لأكثر من سبب، فإن الأخبار القادمة من غزة تتصدر عناوين نشرات الأخبار والصحف الأمريكية، ولأكثر من سبب أيضًا، يتجدد الخلاف حول دور الإعلام الأمريكي في تغطية الأحداث أو في “التغطية على إسرائيل”، لكن هناك شيء مختلف هذه المرة: الكثير من الأمريكيين يرون القصة من أعين الفلسطينيين، ربما لأول مرة على الإطلاق.
ربما كان الأمر معتادًا حتى اختطاف متطرفين إسرائيليين للطفل محمد أبو خضير وحرقه وقتله، ثم حاول متطرفون آخرون اختطاف ابن عمه طارق، الأمريكي الجنسية، الأمريكيون – وهذا طبيعي إلى حد كبير – سيشعرون بالتعاطف مع طفل أمريكي وقع في نزاع الشرق الأوسط وكاد أن يُقتل، وكان من النادر على الأمريكيين أن يروا طفلاً فلسطينيًا أمريكيًا عالقًا في صراع بهذا الحجم.
“سُهى أبو خضير” والدة طارق أخبرت إحدى أهم الشبكات الأمريكية على الإطلاق “إيه بي سي” ABC: “الفلسطينيون يعيشون ذلك كل يوم، لكن حتى هم، يقولون إنهم يتعايشون مع ذلك، لكن بالنسبة لنا نحن الأمريكيون فإن الأمر لا إنساني على الإطلاق”.
لقد مر بعض الوقت على قتل أبو خضير وضرب طارق ومحاولة اختطافه، لكن أعمال القتل المنظمة التي تقوم بها قوات الاحتلال تضاعفت وانتقلت إلى غزة، فعملية “الجرف الصامد” التي تقوم بها إسرائيل ضد غزة أدت إلى مقتل قرابة 700 مدني فلسطيني حتى الآن، وأقل من 30 جندي إسرائيلي بحسب أرقام الدولة العبرية وربما مدني واحد، وهذه الأرقام ليست متناسبة على الإطلاق مع حجم العنف الذي يقوم به الإسرائيليون في غزة.
أحد أكثر المشاهد التي علقت في ذاكرة الأمريكيين هو مشهد قتل الأطفال الفلسطينيين على شاطئ غزة، فقد قتل الإسرائيليون أربعة أطفال على الشاطئ أثناء لعبهم، على مرأى من صحفيين أمريكيين، الإعلام الأمريكي نقل الحدث عن قرب وشهد صحفي لقناة إن بي سي NBC الأمريكية بأن “الصواريخ بدت وكأنها تطارد الأطفال”، وانتشرت مشاهد الأطفال الصرعى في كل مكان في العالم.
هناك العديد من العوامل التي تؤثر في الخطاب الإعلامي الأمريكي، وبعيدًا عن الأحاديث المتداولة عن “اللوبي الصهيوني” وآيباك في الولايات المتحدة، إلا أن هناك عوامل أخرى تلعب بشكل فعال في تشكيل الخطاب الأمريكي، بداية من المهم القول إن عدد المسلمين في الولايات المتحدة تضاعف خلال العشر سنوات الأخيرة ليصل إلى قرابة نصف عدد اليهود الأمريكيين الذين يزيد عددهم على 7 مليون يهودي، هذه الأرقام وهذه الزيادة في عدد المسلمين الذين هم في غالبهم من المهتمين بقضايا الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية على وجه التحديد، تعني أن هناك شريحة ضخمة من المستمعين الذين “يريدون” أن يسمعوا وأن يتعاطفوا مع الفلسطينيين، لكن في ذات الوقت، هذه النسبة ليست مؤثرة بما فيه الكفاية لتغير الخطاب السياسي الأمريكي.
لا يمكن القول إن الخطاب الأمريكي العام قد أصبح متساهلاً مع الفلسطينيين، على الرغم من الرؤية المختلفة للحرب الحالية، فالخوف من الرأي العام أدى بعدد من المشاهير إلى حذف تغريداتهم أو التراجع عن تصريحات قالوها تضامنًا مع الفلسطينيين، المطربة ريهانا ولاعب السلة الأمريكي الشهير دوايت هوارد كانا ممن حذفا تغريداتهما المتضامنة مع الفلسطينيين بعد نشرها بوقت قليل.
هذا الأمر ظهر في عدد من التصريحات في الإعلام الأمريكي، إحدى المشاركات التي حظيت بمشاركة كبيرة علي مواقع التواصل الاجتماعي، هو ما قالته الصحفية الإيطالية الفلسطينية، والإعلامية في قناة إم إس إن بي سي الأمريكية “رولا جبريل”.
رولا كانت تتحدث عن سلوك المسئولين والإعلام الأمريكي، وقالت ردًا على سؤال “لماذا لا يكون القادة الأمريكيون أكثر أمانة حين يتعلق الأمر بفلسطين؟” قالت بحدة “بسبب آيباك (لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية) وبسبب الأموال التي تدفعها، بسببنا نحن العاملون في الإعلام، نحن سخفاء، نحن مؤيدون لإسرائيل بشكل مقرف! انظر إلى نتنياهو ورفاقه، كم مرة نستضيفهم على مدار اليوم، وكم مرة نستضيف الفلسطينيين، انظر ما الذي حدث لأيمن محيي الدين! نحن نجبر الساسة أن يتخذوا مواقف مؤيدة لإسرائيل”.
https://www.youtube.com/watch?v=B9HCE0vUy1c
ومثلما تحدثت رولا، فإن قضية أيمن محيي الدين وغيرها تُعد مثالاً هامًا على الانحياز الإعلامي – الإداري على الأقل – لإسرائيل ، فقد شهد أيمن محيي الدين، مراسل شبكة إن بي سي في غزة، والمراسل السابق لشبكة الجزيرة والذي عمل أيضًا لصالح سي إن إن من قبل، مقتل الأطفال الأربعة على الشاطئ، وتحدث على صفحته على فيسبوك عن الأمر.
كما أنه عبر في حديث له مع القناة عما اعتبره مؤيدو إسرائيل في الولايات المتحدة “تحدثًا باسم حماس”، فقد قال محيي الدين في أحد اللقاءات معه إن “مسلحي الجناح العسكري لحماس يعملون في أماكن قد تُعتبر سكنية لصغر مساحة القطاع، بالإضافة إلى الحصار المستمر على غزة والذي يمنع الفلسطينيين من الحركة بحرية”.
أيمن محيي الدين تم سحبه من غزة لاحقًا وإيقافه عن تغطية الحرب.
لكن كما تحدثت رولا في الفيديو الأول، فإن وسائل الإعلام الاجتماعية تغير ذلك الواقع، ومع الضغط الذي حدث على شبكة إن بي سي وقناتها إم إس إن بي سي فقد أعادت الشبكة أيمن من جديد إلى غزة بعد أربعة أيام من سحبه.
أحد كبار مراسلي سي إن إن، والخبير في المجال “جيم كلانسي” الذي عمل مع محيي الدين سابقًا في لبنان إبان حرب تموز 2007، قال إن أيمن محيي الدين تعرض لذلك الأمر بسبب كونه “عربيًا”، لأن “تغطية عربي لمثل هذه القضايا الحساسة، يجعله دومًا عرضة للاتهام بسبب كونه قريبًا من الفلسطينيين”.
الأمر نفسه تكرر بشكل ما مع مراسلة سي إن إن في فلسطين المحتلة، التي تعرض لها إسرائيليون في مستوطنة سديروت كانوا يشاهدون القصف الإسرائيلي على قطاع غزة من قمة تل، ويهللون كلما سقط صاروخ وانفجر في القطاع.
فقد هاجمها الإسرائيليون وحذروها من مهاجمة سيارتها، فوصفتهم في تغريدة لها على تويتر بأنهم “حثالة”، وهو ما أدى بالقناة إلى إيقاف عملها في تغطية الحرب، رغم تعرضها لتهديد مباشر لحياتها.
ديانا ماجناي حذفت تغريدتها لاحقًا.
لكن على الرغم من ذلك فإن الخطاب الإعلامي بشكل عام يمكن القول إنه تحسن كثيرًا لصالح الفلسطينيين، فطبقًا لعدد من الدراسات، لا يتحدث الإعلام الأمريكي في مجمله عن “الأراضي المحتلة”، لكن يتحدث عن “الأراضي المتنازع عليها”، ولا يتحدث الإعلام الأمريكي عن الفلسطينيين بصفتهم مقاتلين من أجل الحرية، ولا يذكر كلمة “مستوطنات” إلا فيما ندر، يتحدث عن “الجدار الأمني العازل”، وليس “جدار الفصل العنصري”، وهذا ما رصدته الدراسات خلال العقد الماضي.
وكشفت دراسة أمريكية أن كلمات مثل “قتل بدم بارد”، “قتل همجي”، “وحشية مفرطة”، “ذبح”، و”مأساة” لم تستخدم إلا لصالح الإسرائيليين، في حين أن كلمات مثل إرهابيين لم يوصف بها سوى الفلسطينيين، ورغم وجود حركات إسرائيلية عنيفة إلا أنها توصف في الإعلام الغربي بأنها “متطرفة” أو “متشددة”.
إن الحديث عن الإعلام الأمريكي ليس حديثًا عن الإعلام فحسب، لكنه حديث عن السياسة والإعلام والاجتماع والديموغرافيا والنفط وموازين القوى الدولية.