تصارع الخيوط الأولى للفجر ظلمة الليل.. صوت الديكة يتعالى مختلطا بأصوات عالية مزعجة للمولدات الكهربية الضخمة.. وإمام يمد الخطى ليرفع الآذان ويلحقه بتكبيرات العيد.
ولكن إمام مسجد “الصديق” ببلدة “سرمدا” السورية لم يكن وحده في الشارع بهذه الساعة المبكرة من صباح يوم أول أيام عيد الفطر، بل كان هناك العديد من أصحاب المحال الذين للتو يغلقون أبوابها بعد ليلة طويلة.. اختلفت أحوال السوريين في استقبالها.. وإن كانوا أجمعوا أنها “لم تأت بالفرحة”.. بل بـ”الحرقة”.
يوسف همامة.. في الخمسينات من عمره، صاحب محل لحوم بسوق سرمدا، يروي “العيد جاء بالحرقة.. الحرقة على الشهداء والأبناء والبيوت المهدمة والأطفال المهجرة.. أنا راح من عائلتي 6 شباب، أحدهم ابني والآخر أخي، وأبناء أخي.. ما في عيد في سوريا إلا يوم سقوط النظام”.
ويقدر همامة الإقبال على شراء اللحوم في ليلة العيد ب 20 % فقط من الأهالي، مبررا ذلك بقوله “شخص ما يضمن حياته الدقيقة تحت قصف طائرات النظام في أي ليلة عيد يفكر وأي لحوم يشتري؟!”.
ويقاطعه شريكه في المحل الحاج عبدالله فهمي (62 عاما)، مسترجعا عادات افتقدوها في مثل هذه الليلة بقوله “كانت ليله العيد لها بهجة.. تشتري الناس اللحوم بكميات كبيرة ويعدون (الكبة) بأنواعها.. وأكلات معينة مرتبطة بالعيد.. ولكن هذه الطقوس غابت في ظل الوضع الأمني السيء.. فكيف بسوي (أطبخ) كبب وغيرها وجاري حزين ولديه شهيد؟!.. فمن أسبوع واحد فقط تم قصف سرمدا واستشهد 24 شخصا”.
حسام كايلي، حلاق السوق، يوزع نظراته بيننا وبين رأس أحد زبائنه قائلا “نعم.. هناك زبائن تأت في هذه الليلة، ولكن الناس حزينة، ومالها نفس من شيء.. وعلى مدار اليوم وحتى الإغلاق في الفجر، لم يأت أكثر من 50 زبونا”، مضيفاً “العالم عايفة تيابها (مثل يعني أن الناس قد باعت ملابسها، ويدل على شدة الفقر والاحتياج)”.
ويوضح “من قبل كانت وقفة (اليوم الذي يسبق العيد مباشرة) العيد تأتي قبله بأسبوع.. أي تبدأ الطوارئ عندي في العمل لمدة أسبوع، أضطر أستعين بعدد من المساعدين إضافي.. نحو 4 أشخاص، ونعمل يوميا حتى الفجر، بعكس الوضع المتأزم للناس حاليا”.
ألوان الحلوى والشيكولاته الزاهية تتلألأ خلف النافذة الزجاجية.. ولكن المحل يبدو فارغا إلا من أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة، وهو ما يفسره ابو محمد صاحب المحل قائلا “ما حدى (لا أحد) بيشتري.. الناس بتطلع (تنظر) للبضاعة وتمشي.. من قبل كنا نبيع في ليلة العيد طن ونصف أو طنين، أما الآن 500 كيلو على أقصى تقدير.. فالناس تشتري فقط من أجل فرحة الأطفال، ولكن الأهل ما لهم نفس من شيء”.
حذيفة (14 عاما) يتناول حذاءا طفوليا من على أحد الأرفف بمحل والده، ليساعد طفلة صغيرة على اختيار حذاء العيد، ويقول “الناس بدها تفرح عيالها.. ونحن وضعنا الحمد لله.. أحسن من غيرنا كتير..”، يقاطعه ابن عمه “عمر”، الذي يماثله في العمر، قائلا “نحن في سرمدا ما حدا بيخاف.. لا نسوان ولا أطفال..النسوان عندنا رجال”، ليعود حذيفة مستردا طرف الحديث بقوله “كمان بنساعد أي حد محتاج أو من المخيمات، وممكن نعطيهم ببلاش”.
أما محمد عبد “55 سنة” والد الطفلة التي كان يساعدها حذيفة فيقول “عندي 9 أبناء اشتريت لخمسة منهم، ولم أشتر للأربعة الآخرين، فمن أين لي بالمال لذلك؟!”، وتتدخل ابنته منتهى (15 عاما)، والتي كانت من بين الأربعة الذين لم يشتر لهم قائلة “لا توجد فرحة للعيد، كيف العالم بتموت ونحن بدنا نعيد؟!”.
وعلى بعد بضعة كيلو مترات من بلدة سرمدا.. وتحديدا في مخيم “دار الأيتام” للاجئين من الأرامل وزوجات المعتقلين، جلست أم باسل (42 عاما)، على باب خيمتها، تروي “نعم.. زوجي وأبنائي الاثنين معتقلين.. ولكن منذ 20 يوما فقط، اكتشفنا أيضا أن ابنتي براءة (27 عاما) مصابة بسرطان الكبد.. فأنساني حزني عليها حزني على زوجي وأبنائي المعتقلين.. فهل لا ينسيني العيد؟!”.
وتشير إلى زوجة ابنها المعتقل قائلة “والله كنت أبكي بين أشجار الزيتون عندما جاءت لتخبرني أن هناك ضيوفا يريدون مقابلتي”.
وغير بعيد عن من يكافح لانتزاع فرحة في استقبال العيد، كان هناك من يستقبلون الموت، ففي بلدة أطمة بمحافظة إدلب أيضا، كان البعض لايزال يرفع آثار الدمار الذي سببه انفجار سيارة مفخخة قبل العيد بيومين، وسط أكثر منطقة حيوية بالبلدة وفي وقت الذروة (عصرا)، ما أسفر عن سقوط 21 قتيلا بينهم 5 جثث متفحمة استحال التعرف عليها، بحسب عبدالوهاب عبدالوهاب مسؤول المجلس المحلي للبلدة.
ويشير عبدالوهاب إلى آثار الدماء على جدران أحد المحال المدمرة، وبقايا مقعد متحرك قائلا “من بين ضحايا التفجير أب كبير وولديه المعاقين، اللذين كان يساعدانه في محل لتجارة مستلزمات الهاتف الجوال”.
أما أسر الضحايا فقد فتحوا بيوتهم في ليلة العيد لاستقبال العزاء، حيث استقبلوا الموت بدلا من الفرحة.
“أبو حمد” (40 عاما)، المعتقل السابق بسجون النظام، يحمل لفافة بها ملابس جديدة له شخصيا، ولا تفارق الابتسامة وجهه قائلا “نشتري الأول للأولاد ولزوجتي، وبعده اشتريت أنا.. بدنا نعيد يعني نعيد.. بده يقصف بالطيران يقصف.. هي الحياة هتمشي هتمشي.. بدنا نفرح ونعيد تحت القصف ومهما كانت الظروف”.
المصدر: الأناضول