لا شك أن المقاومة الفلسطينية قدمت في الحرب الحالية أداء متميزاً، تمثل في الصمود الميداني والأداء الإعلامي، منبئة برؤية استيراتيجية قامت عليها الخطط الموضوعة. لقد أنجزت المقاومة وعلى رأسها كتائب القسام مفاجآت عدة أدهشت الصديق قبل العدو (كما كانت دائماً تعد) توجتها بعملية أسر الجندي قبل أيام.
وتنبع أهمية هذه العملية في ذروة أعمال المقاومة من أهمية وحساسية موضوع الأسرى لدى الشعب الفلسطيني، ولأسباب أخرى عديدة متعلقة بالتوقيت والكيفية والأداء الإعلامي، لا مجال للتفصيل فيها جميعها الآن، لكن ربما نكتفي هنا بدلالات الإعلان عن أسر الجندي بعد 24 ساعة من العملية وبعد مجزرة الشجاعية تحديداً، ومنها:
أولاً: تم الإعلان بعد تأمين الجندي والاحتفاظ به في مكان أمين بعيد عن ساحة المعركة. ولذلك لاحظنا أن الصهاينة لم يجن جنونهم للبحث عنه. فهم أيضاً يعرفون أنهم ما عاد في إمكانهم تحريره بالقوة.
ثانياً: انتظار التوقيت المناسب للإعلان، واستثماره في الحرب النفسية والإعلامية، ولرفع المعنويات، وقد كان الإعلان في نهاية يوم عصيب وبعد أخبار مجزرة الشجاعية، الأمر الذي كان له أبلغ الأثر في رفع المعنويات.
ثالثاً: صفعة لنتنياهو، إذ أتى الإعلان بعد مؤتمره الصحافي الذي لم يعلن فيه الخبر، فكانت ضربة أخرى من المقاومة له، وربما أصبحت أيامه على رأس الحكومة معدودة، بغض النظر عن مدة ومسار الحرب بعد الآن.
رابعاً: ربما تأخر الإعلان أيضاً لإتاحة الفرصة وعدم التغطية على جريمة العدو في مجزرة الشجاعية.
خامساً: لم يتأخر الإعلان كثيراً، للاستفادة منه كورقة قوة وضغط على طاولة مفاوضات ومبادرات التهدئة، إذ الكل الآن يعرف أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن الصهاينة سيكونون أقرب لقبول شروط المقاومة.
والحقيقة أن هذه العملية (أسر “أول” جندي في المعركة) بحد ذاتها، وقبل الحديث عن أي صفقة تبادل يخرج بها المئات من الأسرى الفلسطينيين على الأقل، أدت بتفاعلاتها إلى نتائج ملموسة على ثلاثة صعد:
الأول: تعديل ميزان القوة لصالح المقاومة في المعركة السياسية حول شروط وقف إطلاق النار. حيث أمنت المقاومة لنفسها ورقة ضغط مهمة، تسند موقفها الرافض لإعلان التهدئة دون تحقيق مكاسب مهمة ومشروعة للشعب الفلسطيني. ولا يخفى أيضاً مدى أهمية العملية في رفع معنويات المقاومين على جبهات القتال المتعددة.
الثاني: معنويات الشعب الفلسطيني في غزة، والذي يسطر أروع صور الصمود والصبر رغم آلة القتل الصهيونية التي عجزت عن هزيمة المقاومين وجبنت عن مواجهتهم، فصبت جام حقدها على المدنيين العزل، سيما في مجزرة الشجاعية. وقد رأينا كيف حول إعلان القسام عن عملية الأسر آهاتهم إلى زغاريد، وحزنهم إلى تفاؤل واستبشار، عمَّ جميع أنحاء القطاع.
الثالث: تحفيز الشعب الفلسطيني في الضفة تحديداً، بعد الأداء المتواضع له خلال الأيام الأولى للعدوان، جراء سنوات طويلة من الخطط السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية التي سعت للسلام الاقتصادي وصناعة الفلسطيني الجديد. هذه العملية، وقبل أي تبادل مجدداً، أرسلت رسائل مهمة للعقل الباطن الفلسطيني عن مدى نجاعة المقاومة واجتراحها الإنجازات من رحم التضييق والحصار، وإثبات أن عملية الوفاء للأحرار لم تكن الاستثناء بل الاستهلال، مقارنة مع نهج التسوية العقيم لأكثر من 23 عاماً. ولذلك رأينا الهبة الأكبر للضفة بعد إعلان خبر الأسر (ليلاً) وليس بعد مجزرة الشجاعية مباشرة (في النهار). فإذا ما وضعنا في الحسبان المكانة الاستيراتيجية للضفة في معادلة المقاومة والتحرير، عرفنا مدى أهمية هذا الحراك، ليس فقط آنياً ولكن أيضاً استيراتيجياً، خصوصاً إذا ما تم استثماره وتطويره.
ولا شك أن تبعات هذه العملية ونتائجها ستبقى تتفاعل مع التطورات اليومية للحرب، خاصة في حال أسر جنود آخرين، وهو احتمال مرجح في ظل فشل العملية الجوية واستمرار الاشتباكات البرية والعمليات النوعية للمقاومة على تخوم القطاع، وسنجد أنفسنا قريباً – بعد نهاية الحرب – أمام استحقاق صفقة تبادل أسرى جديدة تصاغ في ظل واقع جديد أعادت فيه المقاومة تشكيل معادلات وتوازنات القوة والرعب.