في الأول من سبتمبر عام 1983، كانت الطائرة التابعة للخطوط الكورية تتوجه من نيويورك إلى سيول مارة بالمجال الجوي للاتحاد السوفيتي حينها. لكن طائرة مقاتلة من نوع سوخوي سو 15 أسقطتها في أقصى الشرق الروسي. قُتل حينها 268 شخصا بالإضافة إلى طاقم الطائرة. حينها ذُهل العالم من وقع صدمة إسقاط طائرة مدنية، أدانها الجميع عدا الصين التي قررت عدم التصويت على قرار إدانة روسيا.
بعد حوالي أسبوع من إسقاط الطائرة، اعترفت السلطات السوفيتية بإسقاطها، لكنها بررت الحادث بالقول إن الطائرة “الجاسوسة” لم تستجب للتحذيرات، وكانت تطير فوق منطقة “محرمة”. لاحقا تم التأكد من أن كل ادعاءات السوفيت كانت كاذبة، وأن الطائرة المدنية لم تتلق أي تحذيرات قبل إطلاق النيران عليها.
إسقاط تلك الطائرة كان عبئا كبيرا على السوفيت، وأثر بشكل بالغ في صورة السوفييت في العالم. الرئيس الأمريكية أدان الفعل معتبره عملا “بربريا”، واندلعت تظاهرات في اليابان وفي كوريا الجنوبية لرفض “المذبحة التي ارتُكبت بأيد باردة”!
في الفترة من إسقاط الطائرة وحتى وفاة الزعيم الروسي آندروبوف في فبراير 1984، شهدت العلاقات الروسية الغربية أسوأ أوضاعها منذ أزمة الصواريخ الكوبية في 1962، لم تستطع القيادة الروسية تجاوز الحدث أبدا، كما أنهم شعروا بالخوف الشديد من أن تقدم الولايات المتحدة على هجمة نووية، لذلك فقد نشروا صواريخهم في خريف 1983 وهذا ما عني أن الروسيين كانوا قادرين على إرسال صواريخ نووية في ظرف خمس دقائق بعد صدور القرار السياسي.
عندما ننظر للأمر بشكل عكسي الآن، نرى أن إسقاط الطائرة الكورية الجنوبية كانت بداية نهاية الاتحاد السوفيتي. لقد جاءت بعد الاجتياح السوفيتي لأفغانستان في 1979، وزادت من العقوبات الغربية بعد تفعيل القانون العسكري في بولندا واعتقال الآلاف بدون تهم في ديسمبر ١٩٨١، وزادت تلك الحادثة في نزع الشرعية الأخلاقية عن النظام السوفيتي وإبراز إفلاسه الكامل وزاد من عزلة موسكو الدولية.
لكن ما الذي يجعلنا ننظر إلى تلك القضية الآن؟
في الحقيقة إن هناك تشابهات كثيرة بين ما حدث مع إسقاط الطائرة الكورية وبين إسقاط الطائرة الماليزية في شرق أوكرانيا. الوضع قابل للمقارنة خاصة أن فلاديمير بوتين يعتبر أن مثله الأعلى هو آندروبوف. فمثلما كان الحال في أوائل الثمانينيات، روسيا تعاني الآن عزلة دولية وعقوبات غربية بسبب تدخلها السافر في أوكرانيا، كما أن هناك فجوة تتسع بين موسكو وبين الغرب من حيث التفاهمات أو التنسيق. بل إنه من بعض النواحي، فالأمر أسوأ بالنسبة لبوتين. ففي بداية الثمانينيات، كان الجمهور السوفيتي غير واع بما يجري بين الطفين الغربي والشرقي، لكن الوضع يختلف تماما هذه المرة، فالرأي العام الروسي يتم تغذيته الآن بواسطة إعلام مناهض للغرب، ويزيد من النعرات القومية، وهذا في حد ذاته سيجعل من الصعب للغاية على بوتين أن يناور.
بوتين هذه المرة أيضا لا يريد الاعتراف باحتمالية أن تكون الميليشيات الموالية له هي التي قامت بهذه العملية، تماما كما فعل آندروبوف في البداية، وهذا يعني أنه يخاطر بخسارة المزيد من الأرضية الأخلاقية التي يقف عليها، إذا أثبتت التحقيقات مسؤولية المؤيدين له عن ذلك.
ورغم عدم الاعتراف إلا أن هناك تحولات طفيفة في الموقف الروسي، الذي بدأ بالإنكار الكامل، قبل أن يتحدث عن مؤامرة لإقحام الموالين له، وأخيرا إلى الحديث غير الرسمي عن مؤامرة أخرى حيث كان يطير طياران أوكرانيان بالقرب من الطائرة المدنية، وهذا ما أدى للخطأ القاتل.
من ناحية أخرى، فإن هذه المأساة كسابقتها، من الممكن أن يستفيد منها الروس في تغيير سياستهم الخارجية تجاه المصالحة والاندماج مع الغرب. مثلما فعل جورباتشوف، يمكن لبوتين أن يفعل أيضا.
ورغم كل الأدلة التي يمتلكها العالم حتى الآن والتي تشير بشدة إلى مسؤولية الموالين لموسكو عن الحادثة، إلا أنه من غير المؤكد إذا ما كانت تلك عملية متعمدة أو خطأ قاتلا، وفي كل الأحوال لن يختلف الأمر كثيرا.
الصاروخ الذي أسقط الطائرة قد يكون الصاروخ الذي ينهي الحرب، فالانفصاليون الأوكرانيون أعربوا عن استيائهم خلال الأسابيع الماضية من قلة الدعم الروسي القادم من موسكو، وهذا ما يعني أن الروس قد يريدون حادثة مثل تلك قد يوقفوا الدعم تماما عن الانفصاليين وأن يسيروا في مسار المصالحة.
المصدر: فورين بوليسي