منذ نهاية الحرب الأخيرة عام 2012 على قطاع غزة والتي انتهت بهدنة مشروطة شبه عادلة، ولأول مرة في تاريخها، لم تضع الحرب السياسية الإسرائيلية أوزارها واستمرت في التصعيد الإعلامي تارة باستعراض جاهزية استعداداتها العسكرية من عدة وعتاد والألوية ذات التدريب الخاص (جولاني) .
بعد انقلاب مصر العسكري أصحبت اللهجة الإسرائيلية أوضح وأجرأ وزاد الأمر بتسويق قطاع غزة وحركة حماس بشكل خاص بأنهما مصدر تهديد للأمن القومي المصري، مؤسسة الإعلام والسياسية الإسرائيلية كانت تأكد ذلك وتشير دومًا إلى مشروع الشراكة مع نظام مصر الجديد في ظل وجود السيسي.
بعد محاولة ترتيب البيت الداخلي للانقلاب من إجراء مسرحية الدستور والانتخابات الرئاسية وأخيرًا مظاهر تتويج الرئيس المدني المستقيل من منصب وزير الدفاع ليكون القائد العام للقوات المسلحة ورئيس جمهورية، بعد كل ذلك أصبح المتابع يستطيع أن يرى لغة الحرب واضحة أكثر في لسان حال إسرائيل خصوصًا بعد الاطمئنان من الجانب المصري ورفع الروح المعنوية لدي جيش الاحتلال بعدما تم الإعلان عن امتلاكه أدوات وطائرات خاصة تساهم في حماية الجندي بشكل أكبر من ذي قبل.
وبدأت الحرب ..
تواصل التصعيد الإسرائيلي الغير مبرر في الضفة الغربية والقدس وبشكل مكثف منذ ما يزيد الشهرين مع بدء حملة #مي_وملح الداعمة للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال وازدادت حدتة بعد خطف 3 مستوطنين من قبل جهة لم تعرف حتى الآن، هنا بدأ التصريح الفعلي بنقض هدنة 2012 فطالت الاعتقالات معظم المحررين في صفقة شاليط والكثير من قيادات حركة حماس ونواب المجلس التشريعي الفلسطيني، ردًا على الانتهاكات الصهيونية بدأت تتوسع حالات الغضب في الشارع الفلسطيني بشكل كبير حتى شملت مع غزة والضفة ومدينة القدس الشريف وأراضي الـ 48 وكان من شأنها أن تزداد بشكل أكبر مع القمع الصهيوني لها مرورًا بحادثة قتل وتعذيب الطفل الفلسطيني أبو خضير حامل الجنسية الأمريكية، لم يطل الأمر أكثر من أسبوع حتى بدأت الحرب التي فجرت فيها المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب القسام مفاجآت نوعية لما حوته من تطور ضخم شمل مجالها التقني والعسكري والتكتيكي في إدارة المعارك والذي من شأنه أن يحدث أثرًا كبيرًا على خارطة المنطقة الغير مسقرة منذ بداية أحداث الربيع العربي.
حرب غزة وأثرها على مصر
كانت الورقة الفلسطينية ومنذ أيام المخلوع مبارك أقوى ما تملكه مصر بالنسبة لإسرائيل إلى جانب تصدير الغاز المصري بأسعار تشجعيه، ما نتج عن حرب غزة الأخيرة بالنسبة لمصر الدولة:
- خسارة ورقة الضغط السياسي على الجانب الفلسطيني بعد شيطنة حماس التي تتصدر المشهد الفلسطيني المقاوم باعتبارها أحد أفرع جماعة الإخوان المسلمين (الإرهابية) والتي كانت الأخيرة المبرر الأكبر الذي اتخذه الانقلاب وأداته الإعلامية في محاولة تبرير مجزرة رابعة والنهضة وما جرى من أحداث بعدها لإلباس الانقلاب العسكري ثوب ثورة جديدة.
- فقدان الثقة بين حكومة الانقلاب بقيادة السيسي وبين جزء كبير من الشريحة الشعبية الداعمة له تحت ما يسمى ثورة 30 يونيو بانتهاجهم سياسية علنية واضحة بتأييد الحرب على غزة والاصطفاف بجانب عدو الجيش المصري في حرب 1973 بحجة إرهاب حماس، وأًيضا إغلاق الشريان العربي الوحيد (معبر رفح) ومنع قوافل الإخاء من الشعب المصري الأصيل الذي كانت وعبر عقود قضية فلسطين حاضره في ذاكرته بغض النظر عن كل الاختلافات السياسية والدينية فيه.
- ترهل الدعم السياسي الغربي والأمريكي الذي كان يعول عليه الانقلاب كثيرًا، ووضع أشقاءه العرب (السعودية والإمارات) في موقف حرج وكان الفشل الذريع الذي منيت به المبادرة المصرية له دور كبير في هذا الأمر والتي أشارت العديد من وكالات الأنباء إلى الدور الإسرائيلي الكبير في صياغتها.
حرب غزة وأثرها على الخليج
الانقسام الخليجي بدوله الست بدا واضحًا للعيان بشكل كبير منذ بداية أحداث الربيع العربي، وجاءت حرب غزة حاسمة لكثير من التوقعات حيال السياسة الخارجية لبعض دوله مما سيترتب عليها التالي:
- توافق أكبر للتكتل الخليجي داخل المجلس (قطر، الكويت، عُمان) المشترك المصالح والرؤية لكثير من القضايا في المنطقة من أهما سوريا وفلسطين والعراق والعلاقة مع إيران، مقابل التكتل الآخر (السعودية، الإمارات، البحرين) وقد بدأت تتشكل تلك الملامح منذ قضية معاهدة إيران وأمريكا حول المشروع النووي ودعم ذلك مؤخرًا استقبال “خالد مشعل” من أمير الكويت والترحيب الشعبي الذي حظي به وزيارة وزير الخارجية العماني لقطر والكثير من المواقف المتوافقة التي أعلنتها وزارات الخارجية لكل من قطر وعمان والكويت.
- تحالف تركي قطري أقوى من ذي قبل، وهو ما يشكل خطرًا وإزعاجًا كبيرًا للسعودية والإمارات اللتان تعاديان الإسلام السياسي بشكل كبير جدًا، ومن أحد الملامح لهذا الأمر تقديم المبادرة المشتركة للتهدئة في حرب غزة وترجيب المقاومة بهذا الدور.
- ضعف الدور السياسي السعودي في القضايا الساخنة وإعادة ملف التحالف الذي بدا واضحًا مع إسرائيل في الفترة الأخيرة في وضع نقطة الصفر خاصة بعد توعك الانقلاب الذي دعمته في مصر وفرض المقاومة وعلى رأسها حركة حماس معادلة قوى جديدة في منطقة الشرق الأوسط وانكسار أسطورة الرعب التي سوقت إسرائيل مرارًا لفرضها على المنطقة والتي لم ترعب في حقيقة الأمر إلا الحكام العرب.
- ارتباك كبير في سياسة الإمارات المتوعكة صحيًا بعد تعويلها على دور الحرب على غزة في إضعاف أو إنهاء حركة حماس وإضعاف دور دولة قطر في سياستيها الخارجية، قطر التي اتخذت الإمارات منها مواقف عدائية كثيرة لم يكن آخرها سحب سفيرها مع السعودية والبحرين، حرب غزة قلبت كل التوقعات وجاءت على عكس ما تشتهي سفن أبو ظبي ودبي.
حرب غزة وأثرها على سوريا والعراق
وضعت حرب غزة النظام السوري وقرينه حزب الله في مأزق كبير أكبر مما هم فيه، حيث إنهم تبنوا ولعقود طويلة قضية المقاومة والممانعة ومعاداة محور الشر إسرائيل وأمريكا والغرب، حرب غزة التي قادتها المقاومة الفلسطينية وحيدة دون أي تدخل ولا حتى تصريح من أدعياء حزب الله والنظام السوري كان لها كلام آخر يدعم ويوافق ما بدأت بكشفه الثورة السورية منذ بدايتها :
- انهيار محور الممناعة (النظام السوري – حزب الله) بشكل نهائي وانتهاء دوره كورقة إيرانية مؤثرة في سياسات المنطقة مقابل ملامح لظهور محور آخر (قطر – تركيا – تونس).
- وضع النظام السوري في مأزق حقيقي أمام أنصاره وأصدقائه حيث سوق حركة حماس ومنذ الطلاق الذي حصل بينهما على أنها تركت صف المقاومة وأنكرت المعروف بالإشارة إلى نفسه وحليفه حزب الله على أنهم رعاة المقاومة والثابتون في التصدي للمؤامرة التي يشنها العالم الغربي مع العرب عليه.
- إطفاء الهالة الإعلامية التي حاول تنظيم داعش أن يصنعها بـ ضوضاء (الخلافة) ودعمه في ذلك أدوات إعلام غربية وعربية وأنظمة سياسية لها مآرب ببقاء هذا التنظيم في المنطقة بصورة العدو لتحافظ على شماعة الإرهاب، وبالتالي تضمن وجودها، وأيضًا كسر الإسطوانة المشروخة للتنظيم بعد إعلان أميره البغدادي حاكمًا عامًا للمسلمين وضمان نصرتهم في أي مكان وتسيير الجيش لأجله.
- كشف الغطاء أكثر عن طبيعة التحالف الطائفي القائم بين المالكي والأسد وحزب الله وارتباطه بمشروع النفوذ الإيراني للتمدد في المنطقة العربية.
حرب غزة وأثرها على إيران
إيران وسياستها التمددية في المنطقة اعتمدت منذ الثورة الإيرانية وإلى ما قبل بداية الربيع العربي على ثلاثة أمور:
- الأول: تبني قضية فلسطين كقضية أمة إسلامية.
- الثاني: معاداة أمريكا (الموت لأمريكا).
- الثالث: تنبي المذهب الشيعي كواجهة دينية إسلامية لإخفاء مطامح النفوذ الإيراني في المنطقة العربية.
في الفترة الأخيرة خسرت إيران الأمر الأول بشكل ملحوظ من خلال انخراط حلفائها في العرب (النظام السوري وحزب الله ) في جرائم إبادة للشعب السوري في ثورته واختراق إسرائيل لكل المحظورات التي تغنى بحمايتها النظام وحزب الله دون أي رد أو فعل من طرفهم وسقوط وعودهم بنصرة فلسطين (القضية المركزية)، أكدت على ذلك الحربين الأخيرتين على غزة.
فقدت إيران العامل الثاني مع بدء المفاوضات حول المشروع النووي مع أمريكا وتوقيع اتفاق مبدئي بين الطرفين وتغلب التيار الإصلاحي على المحافظ في تسيير شئون إيران.
وضعف الدور الثالث حينما انكشف الغلاف الديني عن المشروع الطائفي وبدا كما هو على حاله بشكل أوضح وما نتج عنه من تصفيات وقتل.
حرب غزة الجارية حاليًا جاءت لتؤكد كل تلك المفاهيم بصورة عملية وتنهي سيل التوقعات، خاصة بعد أن وجدت المقاومة وعلى رأسها حماس حضن عربي أكثر نقاءً من سابقه.
حرب غزة برغم قساوتها وفظاعتها من ناحية عدد الشهداء وكم الدمار التي تحدثه الآلة العسكرية الإسرائيلية، إلا أنها ستساهم في إعادة رسم خريطة القوى بين الدول وأيضًا حركات التحرر الثورية التي تجتاح العالم العربي، لأنها تضرب وتهز كيان رأس هرم الاستبداد والقتل (إسرائيل)؛ وبالتالي كل الأنظمة المتربطة بها ستضعف وتنهار تدرجيًا مع الوقت وخاصة الدول العربية الداعمة لحراك الثورات المضادة.