التحرش الجنسي مأساة تعيشها المجتمعات العربية التي طالما حافظت على رباط قيمها الأخلاقية.
اختلفت التحليلات حول الأسباب والدوافع، إلا أنها لم تختلف على أن التحرش هو انتهاك جسيم لجسد المرأة.
هذا الانتهاك وإن بدا كغاية، إلا أنه بات يستخدم كوسيلة للترويع والتنكيل ضد المرأة، ومع ازدياد نسبة مشاركتها في الحياة السياسية، غدا التحرش أداة ممنهجة للخلاف السياسي وسلاح موجه في يد كل الأطياف ضد المرأة.
التحرشات الجماعية بالتحرير خلال الاحتفاليات الأخيرة بفوز المرشح الرئاسي”عبد الفتاح السيسي”، كانت بداية لانتفاضة “اعلامية” كبيرة ضد التحرش، سرعان ما انقضت.
في 8 يونيو 2014 انتشر مقطع فيديو على موقع”يوتيوب” يُظهر امرأة متجردة تمامًا من ملابسها ومصابة بعدة اصابات.
“نائل أمين” عضو لجنة الدفاع عن المجني عليها وأمين عام حقوق الانسان بنقابة المحامين سرد لفرانس 24 تفاصيل الواقعة التي ترجع ليوم 3 يونيو:” تواجدت السيدة “اكرام” (42 عام) في ميدان التحرير بحكم عملها كصحفية لتغطية الاحتفالات، ففوجئت بتحرش الجناة بابنتها “هاجر” البالغة من العمر 19 عامًا، عندما حاولت الدفاع عنها تم محاصرتها وتمزيق ملابسها واستخدام الأسلحة البيضاء لإصابتها في أماكن حساسة أدت إلى حدوث قطع في الرحم” .. يواصل :” نتيجة للتدافع حولها، سقطت”اكرام” فوق نصبة شاي وتسبب الماء المغلي في إصابتها بحروق تصل لنسبة 40 %، وقد استخدم الجناة الدفوف للتغطية فوق أصوات استغاثتها، كما قاموا بمحاولة خنقها.”
يستبعد”نائل” أن يكون الدافع وراء الواقعة هو التحرش الجنسي، حيث أن التهم الموجهة للجناة هي شروع في قتل -هتك عرض- محاولة اختطاف أنثى، ويرى أن الهدف”سياسي” بالدرجة الأولى.
كريم محروس الباحث السياسي والمتحدث الإعلامي لحركة ولاد البلد المناهضة للعنف ضد المرأة، يصف عمليات التحرش الجماعية بال”تكنيكية”، ويشرح لفرانس 24 : “عدد المتحرشين فيها لا يقل عن 8 أفراد، تبدأ بعمل شكل مثل حدوة الحصان أو الدائرة حول الضحية، وتكون مجموعة صغيرة بينهم سابق معرفة، ثم يتبعهم مجموعة من الصبية حديثي السن (10 -18سنة)، يشتركون بمجرد مصادفة واقعة تحرش دون ترتيب مسبق، وأبشع ما فيه هو أن جماعات الإنقاذ غير المنظمة تقوم أيضًا بالتحرش، مثل واقعة المراسلة سارة لوجان.”
يرى “كريم” أن هناك نمطًا من التحرش الجنسي يكون لأغراض سياسية، لإضفاء صورة انحلال على هذه المظاهرة أو تلك الفعالية .
بينما رفض “مصطفى محمود” محامي مؤسسة “نظرة” للدراسات النسوية هذا التفسير بالنسبة لحوادث التحرش الأخيرة بالتحرير والتي يترافع عن عدد من ضحاياها، وصرح لفرانس 24 :”مقدرش أحدد مين اللى ورا المجرمين واذا كانوا عملوا كدة بدافع سياسى او لاء …لكن كل اللى اقدر اقوله ان الوقائع دى حصلت من 2011 بعد الثورة وقبل الثورة ولحد دلوقتى، وأنا برفض تسييسها لان الأهم إننا نتفق على التصدي ضد التحرش والاغتصابات الجماعية بدل ما نوجه الاهتمام للاتهامات السياسية في ظل الاستقطاب السياسى الحالى .”
عن قانون التحرش أكد “مصطفى” أن منظمات المجتمع المدني تقدمت بحزمة من التعديلات ، إلا أن التعديل الأخير جاء في مادة واحدة، وهو غير كاف في رأيه.
رغم أن الموقف الرسمي للدولة من هذه الحوادث كان هو الشجب والرفض، وبينما قام رأس الدولة بزيارة ضحية التحرير”اكرام” في مشهد لافت إعلاميًا حاملًا الورود ومصرحًا بقوله “حقك علينا”، إلا أن اتهامات بالتحرش توجهت إلى الأجهزة الأمنية.
ففي جامعة الأزهر التي شهدت موجات احتجاجية متتالية، روت “آيات حمادة” (18 عام) طالبة بكلية التجارة جامعة الأزهر وعضو سابق بحركة تمرد لفرانس 24 عن يوم القبض عليها من داخل الجامعة:” شفت ظابط بيتحرش ببنت فاعترضت عليه فقام اتحرش بيا وقبض عليا، جوة المدرعة بدأ التحرش اللفظي، واللي كان كله تهديدات من نوع (مش حنخليكم بنات)”.
ترى “آيات” أن ما حدث من تحرش لم يكن بغرض المتعة، فالعساكر على حد وصفها كانوا “بيقرصوا” البنات من أجزاء حساسة بالجسد، لكنها تراه تحرش بغرض الإهانة والتطاول.
لم تفهم”فاطمة لاشين” ذات ال18 عام سبب استخدام ألفاظ خادشة للحياء وتحرش باليد أثناء القبض على الفتيات من داخل الجامعة كما روت لفرانس 24، حتى سمعت حديث أحد الضباط أثناء احتجازها بداخل القسم قبل الترحيل وهو يقول للعساكر بحسب تعبيرها: “اضربوا البنات في الحتة اللي تفكرها إنها بنت.”
“فاطمة” طالبة الأزهر وصفت أثناء حديثها لفرانس 24 أن كل مكان بمعسكر الاحتجاز كان مكشوفًا: “حتى الحمام كان ملوش سقف، وبيوقفوا حراسة رجالة فوق، وطبعًا بيكون شايف كل اللي بتدخل الحمام.. ودة بحجة التأمين.”
في داخل نفس المعسكر، تذكر”آيات” أنه في إحدى المرات قام أحد الضباط بتفتيشهن ذاتيًا من فوق ملابسهن.
الوصول إلى بوابة سجن القناطر لم يكن نهاية لتجربة التحرش القاسية بحسب روايات “آيات”، ففي أولى خطواتها داخل المعتقل، تروي أنها قد تعرضت مع أخريات لأساليب تفتيش مهينة فاجأت الطالبات الأزهريات :” كان المفروض يفتشونا ، فكانوا بيوقفوا البنات مجموعات كل مجموعة تلاتة، ويقلعونا خالص قدام بعض… كانت السجانة بتحط إديها في موطن العفة وفي أماكن تانية حساسة بشكل قذر ومن غير ما تلبس جوانتي، بحجة إنها بتشوف إذا كان فيه سلاح مخبيينه، طبعًا أنا اتعرضت لنزيف بعدها.”
تفتيش حاجياتهن الشخصية لم يمر بشكل أكثر خصوصية، فتقول “آيات”: ” فيه عسكري كان بيفتش شنط البنات وبيطلع ملابسهن الداخلية ويعلق عليها تعليقات سافلة من نوع “حيبقى حلو دة عليكي ” “مقاسك دة بالظبط ..” وغيرها من التعبيرات المحرجة للبنات.”
لم تستطع الفتيات بداخل عنابر النوم أن يحصلن على شعور أفضل بالأمان وفقًا لما قالته والدة المعتقلة بسجن القناطر آية عبد الله لفرانس 24، فقد أوضحت أنه ذات مرة كانت الفتيات داخل العنابر بملابس النوم، وإذا بالعساكر والضباط يقتحمون العنبر، وعندما تفاجأن، قالوا لهن “احنا كمان حنستأذنكم؟!”
هذه الادعاءات تم تحرير بلاغات بها وفقًا لما ذكره أصحابها، إلا أن تصريحات مساعد وزير الداخلية المصري لحقوق الإنسان في 3 يوليو الجاري لوكالة “الأناضول ” جاءت نافية لوجود أي انتهاكات جسدية داخل السجون المصرية، وأضاف في تصريحاته: “لو كان صحيحا لكانت السجينات قدمن شكوى للمجلس القومي لحقوق الإنسان أو بلاغ للنيابة العامة التي بدورها تنتقل لسؤال المسجونة وهو ما لم يحدث في أي حالة من المسجونات.”
“التعاطف الاعلامي الكبير مع قضية “اكرام” ضحية التحرش بالتحرير، وزيارة “السيسي” لها ” هو ما شجع “ندى أشرف” (24 عام) الطالبة بجامعة الأزهر أن تعزم أخيرًا على الإبلاغ عن ما تعرضت له من انتهاك داخل إحدى المدرعات، في 31 ديسمبر الماضي داخل جامعة الأزهر.
هذا ما أخبرته “ندى” لفرانس 24 في حديث خاص، والذي نفت فيه صلتها بالمظاهرات أو بجماعة الإخوان المسلمين، وأكدت أنها عضو سابق بالحزب الوطني المنحل.
عن تفاصيل الواقعة قالت: “يومها كنت رايحة الامتحان وكان فيه مظاهرات في الجامعة، اتضرب غاز جامد فأغمى عليا، فوقني العساكر بالضرب بالمواسير وجرادل الزبالة، لما قمت لقيت ظابط بيقبض على بنت وبيمسكها من صدرها، قلتله حرام عليك تمسكها كدة وشدتها منه، قام سابها ومسك فيا وقالي مش إنتي عاملة فيها دكر، وخدني لغاية المدرعة وكان معاه العساكر بيتحرشوا بيا طول الطريق لغاية ما وصلنا، ضربني على ضهري وزقني على الأرض، من كتر الضرب مقدرتش أقوم، أمر العساكر يقفوا على أول المدرعة وكان فيهم ناس بتضحك وواحد بيعيط .. الظابط قعد على ايدي وصدري ولقيته بينزل هدومه وبيحط عضوه الذكري على فمي وصدري، بعدها حصلت عملية اغتصاب كامل، قالي إنتي مطلعتيش بنت، قلتله أنا متجوزة ومخلفة يا عديم المروءة …هددني إني لو حكيت اللي حصل حيأذيني.”
تواصل: “دخل العسكري اللي كان بيعيط وإدالي مناديل لإني كنت برجع دم، خدوني بعدها على القسم واتحجزت ..خفت وقتها من تهديدات الظابط إني أقول اللي حصل.”
قالت “ندى” أنه تم توجيه لها تهم التظاهر واتلاف المال العام وغيرها من الاتهامات، وأنه بعد إحالة القضية إلى الجنايات، أخبرها المحامي بضرورة الابلاغ عما تعرضت له من انتهاك جسدي لتأخذ حقها هي أيضًا، وقد قامت بعمل بلاغين بالواقعة إلا أنه تم حفظهما..تضيف: “طلبوا مني أجيب اسم الظابط وطبعًا حعرف اسمه ازاي إذا كنت مش عارفة شكله، يوم الواقعة كان ملثم، أنا دورت على الانترنت وطلعت من صور المظاهرات بتاعة الأزهر صور ظابط بيقبض على البنات وله نفس الهيئة وجمعتها وقدمتها للنيابة، وأصلًا الأزهر مكنش فيه اليوم دة غير مدرعتين، يعني سهل يطلعوا أسامي الظباط اللي كانوا موجودين.”
أشارت أنه بعد ظهورها على قناة الجزيرة، تم اخطار محاميها بإعادة فتح التحقيق في البلاغ، وأوضحت أن النيابة كانت متعاونة معها هذه المرة.
“ندى” التي لاقت لوم وانتقاد من زوجها حين علم بالواقعة، حيث قال لها على حد تعبيرها :”وانتي ايه اللي خلاكي تشدي البنت؟” غادرت منزل الزوجية، وتواصل :”حاولت أنتحر بعد الواقعة بيومين لكن الحمد لله محصليش حاجة، وبعدها قررت إن مفيش حاجة تستاهل إني أموت ربنا غضبان عليا.”
أكدت “ندى” في ختام حديثها لفرانس24 أنها إن لم يتم سجنها على خلفية القضية الأولى، تنوي مواصلة دراستها لكنها ستقوم بالتحويل من جامعة الأزهر، وأنها الآن أصبحت نادرًا ما تغادر المنزل.
لم يفرق التحرش السياسي بين بنات أي من التيارات، فالصحفية اليسارية “ايزيس خليل” تعرضت لما لم تتوقعه أثناء تواجدها بإحدى المؤتمرات الصحفية المنددة بحبس الناشطة السكندرية “ماهينور المصري” في مايو الماضي، تروي في شهادتها : “بعد إنتهاء المؤتمر طاردت قوات الداخلية والمباحث بقيادة رئيس المباحث الشباب والبنات في الشوارع المجاورة لمقر المكتب المستضيف للمؤتمر ..لم نقم بمظاهرة ولا أي شيء مخالف للقانون من منظوره مجرد أن الشباب بعد انتهاء المؤتمر رفعوا صورة ماهينور لدقائق فقط ورحلوا..
تحفظوا عليا أنا وفتاة في جانب من المدخل وحدنا ووجهنا للحائط يتحرشون بنا جنسياً ويشتموننا لدرجة إنني كنت أحاول أن أخرج يد أحد عساكر الأمن المركزي من بنطلوني وإذا تحركت أي حركة زيادة يضربونني في ظهري بالسلاح حتى لم أعد أستطيع أن أقاوم…
ثم جاء رئيس قوات الأمن المركزي وأخرجنا في طابور أمام الناس في الشارع وهو يسب أتغندري يا “شرمو..” إنتي وهي.”
تقول “ايزيس” أنها تقدمت بمحضر للنائب العام وعندما اطلع عليه مساعده تعجب من الواقعة وسألها : “ده حصل فعلاً !” .. فقالت له “نعم!” لكن دون جدوى .
نيفين مسعد -أستاذ العلوم السياسية وعضو المجلس القومي للمرأة والمجلس القومي لحقوق الانسان تحدثت إلى فرانس 24 عن التحرش السياسي وقالت أنه دائمًا ما كان موجودًا سواء قبل 25 يناير أو بعدها باستثناء ال18 يوم، لكنه بدا أوضح بعدها.
ترى “نيفين” أن الصدام مع هذه الظاهرة بدأ حينما تم التحرش بمجموعة النساء التي توجهت للاحتفال باليوم العالمي للمرأة مارس 2011 بميدان التحرير، واتهموهن حينها بالعمالة.
وقالت: “أعتقد أن المتحرشين في هذه الحالة ينقسمون إلى فريقين، فريق يستفزهم شكل خروج المرأة بصفة عامة، وفريق من المدفوعين سواء من جهة السلطة أو من جهة جماعات الاسلام السياسي، وهو التحرش الممنهج.
وقد رأينا ذلك في التنكيل بالناشطات السياسيات بأفعال التعرية والاهانة ، وفي الهجوم على احتفاليات تنصيب “السيسي” لتشويه سمعة الفتيات المحتفلات.”
لكنها نبهت أننا لا يجب أن نغفل أن هناك تحرش يحدث للغرض الجنسي، ونبالغ في ربط كل تحرش بالغاية السياسية.
لا تزال الاتهامات تدور داخل دائرة مفرغة بين أطراف صراع خفية لا تتضح سوى أناملها العابثة بأجساد النساء، ولا تستهدف سوى السلطة، فتارة تنتهج التحرش وتارة تستهجنه، بحسب الطرف المدان، ليصبح “التحرش الجنسي” هو لعبة السياسة الجديدة وأداتها لتسديد الأهداف في مرمى الخصم!