منذ أن تأسست إسرائيل في القرن التاسع عشر وتطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية في حالة تأزم دائم.
لقد تم “تطبيع” العلاقات التركية الإسرائيلية في عهد إدارة حزب العدالة والتنمية وما يزال يجري تطبيع هذه العلاقات دونما توقف. أدرك أن الجملة الأولى تبدو للهولة الأولى غريبة، إلا أن ما قصدته هو التالي: على النقيض مما هو شائع، تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية في حالة تأزم منذ تأسيس إسرائيل في القرن التاسع عشر. وكانت الفترات التي شهدت حالة من الود بين الطرفين هي الاستثناء على القاعدة. بل إن المشهد الذي يخطر ببال الناس في ثقافتهم الشعبية حينما تذكر إسرائيل هو ذلك الخلاف الذي حصل بين الصهاينة والسلطان عبد الحميد الثاني، الذي كان من أواخر السلاطين العثمانيين.
كان ذلك في التاسع عشر من يونيو من عام 1896 حينما قدم أبو الصهيونية السياسية تيودر هيرتزل عرضاً سخياً على السلطان عبد الحميد الثاني عبر مرساله فيليب مايكل نيفلينسكي مقابل موافقته على إقامة دولة يهودية جديدة في فلسطين. وتجدد تقديم العرض عدة مرات بعد ذلك عبر مراسيل أخرى في الفترة من 1896 إلى 1902. نقل نيفلينسكي إلى هيرتزل في اليوم التالي خبراً مفاده أن السلطان لا يريد سماع شيء عن الخطة، وبأن رده جاء على النحو التالي:
إذا كان السيد هيرتزل صديقاً مقرباً منك كما أنك صديق مقرب مني، فانصحه إذن ألا يمضي خطوة واحدة أخرى في هذه المسألة. لا أستطيع بيع قدم واحد من الأرض، فهي ليست ملكي، وإنما هي ملك الشعب. إن شعبي هو الذي كسب هذه الامبراطورية من خلال قتاله وتضحيته بدمه في سبيل ذلك، وسمد ترابها بمدمه. وسوف نرويها بدمائنا تارة أخرى قبل أن نسمح بضياعها من أيدينا. لقد قدم رجال كتيبتي في سوريا فلسطين أرواحهم الواحد تلو الآخر في بليفنا، ولم يتردد واحد منهم أو يستسلم. كلهم قدموا أرواحهم في أرض المعركة. إن الإمبراطورية التركية ليست ملكي وإنما ملك الشعب التركي، ولا أستطيع التنازل عن أي جزء منها. دع اليهود يوفروا ملياراتهم، فحينما تجزأ امبراطوريتي، قد يحصلوا على فلسطين مجاناً. على كل حال جثثنا هي التي ستجزأ ولن أوافق أبداً على أن يحصل ذلك وأنا على قيد الحياة. (المذكرات الكاملة لتيودر هيرتزل، طبعة عام 1960، ص. 378، 19 يونيو 1896)
من هذا المنظور، كانت أكثر “المراحل الاستثنائية” في علاقات تركيا بإسرائيل هي تلك المرحلة التي جاءت مباشرة بعد إطاحة العسكر بإدارة إربكان في الثامن والعشرين من فبراير 1997. فبعد عام 1997 نهج نظام القوي الكمالية سياسة الحفاظ على “العلاقات الاستراتيجية” بإسرائيل. وظلت هذه السياسة متبعة إلى أن وصل إردوغان إلى الحكم عام 2002. وللحقيقة فإن أول أمارات التدهور في هذه المرحلة من العلاقات الاستراتيجية ظهرت حينما وصف رئيس الوزراء السابق من حزب اليسار الديمقراطي أجاويد مجزرة إسرائيل في محافظة جنين بالإبادة الجماعية
في السنوات الأخيرة، لم تكتف تركيا برفض خطط المحافظين الجدد الأمريكان إبقاء سوريا محاصرة أثناء احتلال العراق، بل بدأت باتخاذ خطوات لتغيير الموقف المنطلق من مراعاة المصالح الإسرائيلية في التعامل مع الشرق الأوسط. فتركيا التي أغضبت المحافظين الجدد لأنها رفضت أن تكون شريكاً في احتلال العراق، أثبتت فعلياً نواياها في انتهاج سياسة مختلفة وذلك من خلال تطبيع علاقاتها مع سوريا. وحينما دعت تركيا خالد مشعل لزيارتها عام 2006، وذلك في استعراض وضاح لعزمها على إقامة علاقات دبلوماسية مع حكومة حماس المنتخبة، حينها انتقلت العلاقات التركية الإسرائيلية إلى مستوى آخر.
لدى قراءة إسرائيل الصحيحة للنوايا التركية عمدت إلى الانسحاب من لبنان رغم ارتباطه بحركة حماس، وبعد انسحابها مباشرة شرعت في محادثات لحل المشاكل مع سوريا من خلال وساطة تركية، وفعلاً تحقق إنجاز كبير خلال الفترة من 2007 إلى 2008. وفي الوقت الذي كانت إسرائيل وسوريا على وشك توقيع الاتفاقية التي توصلا إليها، أمر أولمرت ودون أي إنذار مبكر باجتياح قطاع غزة. لم تتح الفرصة منذ ذلك الهجوم للعلاقات التركية الإسرائيلية أن تتعافى
بعد عام واحد، بدأ فصل جديد في العلاقات بين تركيا وإسرائيل حينما انتقد إردوغان بشدة الرئيس الإسرائيلي وغادر المنصة بينما كانت الندوة تنقل على الهواء من دافوس. ثم ما لبثت العلاقات المتوترة بين البلدين أن انقطعت تماماً حينما هاجمت إسرائيل سفينة مافي مرمرة المحملة بمواد الإغاثة مما تسبب في مقتل عشرة أتراك من العاملين في الإغاثة الإنسانية. استمرت التوترات حتى عام 2013 حينما بادرت إسرائيل بتدخل من أوباما إلى الاعتذار للمرة الأولى في تاريخها. كانت تركيا قد وضعت شروطاً ثلاث قبل الموافقة على استئناف العلاقات: اعتذار رسمي لتركيا، تعويضات لعلائلات عمال الإغاثة ورفع العقوبات المفروضة على قطاع غزة.
بعد اعتداءات عام 2014 الأسبوع الماضي، صرح إردوغان بما يلي:
“في هذه اللحظة، ينهمر 400 ألف طن من القنابل الإسرائيلية على غزة. وصل عدد الذين قتلوا جراء ذلك 120 من الفلسطينيين ووصل عدد الجرحى 700. وتستمر إسرائيل في طريق كراهيتها. كنا قد قطعنا كافة علاقاتنا بإسرائيل بعد حادثة مافي مرمرة، فتدخت دول أخرى واعتذرت إسرائيل. لقد استجابوا للشرطين الأول والثاني من شروطنا. وكان لنا شرط ثالث إضافة إلى التعويضات. بدت إسرائيل كما لو كانت تنوي رفع الحصار، ولكن بدأت هذه الاعتداءات. أقول لإسرائيل أنت بحاجة لأن توقفي هذه الاعتداءات. إلا لم تفعلوا، فلن يكن ممكناً تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتركيا. وأنا هنا لا أتكلم عن كلمات بلا فعل. كنتم تتوقعون تطبيع العلاقات ولكنكم لم تنجزوا الجانب الخاص بكم من الصفقة. وهذا يعني أنكم لم تكونوا صادقين. كل الخطوات التي اتخذناها باتجاه تطبيع العلاقت مع إسرائيل باتت الآن حبيسة في صندوق.”
الفترة الاستثنائية من العلاقات بين تركيا وإسرائيل اقتصرت على الفترة التي تبعت انقلاب عام 1997. دعونا نلقي نظرة على التاريخ من خلال ما كتبه أفق أولوتاس محلل شؤون الشرق الأوسط في آخر مقال له:
29 نوفمبر 1947: صوتت الجمعة العامة للأمم المتحدة بثلاثة وثلاثين صوتاً مقابل ثلاثة عشر لصالح قرار تقسيم فلسطين. أعربت تركيا عن معارضتها مرة أخرى من خلال التصويت ضد الخطة.
26 نوفمبر 1956: بدأت أزمة السويس. أوضحت تركيا موقفها من خلال تخفيض العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل إلى حدها الأدنى.
حزيران (يونيو) 1967: اتخذت تركيا موقفاً واضحاً ضد إسرائيل وانضمت إلى الأقطار العربية في تنديدها بحرب الأيام الستة وبالتمدد الإسرائيلي المستمر. وكان القنصل التركي هو الذي أوقف الجنود الإسرائيليين عن رفع العلم الإسرائيلي فوق قبة الصخرة في القدس الشرقية.
30 نوفمبر 1980: أغلقت تركيا قنصليتها في القدس بعد أن أعلنتها إسرائيل عاصمة لها، وبذلك فهي تنحاز مرة أخرى، وبوضوح، إلى الجانب الفلسطيني.
تبين هذه المقتطفات أن تاريخ العلاقات بين تركيا وإسرائيل طغى عليه التوتر. ورد فعل تركيا على ما تقوم به إسرائيل حالياً إنما هو استمرار لموقفها المعارض لإسرائيل. من الواضح أن إسرائيل تنوي الاستفادة من فترة الهدوء التي سادت الشرق الأوسط بعد الثورات وذلك بهدف تعميق غزوها
بالإضافة إلى تقديم الدعم الإنساني لغزة والتصريح بدعمها لحماس، ما فتئت تركيا خلال السنوات الست الماضية تقوم بوظيفة أخرى في غاية الأهمية. فمن خلال الوقوف في وجه الاحتلال الإسرائيلي ومعارضة تسلح إسرائيل النووي وإقامتها للمستوطنات غير القانونية وحصارها لقطاع غزة، تلفت تركيا الانتباه إلى “مشكلة إسرائيل”، تلك القضية بالغة الأهمية التي لا يرغب أحد، بما في ذلك أوباما نفسه، التطرق إليها.
تأمل إسرائيل في أن يفقد إردوغان الأمل في تحقيق ذلك في يوم من الأيام. ولكن، حتى لو حصل، فإنه من المستحيل أن يكون لبلد له مثل هذا التاريخ المشار إليه بإيجاز آنفاً أن يصدر عنه أي رد فعل مختلف تجاه إسرائيل.