بيدها الأولى تتحسّس الغزيّة “أمل يوسف” جبينًا لفّه الشاش الأبيض، وجسدًا قيّدته الأسلاك والأجهزة الطبيّة من كل جانب، وعلى فمها تضع اليد الثانية كي تمنع شهقات وصراخ ألمّها خوفًا من خبرٍ صادم يحمله لها الطبيب، غير أنها لا تملك سوى الدعاء، وسيل الدموع الساخنة التي تنحدر على وجنتيّها، لمخاطبة طفلتها “أميرة” ابنة الخمس سنوات، والتي ترقد في مستشفى الشفاء الطبي بغزة، لتلقي العلاج بعد إصابتها بشظايا غارات الطائرات الحربية الإسرائيلية.
وتقول مخاطبة إياها: “هيّا استيقظي يا أميرة، لاشتري لك ملابس العيد، هيّا يا صغيرتي”، غير أن الجسد الغضّ يبقى أسيرًا لغيبوبة لا يدري الأطباء نهايتها.
ويُشارك يوسف آلاف العيون الدامعة، والمترقبة لمصير أطفالهم، وذويهم الجرحى المصابين، والراقدين على أسرة الوجع بين “الحياة” و”الموت”، حيث تتحول أقسام الشفاء بغزة – أكبر مستشفيات القطاع -، إلى حكايات ناطقة للفقد، وجرح ما يُخلفه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أيام.
وما من مكان في المستشفى إلا ويرافقه الدمع والذهول، ففي البوابة تصرخ طفلة لم تتجاوز الخامسة من عمرها على مدخل المستشفى بشكل جنوني، ويتناثر شعرها ذهبي اللون على جبين والدها الذي حولتّه الطائرات إلى جثة هامدة.
وعلى عجل ولأنّ المستشفى يغص بالجرحى والأشلاء المتناثرة، يخرج الغاضبون من مشاهد الموت وهم يحملون ذويهم في انتظار تشييعهم، ومن بينهم حمدان الذي فقد ثلاثة من أقاربه في قصف إسرائيلي، وهو يقول الآن إنه يرى في مستشفى الشفاء معلمًا للحزن الذي لا نهاية له، متابعًا: “رائحة الموت تفوح من كل مكان، ثلاجة الموتى، المصابين بجروح خطيرة، القادمين من الخارج أشلاء، كل شيء يبدو لونه أسود هنا”.
ولليوم السابع على التوالي، تتواصل في قطاع غزة عملية “الجرف الصامد” التي أطلقها الجيش الإسرائيلي، الإثنين الماضي (7 يوليو/ تموز)، حيث أسفرت حتى اليوم عن مقتل 176 فلسطينيًا وإصابة أكثر من 1000 آخرين في سلسلة غارات جوية استهدفت مناطق متفرقة من القطاع، بحسب مصادر طبية فلسطينية، فضلاً عن تدمير 560 وحدة سكنية بشكل كلي، وتضرر 12800 وحدة أخرى بشكل جزئي، وفق إحصائية أولية لوزارة الأشغال العامة في الحكومة الفلسطينية.
وفي داخل المستشفى، تتكوم على الأسرة أجسادًا مبتورة الساقين، وأخرى مبتورة القدمين، وفي الخارج ثمة عيون تترقب بخوف الأطباء الخارجين من غرف العناية المركزة.
تشهق إحداهنّ: “أمانة يا دكتور طمني كيف الولد( كيف حال ابني) .. حيعيش ولا (هل سيبقى حيًا)؟”.
“إن شاء الله خيرًا” يُرددها كل طبيب على مسامع أهالي وذوي الجرحى، فهي ملاذهم الوحيد أمام هذه العيون المكتنزة بدمع الخوف، كما يقول الطبيب عاطف حلس، والذي يعمل في قسم الجراحة في مستشفى الشفاء الطبي.
ويقول حلس في حديث لوكالة الأناضول، إنه يقف عاجزًا عن الرد على سؤال الأمهات وأصواتهم المجروحة.
ويتنقل حلس بين جريح إلى آخر، واصفًا المستشفى وأقسامها بـ “الشاهد الحي” على جرائم إسرائيل.
وتابع: “لا يمكن تخيل حجم الإصابات، وحالة الجرحى، ما هو بين أيدينا جريمة حرب، أجساد متفحمّة، وأغلب الحالات تأتينا أشلاء مقطعة، بفعل الأسلحة المدمرة والمميتة التي تستخدمها إسرائيل”.
ولا يمكن الآن وصف الألم سوى بكلمات سريعة كما يؤكد حلس، فقادم الأيام سيكشف عن حجم المصابين، وما خلّفته الحرب من إعاقات، وأضرار جسدية ونفسية”.
ويقول “أشرف القدرة” الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية إن مستشفى الشفاء الطبي بغزة، يغص بالجرحى والمصابين، ومشاهد الموت اليومي.
وأضاف القدرة في حديث لوكالة الأناضول أن مستشفى الشفاء بغزة يعمل ضمن إمكانيات طبية محدودة، بفعل الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ عام 2007، وجراء قسوة وعنف العدوان والغارات الإسرائيلية.
وتابع: “المستشفى بات معلمًا لالتقاط الصور التي تكشف الجريمة التي ترتكبها إسرائيل بحق الأطفال والنساء واستهدافها للمدنيين”.
المصدر: الأناضول