل ولا مظاهرة أو سيارات إسعاف.
تغيب عنه حالة الهرج والمرج ومحاولات الدخول للجهة الأخرى أو استقبال مصابين من غزة أو غير ذلك من المشاهد المعتادة عند تكرر العدوان الإسرائيلي على غزة.
لا توجد كاميرات ولاعشرات المصورين والإعلاميين يحملون كاميراتهم ويرتدون السواتر الواقية في انتظار لحظة الدخول لمنطقة الحرب.
غاب مشهد المئات من رجال الإغاثة والأطباء الأجانب يحملون شنطة ظهر صغيرة ويرتدون الروب الأبيض الشهير لدعم أهل القطاع الجريح مثلهم مثل جلبرت.
لا تتوقف على جنبات الطريق سيارات الإغاثة المحملة بأطنان من المعونات الإغاثية، تغطيها حملات دعائية للبلدان والهيئات التي جلبتها، لا توجد يقظة في صفوف أهالي رفح المصرية بل وأهل العريش بالكامل.
فالعدوان الإسرائيلي كان خلال السنوات الماضية منفعة لأهل سيناء، والمثل يقول “مصائب قوم عند قوم فوائد” فهذا العدوان الذي طالما يتكرر مرة أو مرتين في العام منذ خروج إسرائيل من القطاع في عام 2005 يمثل انتعاشه اقتصادية في الجانب المصري وتحديدًا سيناء المغضوب عليها من الحكم العسكري في مصر الذي أبرم كامب ديفيد والتزم بها، فهذا العدوان يساهم في رفع نسبة إشغالات فنادق العريش لـ 100% بعدما كانت لا تتجاوز الـ 10%، ويحول سكان المنطقة سياراتهم لنقل الضيوف مقابل مبلغ من المال، وفي الوقت ذاته تنتعش حركة الأنفاق التي يشارك في ملكيتها عدد من الضباط، كما تنشط حركة التجارة والباعة الجائلين، وربما هذا النشاط المؤقت هو ما يعيش عليه أهل المنطقة لشهور طويلة في ظل تجاهل الدولة لتنمية المحافظة التي تبلغ مساحتها سدس مساحة مصر.
كان العدوان الإسرائيلي على غزة يُنشّط أكمنة الشرطة والجيش على الطريق وأتذكر في إحدى المرات كنت برفقة قافلة شعبية متجه إلى رفح لتسليم ما بها من مواد غذائية ودوائية إلى الحزب الوطني هناك وكان هذا شرطًا لدخول المعونات لأهلنا في غزة، فكنا نمر على 6-7 أكمنة منذ الخروج من الإسماعيلية وحتى الوصول لرفح المصرية وكان بعضهم يسأل عن الحبة الزرقاء ويمنع الفلسطينيين المرافقين للقوافل من استكمال المسيرة.
سيناء التي استردتها مصر بالدماء والحرب ظلت منطقة خارج اهتمامات النظام المصري حتى وصلت حركة حماس للحكم في نهاية عام 2005 فتحولت سيناء لمحافظة تشعر بحالة من الانتعاش الاقتصادي.
بعدما قرر العالم محاصرة قطاع غزة انتقامًا منه لاختياره حكم حماس وفق قواعد الديمقراطية التي وضعها الغرب وارتضاها لاختيار من يحكمه لكن حرم ذلك على المؤمنين، أًغلق القطاع الصغير علي مليون ونصف المليون في مساحة لا تتعدى الـ٦٠ كليو متر مُنعت عنهم الحياة من دواء وماء وغذاء وكهرباء وحتى الغاز.
فخلال عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وقعت ثلاثة اعتداءات إسرائيلية على قطاع غزة ورافق ذلك حصار مرير يتمثل في منع الفلسطينيين من المرور لبلدهم أو الخروج منها للعلاج أو العمل، وظلت بين الحين والآخر تتكرر مشكلة العالقين في مدينة العريش ورفح المصرية.
خلال المرات الثلاث ورغم التعنت الجانب المصري تجاه حركة حماس إلا أنه كانت هناك مساحات لدخول المعونات والمواد الإغاثية بعد مظاهرات وتواجد كثيف أمام المعبر، ووصول وسائل الإعلام العالمية واعتقال عشرات النشطاء.
أتذكر في 2008 كنت مرافقة لإحدى قوافل الإغاثة ودخلنا لقلب معبر رفح بعد مرور البوابة الأولي وانتظرنا لساعات حتى توقف الضرب وقدم وفد فلسطيني لتسلم المواد الإغاثية من داخل المعبر نظرًا لمنع الجانب المصري دخول المتطوعين والأطباء لقطاع غزة.
وفي هذه اللحظة شاهدني أحد وزراء حركة حماس فقدم للسلام وبمجرد أن اقترب حتى باتت المسافة الفاصلة بيننا أقل من 2 متر، جاء نقيب من الشرطة المصرية ليسب ويلعن ويطرد الوزير من داخل المعبر دون أي تقدير ولم يتركه حتى خرج من بوابة المعبر وسط إهانة غير مبررة، وعندما قال له أنا الوزير الفلاني قال له وزير عند (…. ) ثم عاد إليّ لينهال عليّ سبًا دون مبرر مهددًا باعتقالي إذا لم اتحرك من المعبر وكنا في تلك اللحظة نقوم بتفريغ كافة محتويات الشاحنة المصرية على أرض المعبر حتى تأتي سيارات فلسطينية لتحملها بينما كان المعبر مزدحم جدًا ببشر منهم الإعلاميون والمصورون والأطباء والمتطوعون والنشطاء والباعة الجائلون وطبعًا المخبرون.
أمام بوابة هذا المعبر كثيرًا ما منع جورج جالوي، وإيفون ريدلي وقافلة شريان الحياة، وقوافل قطرية وكويتية ومصرية، وكثيرًا ما وصلت إليه بعض قذائف إسرائيل، لكن كانت بوابة المعبر وساحتها متمردة دائمة على أي قرار سياسي، كانت الشعوب العربية تنتفض لضرب غزة وترسل المعونات وتخرج في مظاهرات تبهر العالم.
والآن على الرغم من أن العدو هو العدو والحرب أشد من سابقتها والشهداء من الأطفال والنساء والشباب وتستخدم ضدهم أبشع الأسلحة إلا أن المعبر ليس كالمعبر والشعوب ليست كالشعوب، بينما الأنظمة تزداد وحشية وإعلامها أكثر كذبًا وتضليلاً للرأي العام.
لم أجد من وجهة نظري مبررًا لذلك سوي الربيع العربي الذي أثار ذعر بعض القوى الإقليمية فقاومته بحرب شرسة ضد الإسلام السياسي وحولوا حماس من رمز للمقاومة ضد العدو لعدو فمنعوا دعمها سياسيًا أو ماديًا أو حتى شعبيًا.
لم تعد مصر في هذا العدوان الوحيدة التي استسلمت لكامب ديفيد بل وضع العرب جميعًا يديهم مع كامب ديفيد ولم تخرج دعوة لاجتماع طارئ إلا بعد 6 أيام كاملة من عدوان خلف 200 شهيد والدفتر مازال مفتوحًا، داعية لفرض حماية دولية على غزة هدفها التخلص من سلاح المقاومة.
هذا العدوان الذي كشف عن وجه مقاومة حقيقة تعمل وتتدرب وتعد نفسها، وجعلها موضوع عزة وفخر إلا أنه قبل بصمت عربى بل وتسريبات تحمل فاجعة تمويل بعض الدول العربية للضربة الإسرائيلية.
فالدول العربية هذه المرة لم تجد من يحرجها كما حدث في 2012، عندما تبنت مصر الهدنة بين إسرائيل والمقاومة وفتحت المعبر ودعت العالم لتقديم الدعم، فجاء الجميع تعلو ووجههم حمرة الخجل، لكنها سرعان مع زالت مع العدوان الجديد وغياب من يملك القدرة على الوساطة؛ فأغلق المعبر في وجه أهل العزة.