آجلاً أو عاجلاً، ستنتهي الحرب على غزة؛ وستنتهي بهزيمة حكومة نتنياهو وسعيها المجنون للحرب. أطلق الإسرائيليون نيران الحرب بدون مبررات، أو بمبررات واهية، ولم يدركوا، للمرة الثالثة، أن هذه البقعة الصغيرة، الفقيرة، المحاصرة من فلسطين، لن تركع لإرادة القوة، وأن من حق أهلها التمتع بأبسط الحقوق الإنسانية. وأطلق الإسرائيليون الحرب بدون أن يعرفوا إلى أين ستأخذهم، وكيف ستنتهي، وبأي شروط. وسيكون عليهم في النهاية دفع الثمن، ثمن الحرب البربرية، العمياء، التي كان هم من أرادها، وصفق لها، ولم يكترث للآلام التي تتسبب بها في حياة الآخرين. منذ انسحابهم الأحادي من غزة، عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على أن يبقى قطاع غزةرهينة لدى جيشها، ورقة في مخططاتها السياسية، وميدان رماية مفتوحاً لاختبار سلاحها. اليوم، آن للرهينة أن تتحرر، وللحصار أن ينتهي، ولميدان الرماية الوحشي أن يقف بواباته.
وستنتهي الحرب الثالثة على غزة عربياً هذه المرة بصورة مختلفة قليلاً عما انتهت إليها سابقاتها، سيما على مستوى علاقة مصر بفلسطين. إذ ليس ثمة شك أن هذه العلاقة احتلت، ولا تزال، موقعاً حيوياً في هوية كلا الطرفين،مصر وفلسطين. «استبداد الجغرافيا»، في نظر كثيرين بات هو المقرر لرؤية الفلسطينيين لهذه العلاقة. ولكن الناظر لها من الجانب الآخر، من الجانب المصري، عليه على الأرجح أن يرى «انتقام الجغرافيا». ومن الجغرافيا ولد تاريخ بالغ التعقيد، ليس من الواضح أن كثيراً من أبناء الشعبين يدركونه فعلاً. فقد ولد المشروع الصهيوني في فلسطين لاعتبارات دينية ـ أسطورية، وقومية صهيونية، بلا شك. ولكن هذا المشروع ما كان له أن يتجلى على أرض الواقع بدون الدعم الدولي المبكر، ودعم الإمبراطورية البريطانية على وجه الخصوص. ويمكن القول أن فكرة إقامة كيان لليهود في فلسطين ولدت في أوساط نخبة الإمبراطورية البريطانية قبل عقود من ولادة الحركة الصهيونية، ولكن بريطانيا أخذت أكثر من نصف قرن، بداية من أربعينات القرن التاسع عشر، قبل أن تقدم على أول خطوة فعلية لدعم المشروع الصهيوني. ما ولد الفكرة أصلاً في بريطانيا كان التوسع السريع الذي حققه محمد علي في المشرق، باسطاً سيطرته على قوس المتوسط الجنوبي – الشرقي، الذي اعتبرته نخبة الإمبراطورية في لندن، بحق، عقدة العقد في طرق التجارة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
دفع استبداد الجغرافيا الحركة الوطنية الفلسطينية نحو ارتباط لا مفر منه مع مصر. هذا صحيح، بالطبع، ولكن مصر وليس فلسطين بمعناها المجرد، كانت المحرك الأول للمشروع الصهيوني. ولم يكن لمصر هي الأخرى من فكاك من لعنة جغرافيتها، حتى قبل أن يعلن عن قيام إسرائيل على أرض فلسطين.
بيد أن مصر الحديثة ولدت منذ لحظاتها الأولى في انقسام على نفسها. لقرون طوال، عاشت مصر جزءاً من مجال إمبراطوري إسلامي واسع، أموي أو عباسي أو عثماني؛ ولم يكن لها بالتالي أن تحمل عبء تحديد وجهتها وهويتها. وبالرغم من أن مصر تمتعت بصورة من الاستقلال الذاتي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ثم خضعت للانتداب البريطاني بعد ذلك، لم تتحلل كلية من الرابطة العثمانية. وليس حتى مطلع العشرينات، عندما انهارت السلطنة في نهاية الحرب الأولى، أن أصبحت مصر مملكة وكياناً مستقلاً بذاته، وإن لم يتمتع بعد باستقلال وطني كامل عن بريطانيا. وهناك انفجر الجدل حول هوية البلاد ووجهتها، أية مصر تلك التي يريدها المصريون المحدثون، مصر الجامعة الإسلامية، مصر العربية، أو مصر المحصورة بحدودها، الشاخصة إلى الشمال، عبر المتوسط. تجلى هذا الجدل في حضور لطفى السيد لافتتاح الجامعة العبرية في العشرينات، في كتابي طه حسين «في الشعر الجاهلي» و»مستقبل الثقافة في مصر»، في كتاب على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»؛ كما على صفحات مجلات المقطم والمنار والفتح؛ وفي ظهور جمعيات مثل الجمعية الشرقية، ومصر الفتاة، والشبان المسلمين، والإخوان المسلمين؛ وأروقة أحزاب مثل الوفد والأحرار الدستوريين؛ كما في الأزهر، وحتى في القصر الملكي ذاته. تناول هذا الجدل مسائل الدستور والدولة والاستقلال الوطني، بالطبع، ولكنه تناول علاقة مصر بمحيطها، انتماء الأمة المصرية، ما يمكن أن تفيده من خيار الانتماء وما يترتب عليها من مسؤوليات.
لفترة، سيما بعد إلغاء المجلس الوطني للجمهورية التركية الخلافة في 1924، برز طموح إسلامي واضح، وسعى الملك فؤاد، مدعوماً من الأزهر وقطاعات إسلامية واسعة، لأن تصبح مصر مقر الخلافة. مع نهاية الثلاثينات، واشتعال المسألة الفلسطينية، اكتشفت مصر موقعها العربي. وفي العقد التالي، لعبت دوراً رئيسياً في تأسيس الجامعة العربية، وأصرت على أن يكون مقرها القاهرة وأمينها العام الأول مصرياً. وفي 1948، وبعد تردد من حكومة النقراشي، أصدر الملك فاروق أمره للجيش المصري بعبور خط الحدود مع فلسطين. ولم يلبث الدور العربي القيادي لمصر أن تعزز بعد ولادة الجمهورية، سيما بعد العدوان الثلاثي في 1956 والوحدة المصرية – السورية في 1958. ولكن ذلك لا يعني أن انقسام الهوية الذي صاحب ولادة الكيان المصري الحديث قد انتهى، أو أن ملفه أقفل، تماماً كما كل تجليات الانقسام الحديث الأخرى حول الدولة والديمقراطية وتوزيع الثروة والعلاقة معالغرب. عندما قرر السادات الذهاب إلى صلح مع الدولة العبرية، عمل على تأجيج الشعور الوطني المصري ونبذ انتماء مصر العربي. ولم يكن مدهشاً، في لحظة انقلاب سريعة بكل المقاييس، أن يجد أرتالاً من الكتاب والصحفيين والقيادات السياسية والشخصيات العامة، تدعم توجهه الجديد وتدعو له. المدهش، أن بعض من عملوا معه في سنوات السبعينات الحرجة تلك جاء من خلفيات قومية عربية أو إسلامية – سياسية.
في الجماعات، كما في الأشخاص، ليس ثمة طبقة واحدة أو بعداً واحداً للهوية. هناك دائماً طبقات وأبعاد متعددة، يمكن في ظرف معين وتحت شروط معينة أن يتخطى الواحد منها الأخرى، وفي ظرف وشروط مختلفة أن يتنتحى هذا البعد ويبرز آخر. وليس ثمة شك أن مصر عاشت مناخ تبادل الهويات خلال نصف القرن الأخير كما لم تعشه أية دولة عربية، وإن لم تكن مصر وحدها في هذه التجربة بين الدول العربية. الصحيح بالطبع أن الانقسام العربي المجتمعي لا يعني بالضرورة أن التوجه السائد في إعلام وثقافة وسياسات دولة ما هو توجه عموم الشعب. ولكنه، على أية حال، لا يصبح توجهاً سائداً بدون أن يكون توجه السلطة الحاكمة. على أن الهويات دائماً ليست خيارات مجردة، ليست شأناً محصوراً في دوائر الفن والثقافة والإعلام. الهويات هي أيضاً خيارات سياسية، ذات عواقب كبرى على موازين القوى وعلى الاقتصاد والتجارة والعمل، وبالتالي على مواقع الدول في المسرح العالمي. إن قررت بريطانيا، مثلاً، الخروج من الاتحاد الأوروبي، فسيكون لمثل هذه الخطوة أثر بالغ ليس على رؤية الأوروبيين لبريطانيا وحسب، بل وعلى تجارة واقتصاد وتأثير بريطانيا في القارة.
وما تشهده مصر اليوم من حملة شعواء على الفلسطينيين ودعوات للتخلي عن المسألة الفلسطينية، بل وامتداح للدولة العبرية وإشادة بحملتها الدموية ضد أهالي قطاع غزة، يستدعي هوية مصر للجدل، وقد ينتهي إلى خروج مصر بصورة غير مسبوقة من حسابات القوة الإقليمية. ثمة تحريض في مصر ضد الإخوان المسلمين، كما أن أزمة مصرية السياسية الداخلية بالغة التعقيد تتصل بعلاقة الدولة المصرية بالتيار الإسلامي. ولكن هذا شيء، وإعادة النظر في هوية مصر وروابط الجغرافيا والتاريخ شيء آخر. ليس ثمة غريب في كل هذه الأصوات التي بدت وكأنها خرجت فجأة من الظلام لتندد بثوابت البلاد. هؤلاء كانوا دائماً هناك، من عشرينات القرن الماضي، إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد، إلى سياسات حسني مبارك، لأنهم جزء من ظاهرة الانقسام الاجتماعي العربي. ولكن المشكلة تبدأ عندما يصبح خطاب هؤلاء هو بعينه خطاب نظام الحكم. المشكلة تبدأ عندما لا يرى هؤلاء أن هذه الحرب ستنتهي، هذه المرة، ليس كما انتهت الحروب التي سبقتها، وأن عواقبها ستكون وخيمة على كل من شارك فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.