الصورة: عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930-2002)
يستمد كلامنا عن نقد المثقف راهنيته المباشرة من ثلاث ظواهر واقعيّة، هي: أولاً، تحالف مُجمَل النُخَب الثقافيّة والفنيّة في مصر مع المؤسسة العسكرية. ثانيا، قيام نُخَب علمانية عربية بالتنظير للحداثة والعلمانية (كأيديولوجيا قائمة على ركيزة مفصلية هي معاداة الإسلام السياسي السنّي والشيعي بشكل فاشي)، بدعم مالي وإعلامي من ملكيات خليجية رجعيّة. ثالثًا، انتكاس المسار الديمقراطي المصري بفعل تحالف بين قوى ثلاث أساسيّة، هي: البترودولار والعسكرتارية والنُخَب الثقافية (العلمانية الحزبيّة، والدينية الرسميّة)، حيث أرادت هذه القوى، نظرًا لتحيزاتها الأيديولوجية المعادية للديمقراطية، الذهاب بالحدَث إلى أقصاه من بتر وإقصاء للإسلاميين رغم وجود أجندة أخرى – كانت ضمن تحالف 3 يوليو 2013 نفسه – تسعى لاستئناف العملية الديمقراطية، بعد تقويضها وتحويلها إلى “ديمقراطية شمولية” في فترة حكم الرئيس محمد مرسي، وقبل دحرها تمامًا في ظل حكم المشير عبد الفتاح السيسي من وراء الستار ثم في أثناء حكمه على المكشوف.
لهذا، سنذكّر هنا بثلاثة مقالات نقديّة متميّزة، هي: “كيف نحرر المثقفين؟” (1980) لعالِم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، و”مؤامرة الفن” (1996) لعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار، و”سقوط التنوير الحكومي” (2005) للمُفكّر المصري نصر حامد أبو زيد، وما يجمع هذه المقالات هو طابعها النقديّ في التعاطي مع مجتمعات النُخبة والدوائر الثقافية والفنية، ونسعى هنا للتأكيد على أهم ما حملته من نقاط تاركين للقارئ/ة مهمة الاطلاع عليها، في مظانها، بشكل كامل:
يقوم جزء ملحوظ من اشتغال بورديو على تحليل “مجتمع النُخبة”، ويتوسل المفكر البنيوي التكويني في ذلك ببعض المفاهيم الاقتصادية بعد تمحيصها، من قبيل نحته لمفاهيم مثل “رأسمال ثقافي” و”رأسمال اجتماعي”، كما يركز على الأبعاد الرمزية في تناول موضوعاته، وعلى أهمية وجود “المثقف النقدي”، في حواره مع ديدييه أيريون (ت: د. هناء صبحي)، الذي جاء تحت عنوان: كيف نحرر المثقفين؟، قال بورديو: “أنا ضد وهم “المثقف دون روابط وجذور” .. وأُذكّر أنّ المثقفين، بصفتهم أصحاب رأس مال ثقافي، فئةٌ (مُهيمَنٌ عليها) داخل الطبقة المُهَيمنة، وأن عددًا من مواقفهم، في الشأن السياسي على سبيل المثال، له صلة بغموض موقعهم بصفتهم مهيمنًا عليهم من بين المُهيمِنين، أُذكّر أيضا أن الانتماء إلى الوسط الثقافي ينطوي ليس فقط على مصالح خاصة ومناصب أكاديمية أو عقود نشر وإعداد تقارير أو مناصب جامعية، بل أيضًا على إشارات اعتراف بالمثقف ومكافآت غالبًا ما تكون غير محسوسة لمن هو ليس عضوًا في هذا العالم ..”، ويقول أيضًا: “غالبًا ما يدعي المثقفون أن لديهم الأهلية (تكاد تكون بالمعنى القانوني للكلمة) المعترَف لهم بها اجتماعيًا كي يتحدثوا بلهجة سلطوية يتجاوزون فيها حدود كفاءتهم الفنية، خاصة في مجال السياسة، هذا الاغتصاب، وهو في صلب طموح المثقف على الطريقة القديمة، الحاضر على جميع أصعدة الفِكر، والمهيمِن على جميع الإجابات، نجده بتمظهرات أخرى، لدى رجال النظام المتنفذين أو التقنوقراطيين (…) يمنح المثقفون أنفسهم الحق المُغتصب في التشريع في جميع الميادين باسم أهلية اجتماعية غالبُا ما تكون بعيدة تمامُا عن الأهلية الفنية ..”.
لم يكن بعيدُا عن ذلك مقال جان بودريار: “مؤامرة الفن” الذي نُشر في جريدة التحرر Liberation بتاريخ 20 مايو 1996، والذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية والإعلامية الفرنسية، كما تعرض لتوظيف مُحافِظ من قبل اليمين المتطرف وعديد من التيارات الرجعية، يشبه ما تعرضت له مقولة “نهاية الفن” للفيلسوف الألماني فريدريش هيغل من استغلال يميني وارتكاسي، وهي على كل حال موضوع جدل كبير في أبحاث فلسفة الفن والجمالية. تحدّث بودريار في مقاله عن تواطؤ تقوم به النُخَب الفنيّة والإعلامية من أجل تمرير “أعمال فنية” خاوية ومخوخة، وعن نزعة “ما بعد جمالية” أو “ضد جمالية” في السياسات الفنية المعاصرة، وأعلن أن الفن المعاصر “يُستخدم للقضاء على نفسه وعلى موضوعه” وللاحتفاء بـ”سفك المعنى والخواء” ولتصدير “التفاهة والمديوكرية كقيم وأيديولوجيات”، وتساءل: “ماذا يُمكن أن يعني الفن في عالم صار بالفعل مفرطًا في واقعيته، باردًا وشفافًا وسوقيًا marketable؟ ماذا يُمكن أن تعني الإباحية في عالم صُمم إباحيًا على نحو مسبق؟”، “إنّه فن اختفاء المعنى”، ويقدّم بودريار نقدًا لاذعًا للسلطوية الفنية المعاصرة التي تُقدّم للجمهور موادًا تدّعي أنها فنية، بينما هي في حقيقتها لا تعني شيئًا، لكن النُخَب تقدّم وعدًا بالمعنى – الذي لا يعرفه أحد سواها!
أخيرًا، يكتسب مقال “سقوط التنوير الحكومي” للراحل نصر حامد أبو زيد أهميته من كونه قدّم مُساءلة جذرية لهوية المثقف المصري: ذاك الذي يقدّم نفسه كواحد من “أبناء رفاعة” وكحامل لهوية تسويغية وتبريرية أو كمجنّد من قِبل السلطة لمحاربة التطرف والإرهاب، وقد “كان اليأس العام هو الذي أوهم المثقفين أن التحالف مع السلطان سيحمي حقوقهم ويمكّنهم من الدفاع عن حرياتهم ومصالحهم المهدرة”، واستقلال المثقف عن السلطة الذي يدعو له أبو زيد يتمثل في وجود: “مسافات لا تفترض بالضرورة علاقة “عداء” بقدر ما تؤكد “الاستقلال”، وليس “الاستقلال” دعوى متعالية ضد العمل بقدر ما هو دعوة لتأكيد أهمية الرقابة النقدية في المجتمع، حتى في حالة تماثل مشروع النظام السياسي مع مشروع المثقف أو المفكر، وبعبارة أخرى يجب التمييز بين قيام المثقف بدوره من خلال فعاليته كمثقف ومفكر وبين أن يتحول إلى “موظف” في سلك السلطة السياسية، هناك فارق لا شك بين دور المثقف كحارس للقيم وناقد وبين دور “كلب الحراسة””.