الإرهاب نتاج الدكتاتوريات
إن المتأمل يلاحظ بأن التطرف الديني لا يمكنه بحال أن يتواجد في ظل أنظمة ديمقراطية تقوم على حرية ممارسة الفكر وحرية ممارسة المعتقد، تسمح بالتعدد والتنوع، كما تقوم على تكافئ الفرص أمام أبناء الشعب الواحد.
أمّا في ظل الدكتاتورية والأنظمة الكليانية القائمة على الاستبداد والقمع فلا غرابة أن يتحوّل الكبت إلى تطرّف والتطرّف يؤول إلى إرهابِ. فالأنظمة الشمولية لا تحترم حقوق الإنسان وتمارس الانتهاك والتعذيب إلى جانب التضييق على الحريات ونشر قوات الأمن والإفراط في تركيز أجهزة الاستعلامات. وهذا كله يندرج في باب الآليات التي تستعملها أنظمة تستمد شرعيتها من تركيع الشعب عوضا أن تستمدها من رضا المواطنين على انجازاتها.
ويعد السلاح الأبرز للدكتاتورية في سيرها نحو السيطرة على مفاصل الدولة وتركيع الشعوب هو الإعلام، فالإعلام هو الأداة المثلى لصناعة الرأي العام. وفي كتابه “السيطرة على الإعلام” يقول المفكر ودارس علم اللسانيات الأمريكي ناعومي تشومسكي أن مؤسس علم الاتصالات وأحد منظري العلوم السياسية هارولد لازويل يقول في سياق التحكم في الإرادة العامة للمواطنين “فيما يسمى اليوم بالدولة الشمولية أو الدولة العسكرية هو أمر ليس بالمستحيل، فقط عليك أن تمسك بهروات فوق رؤسهم، ولكن في مجتمع أكثر ديمقراطية وحرية فقدت هذه الوسيلة فعليك إذن اللجوء إلى أساليب الدعاية والمنطق، فالدعاية في النظام الديمقراطي هي بمثابة الهروات في الدولة الشمولية وهذا أمر يتسم بالحكمة”. هكذا مكنت الدعاية النظام النوفمبري في تونس من السيطرة على العقول بحيث لم تكن تفتح قناة تلفزية ولا إذاعية إلى من أولئك الذين يسبحون في فلك النظام أو كانوا أصهارا أوأقرباء أو من رجاله المخلصين. فلا صوت يعلو على صوت المديح والتطبيل، ولا صوت يعلوا فوق صوت الشكر والتهليل.
كذلك تعمل الدكتاتوريات على ضرب المنظومة التعليمية. والنموذج التونسي خير دليل على ذلك حيث انطلق ضرب التعليم منذ زمن الرئيس الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة الذي قام بإلغاء التعليم الزيتوني الأصلي منذ سنة 1961 (وفق تصريحات شيخ جامع الزيتونة المعمور الشيخ حسين العبيدي خلال حوار أجريته معه). إلغاء نجم عنه افتقار الساحة الدينية التونسية إلى علماء دين يتبنون النهج الوسطي المعتدل .
الإرهاب صنيعة المخابرات
ولكن لا يخفى على أحد أنّ لعبة الإرهاب تمسك خيوطها دوائر مخابراتية تحسن إدارة قوانينها ونظمها بما يتلاءم وأي رقعة جغرافية تريدها. فنهايات القرن المنصرم مثلت التقاء في المصالح بين الولايات المتحدة والتيارات الدينية المتشددة من خلال حرب أفغنستان حيث روجت الولايات المتحدة داخل أوساط الشباب العربي المسلم وعن طريق هذه التيارات ضرورة التوجه إلى أفغنستان لقتال الروس الملحدين فكانوا يخوضون حربا بالوكالة عن أمريكا في صراعها الإقليمي مع روسيا وقد ساهم النظام السعودي في تجنيد الشباب المسلم من خلال الفتاوى والمؤسسات الدينية استرضاءً للحليف الأمريكي.
وقد مثلت أفغنستان بجغرافيتها الوعرة ذات الجبال والكهوف فضاءا ملائما لتدريب هؤلاء الشباب كما لعب الشباب الجهادي دور راس الحربة في معركة كان يصعب على الجيوش النظامية الغربية خوضها خاصة وأنّ الولايات المتحدة لم تنسى بعد انتكاسة جيوشها في الفلبين.
حرب أفغنستان مكنت التيارات الدينية المتشددة الحاملة للفكر التكفيري من التمدد من خلال اكتسابها لرقعة جغرافية واسعة استطاعوا فيها تحقيق مغانم عسكرية من خلال ما حصّلوه من أسلحة روسية بعد نصرهم على السوفيات، بالإضافة إلى المغانم الاقتصادية من خلال تجارة السلاح والأفيون. من ناحية أخرى ظنت هذه التيارات أنها قادرة على إرساء حكم إسلامي يقوم على الشريعة ويعيد الخلافة التي ضاعت زمن الأتراك. وظنهم أن فكرهم التكفيري الجهادي قادر على إعادة ما ضاع زمن الأتراك المتصوفين.
أوكار الإرهاب والصراع مع الأنظمة
لكنّ هذه الجماعات سرعان ما تصورت بأن نصرها على الروس يمهّد لهم الطريق للنصر على أمريكا وإقامة دولة الخلافة. وقد استهلت هذه الجماعات جهادها ضدّ “ولي نعمتها والدعم السابق لها” الولايات المتحدة بمهاجمة سفارتيها في “كراتشي و”كينيا” وصولا إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتفجيرات برجي مركز التجارة العالمي بنيويرك. ولم تتوقف هذه التيارات عند هذا الحدّ بل سعت إلى نشر تشددها في مناطق أوسع حيث كونت خلايا لها في الجمهوريات السوفياتية السابقة على غرار البوسنة والهرسك وسراييفو والشيشان.
أمّا بأرض العرب فقد وجدت هذه الجماعات موطئ قدم لها بالسودان حيث كان يختبأ زعيمهم الروحي أسامة بن لادن، فاليمن، وصولا إلى المغرب العربي وظهور ما يعرف بتنظيم المغرب الإسلامي وهو النسخة الحديثة للتطور التاريخي للجماعة الإسلامية المسلحة، فالجماعة السلفية للدعوة والقتال والتي أعلنت انتمائها لتنظيم القاعدة (تنظيم ديني سني سلفي جهادي عابر للقارات زعيمه الملياردير السعودي أسامة بن لادن حتى 2011 وبعد قتله من قبل فرقة كوموندوس أمريكي عادت الزعامة للطبيب المصري أيمن الظواهري) في سبتمبر 2006 ليتغير إسم التنظيم في 2008 ويصبح “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”.
والغريب أن هذه التنظيمات المتشددة اعتبرت بأن كل الأرض تقريبا مجالا لجهادها ما عدى أرض فلسطين بل وظلوا لسنوات يرددون شعار “يا شعب فلسطين نصرك بيدك” بل ومازولوا يرفعون هذا الشعار إلى اليوم. في المقابل ظل هؤلاء التكفرييت يوجهون فهات بنادقهم باتجاه إخوانهم في الدين والأرض، وليس أدّل على ذلك من بيان صدر مؤخر عن تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام “داعش” تعلن فيه بأنّ الله لم يأمرهم بقتال إسرائيل، وفي المقابل يرفعون السلاح في وجه الجيوش النظامية بالعراق وسوريا بدعوى أنها أنظمة رافضية شيعية. صحيح أن النظامين السوري والعراق هما نظامان شيعيان ولكن المفروض أن يكون سبب إسقاطهما ومحاربتهما هو طغيانهما واستبدادهما عوضا عن انتمائهما الطائفي أو المذهبي.
أن تقاتل نظامي المالكي والأسد لأنهما شيعيان قد تعتبر حربا تخضع لإيديولوجيا طائفية بامتياز. ولكن الغريب هو أن تقاتل هذه الجماعات جيش تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 أي بعد وصول حركة النهضة الإسلامية إلى سلطة بل وحصولها على الأغلبية. حزب إسلامي ذو مرجعية إخوانية في ظل دولة سنية مالكية يتواجد على أرضها منارتين للفكر الإسلامي المستنير وهوما جامع الزيتونة المعمور وجامع عقبة بن نافع.
وبتاريخ الثامن عشر من رمضان ، يوم يوافق تاريخ غزة بدر التي مثلت منعرجا لنصر الدعوة الإسلامية. تاريخ اختاره التكفريين ليضللوا به الناس ويوهموا البعض بأن نجاح إجرامهم هو تمكين من الله. تاريخ اختاروه للقيام بعمل إرهابي، عمل نوعي لم يحدث مثله منذ استقلال البلاد. عملية تبنتها كتيبة تسمى “كتيبة عقبة بن نافع” أحد كتائب تنظيم “أنصار الشريعة” المحظور في تونس.
عملية راح ضحيتها 38 جندي من الجيش التونسي بين قتيل وجريح، 38 من الرجال اختاروا أن يكونوا خط الدفاع الأول في وجه الإرهاب التكفيري. رجال سقوطوا تحت ضربات الآر بي جي وطلقات الكلاشنكوف لآلة التطرّف المسعورة التي لن تتراجع حتّى تأتي على الآخضر واليابس جاعلة من تونس أرض محرقة، وفق كتاب منظرّهم أبو بكر ناجي تحت عنوان “إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة”.
كتاب من 113 صفحة ويحتوي على 5 مباحث تقوم أساسا على هدم كيانات الدول القائمة في مقابل تقوية شوكة التيار السلفي الجهادي من خلال ما أسماه بطريق التمكين والذي يتلخص في 3 مراحل هي الشوكة والنكاية والإنهاك، ثم مرحلة إدارة التوحش، وصولا إلى مرحلة قيام الدولة. ومن بين المناطق التي ركّز عليها الكتاب لتكون مناطق رئيسية في تمدد هذه الجماعات هي الأردن وبلاد المغرب ونجيريا وباكستان وبلاد الحرمين واليمن.
وفق هذا الكتاب لا يمكن البتة إسقاط تونس من حسابات هذه الجماعات. وهو ما تترجمه هذه العملية الإرهابية الجديدة بعد أقل من شهرين من هجوم على منزل وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو. هجوم جديد قامت به كتيببة عقبة بن نافع التي قوامها بين أربعين وستين فردا وفق تصريحات السلطات الرسمية التونسية. هجوم زمن الإفطار يحصد 15 شهيد و23 جريح.
أسباب توسع الإرهاب في تونس
لاشك أن إلغاء التعليم الزيتوني الأصلي ساهم بشكل أو بآخر في جعل الشباب التونسي عرضة لفتاوى تأتيه عبر الأنترنات والفضائيات تملأ عليه فراغه العقائدي وتجعل منه لعبة يسهل تحريكها من وراء البحار.
يبدو أيضا أن قلة ذات اليد وسوء الحال في بلد تبلغ نسبة البطالة فيه ما يناهز السبعمائة ألف عاطل عن العمل ساهم في ارتماء الشباب في أحضان الجماعات التكفيرية. فالجماعات المتطرفة والتكفيرية تعد من بين أكثر الجماعات ثراءً نظر لتجارة السلاح التي تدر عليها الكثير من المرابيح. وبالتالي يجد شباب المناطق الداخلية مبتغاهم في مثل هذه الجماعات خاصة مع اتحاد ظروف الفقر والتهميش مع فقدان الأمل في المستقبل في سعي لتغيير الواقع البائس.
لكن ليس كل فقراء المناطق الداخلية بتونس هم إرهابيون ومتطرفون بل فقط أولئك الذين لديه نزوع إلى العنف والتطرف وفي هذا السياق يقول الكاتب خلدون حمودة “بعد بحث ودرس، نهتدي إلى أن حركات التطرف، و ما يتفرّع عن التطرف من إرهاب، يكون أفرادها أناسا لديهم ميل بطبيعتهم التكوينية نحو الغنف والحدة والانغلاق على الآخر، ويجد هذا الميل ظروفا ملائمة، عائلية ومجتمعية، لنمو هذا الفكر ولاكتسابه المزيد من التصلّب واليَبَس، الأمر الذي ينتهي “غالبا ” إلى نتائج عنيفة ومجرمة”. ويضيف خلدون حمودة بأن ذلك لا يعني أنهم يولدون متطرفون بل هناك ظروف تغذي ميلهم نحو التطرف.
أما تقنيا فإنّ حلّ جهاز أمن الدولة بعد ثورة 14 جانفي 2011 وفي عهد وزير الداخلية فرحات الراجحي إلى جانب إقرار العفو التشريعي العام في ظل حكومة رئيس الوزراء محمد الغنوشي في أولى أيام الثورة التونسية والذي كان وراء إطلاق سراح إرهابيي الأمس الذين ألقى القبض عليهم نظام “بن علي” الرئيس السابق فيما عرف بأحداث سليمان (منطقة تقع بمحافظة نابل الساحلية في الشمال الشرقي للبلاد محافظة تعرف بازدهار السياحي). إلى جانب عزل العديد من القيادات الأمنية مما تسبب في تراخي المؤسسة الأمنية.
لتبقى المعضلة الكبرى هو اتحاد الجماعات المتشددة مع تجار المخدرات والمهربين ضدّ عدوهم الأوحد وهو قوى الأمن والجيش. فكلا الطرفين يسعى لتقويض الأمن القومي لتونس كي يجد موطئ قدم يساعده على التمدد فالإرهاب يريد إيجاد قاعدة له بالمغرب الإسلامي وفق كتاب إدارة التوحش وعصابات المخدرات تريد إيجاد أرض مفتوحة لترويج منتوجها وأيضا لتصديره إلى أوروبا خاصة مع بلوغ دول أمريكا اللاتنية مثل كولمبيا والمكسيك حد الإشباع. وفي هذا السياق قالت صحيفة “صنداي تلغراف” البريطانية أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والجماعات الإرهابية المتحالفة معه يجمع الملايين من الدولارات كلّ عام من وراء تأمين المرافقة المسلحة لمهربي الكوكايين عبر الصحراء الأفريقية. وأضافت الصحيفة أن تكثيف المراقبة على تجار المخدرات عبر الطرق التقليدية للتهريب دفع بعصابات المخدرات في أمريكا الجنوبية إلى تهريبه إلى الأسواق الأوروبية عبر أفريقيا.
الخاتمة
يبدو أن تونس بموقعها الاستراتيجي الرابط بين الصحراء الأفريقية والضفة الأوروبية تعد نقطة جد مهمة في حسابات التكفيريين، إلى جانب انهيار الجهاز الأمني بعد حل خلية الإرشاد والاستعلامات، أيضا غياب مصدر علمي لتربية النشأ على قيم الإسلام الوسطي والمعتدل، شكلت جميعها عوامل متظافرة داخليا, بالإضافة إلى السياق الإقليمي المتمثل في الانهيار الكامل للدولة بليبيا وتمدد ما يعرف بتنظيم داعش على رقعة كبيرة من الأرض بين العراق وسوريا. مثلت جميعها ورقة في يد الجماعات التكفيرية في وجه الدولة الفتية التي تتلمس طريقها نحو الديمقراطية. عوامل قد تقوض هذا المسار خاصة في ظل استعداد البلاد إلى انتخابات ستجرى قبل موفى سنة 2014، في وقت يتهم فيه التيار اليساري الإسلاميين بأنهم كانوا مظلة لحماية التيارات التكفيرية ما تسبب في قتل المعارض اليساري شكري بلعيد والنائب بالمجلس التأسيسي الحاج محمد البراهمي على أيدي عناصر من تنظيم أنصار الشريعة المصنف جماعة إرهابية.