أعلن يوم 13 حزيران/يونيو الماضي عن اختفاء 3 شبان من المستوطنين اليهود الإسرائيليين في منطقة الخليل. في 15 حزيران/يونيو، قالت الحكومة الإسرائيلية أن الشبان الثلاثة تعرضوا للاختطاف.
وبما أن اختطافهم قد تم في منطقة تابعة للسلطة الفلسطينية، بالرغم من أن هذه التبعية تخترق بصورة روتينية من قوات الاحتلال، حملت حكومة نتنياهو السلطة المسؤولية عن الاختطاف.
خلال الأسبوعين التاليين، تعهدت قوات الاحتلال وأجهزته الأمنية حملة واسعة النطاق في الضفة الغربية للبحث عن الشبان الثلاثة، شملت الاعتداء على آلاف الأسر من أهالي الضفة الغربية واعتقال المئات، بما في ذلك مسؤولون كبار في حركة حماس ومحررون سابقون في صفقات تبادل.
في 30 حزيران/يونيو، عثر على جثث الشبان المخطوفين قرب مدينة حلحول، التابعة لمحافظة الخليل. ولأن العملية الأمنية الواسعة للبحث عن الشبان الثلاثة أحيطت بحملة مسعورة من الكراهية ضد كل ما هو فلسطيني، شهدت مدينة القدس يوم 2 تموز/يوليو حادثة بشعة لاختطاف شاب فلسطيني من أهالي المدينة على يد نشطين يهود، لم يتجاوز عمره الخمس عشرة سنة، اتضح فيما بعد أنه أحرق حياً وألقيت جثته في منطقة حرشية من المدينة.
في السياق، تحول الاتهام الذي وجهته حكومة نتنياهو للسلطة بالمسؤولية عن حادث الاختطاف، إلى اتهام متصاعد لحركة حماس. وبالرغم من مرور كل هذا الوقت على الحادث، وادعاء الإسرائيليين أنهم قبضوا على المسؤولين عن عملية الاختطاف، لم تقدم السلطات الإسرائيلية دليلاً واحداً على مسؤولية حماس، أو أي تنظيم آخر، ناهيك عن مسؤولية قطاع غزة. الحقيقة، أن قيادة حماس أكدت أن الحركة لا علاقة لها بالعملية. ولكن ذلك لم يمنع قيام الإسرائيليين، خلال الأيام التالية للعثور على جثث الشبان اليهود، من شن غارات متلاحقة على القطاع. يوم الأثنين، 7 تموز/يوليو، أعلنت الحكومة الإسرائيلية رسمياً أنها بصدد تصعيد الهجمات وإطلاق عملية عسكرية واسعة ضد قطاع غزة. وهنا بدأ رد حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى على الهجمات الإسرائيلية، التي أخذت في إيقاع خسائر متزايد في صفوف الأهالي المدنيين، بإطلاق صواريخ على أهداف إسرائيلية متعددة.
هذه الحرب، الثالثة على قطاع غزة منذ الانسحاب الإسرائيلي وفوز حماس في الانتخابات، لم تردها حماس، ولا أي من الفصائل الفلسطينية الأخرى؛ لم يتخذ الفلسطينيون قرارها، وليس ثمة مسوغ واحد لإطلاقها ضد القطاع وأهله وتنظيماته المسلحة. هذه حرب اختارتها حكومة نتنياهو، واتخذ قرارها رئيس الحكومة الإسرائيلي، بدون أن يقدم للعالم مبرراً واحداً لمثل هذا التصرف البربري. هناك سببان رئيسيان خلف حرب نتنياهو، الذي عرف في فترات حكمه السابقة بمحاولة تجنب الحروب الكبيرة ومخاطرها السياسية. يتعلق السبب الأول بطبيعة التحالف الحكومي الذي يقوده نتنياهو، وحرصه على إظهار أن التزامه بأمن الدولة العبرية لا يقل عن التزام هؤلاء الحلفاء. أما السبب الثاني، فيتصل بطبيعة التحالف الإقليمي الذي ربط الدولة العبرية بعدد من الدول العربية، يقود منذ شهور حملة واسعة ضد قوى الإسلام السياسي. في محاولته اقتلاع حماس والقوى الإسلامية المسلحة في قطاع غزة، أو إضعافها بصورة فادحة على الأقل، يريد نتنياهو أن يقوم بدوره في موسم الحرب الإقليمية الشاملة على القوة الإسلامية وتعزيز تحالفاته العربية. في موسم الحرب على الإسلاميين، حسب نتنياهو أنه سيخوض حرباً «آمنة»، ليس ثمة مخاطر سياسية من خلفها.
بيد أن حرب نتنياهو كانت خاسرة من البداية. بدأ رئيس الحكومة الحرب باستغلال انتهازي سافر للوضع الإقليمي، ولكنه لم يكن يعرف متى وكيف سينهييها، أو ما هو هدفها الرئيسي على وجه التحديد. وعندما فاجأته التطورات، ازداد تخبطاً. بعد أسبوع كامل من الحرب، مئات الغارات، ومئات آلاف الأطنان من المتفجرات، لم تستطع آلة الحرب الإسرائيلية إيقاف إطلاق الصواريخ ولا فصم العلاقة بين قوى المقاومة والشعب في قطاع غزة.
شيئاً فشيئاً، أصبح واضحاً أن الجيش الأقوى في الشرق الأوسط، وأجهزة الأمن التي ادعت دوماً أنها تقرأ المجتمع الفلسطيني أفضل من قادته، لا يعرف تماماً الأهداف التي يريد قصفها. بعد تدمير المواقع التقليدية لأجهزة السلطة في القطاع ومعسكرات التدريب المعروفة للعامة والخاصة، وقف سلاح الجو الإسرائيلي عاجزاً عن استهداف مواقع إطلاق الصواريخ، التي أطلقت في أكثر من مناسبة والطائرات الإسرائيلية تحلق في سماء القطاع. وحتى عندما لجأ الإسرائيليون إلى سياسة المجازر للأهالي والأسر والمصلين، أظهر أهالي القطاع صلابة لا تقل عن صلابتهم في حرب 2012. بعد عشرة أيام على بدء الحرب، لم يعد لنتنياهو وحكومته سوى عدد قليل من الخيارات.
هدنة مقابل هدنة لم تعد صفقة مقبولة لقطاع غزة. بعد سلسلة من الانتهاكات لاتفاق 2012، الذي أشرفت عليه إدارة الرئيس مرسي، ليس ثمة عودة ممكنة للاتفاق إلا بعد تصحيح سلسلة الانتهاكات التي تعرض لها طوال العام ونصف العام الماضيين. بدون ذلك، فلنتنياهو أن يغامر باجتياح بري، واسع أو محدود، بكل ما يعنيه ذلك من عواقب وما يحمله من مخاطر. الخيار الآخر، أن يستمر في حرب جوية مفتوحة لا نهاية لها، في مقابل استمرار إطلاق الصواريخ على المواقع الإسرائيلية. في إحدى المرات، وبعد حالة الشلل المتقطعة التي تحدثها حرب الصواريخ، سيصيب صاروخ ما هدفاً ثقيلاً ما، ويبدأ الرأي العام الإسرائيلي في طرح سؤال الجدوى.
بيد أن هناك عواقب أخرى لخيار الحرب المستمرة. فبعد أن ساهمت المصالحة الفلسطينية في تعزيز موقع محمود عباس وسلطته، التي سبق أن عراها اصطدام مباحثات السلام للمرة المئة بالحائط، جاءت الحرب لتعيد التذكير بهامشية الرئيس الفلسطيني والسلطة، السلطة التي تقف عاجزة عن حماية شعبها وأمنه، لا في الضفة ولا القطاع. سيعمل استمرار الحرب على المزيد من تهميش السلطة، الشريك الفلسطيني الاستراتيجي للدولة العبرية وإحدى ضمانات أمنها، ويهدد باشتعال انتفاضة فلسطينية جديدة. أما على المستوى الإقليمي، فبدلاً من أن توجه الحرب ضربة قاصمة للإسلام السياسي، عززت من وضع التيار الإسلامي ومصداقيته لدى الشارع العربي، وأعادت له الوهج والروح التي ظن كثيرون أنه بصدد فقدانهما، ووجهت أصابع الاتهام والإدانة للدول العربية المتحالفة مع نتنياهو وحكومته. إضافة إلى ذلك، فإن استمرار الحرب قد يعزز مصداقية القائلين بأن السلاح هو الحل لأزمات المنطقة السياسية، ويعمل على انتشار العنف في المشرق بأسره.
حرب نتنياهو، باختصار، أخفقت، وهناك مؤشرات على أن رئيس الحكومة الإسرائيلية سيحاول أن يحقق في اتفاق نهاية الحرب ما فشل في تحقيقه حرباً، تماماً كما فعل أولمرت في حرب 2006 على لبنان. ما يعنيه هذا أن نتنياهو يحاول إقناع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية بأن الحل الآن هو نزع نهائي للسلاح في غزة مقابل مشروع ضخم لتنمية القطاع، تساهم فيه دول عربية نفطية وغربية، يفتح القطاع، من خلال ميناء دولي، على العالم. هذا التصور، كما يبدو، يجد تأييداً من الدول العربية ذاتها التي شجعت على الحرب. المشكلة في هذا التصور للحل أنه غير قابل للتطبيق بدون حرب، تقتلع حماس وقوى المقاومة الأخرى. بمعنى، العودة إلى المربع الأول.
في النهاية، ثمة دلائل أبعد وأكثر أهمية لهذه الحرب. في حروبها الثلاث الرئيسية ضد الفلسطينيين والمحيط العربي، 1948، 1956، و1967، حققت الدولة العبرية انتصارات ملموسة، عسكرية وسياسية، على السواء. هذه الانتصارات توقفت عند حرب حزيران/يونيو 1967. كل الحروب التالية، انتهت بهزيمة إسرائيلية أو بحالة من التعادل والوقف المؤقت للحرب، سواء كان الطرف العربي في الحرب دولة، دول، أو تنظيمات مقاومة.
من السذاجة، بالطبع، تضخيم قوة وإمكانيات بقعة صغير لا تزيد مساحتها عن 360 كيلومتراً مربعاً. ولكن واقع الحال، وبعد ثلاث حروب إسرائيلية متتالية خلال أقل من عشر سنوات، أن قطاع غزة لا يزال واقفاً على قدميه، وأن محاولات كسره، إسرائيلياً وعربيًا، قد أخفقت. هذه القلعة العربية – الإسلامية الصغيرة على ساحل المتوسط تؤشر إلى مسار جديد، وعلى الإسرائيليين والقوى الغربية رؤية هذا المتغير التاريخي والبحث عن أفق يضع حداً لنزيف الدم والعنف وعدم الاستقرار. ولكن هذا الأفق لن يكون حل الدولتين.