سنحاول في هذا المقال الموجز إلقاء الضوء على أسباب تضخّم حجم تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) ميدانيا في بعض المناطق في الشام والعراق، وعلى المستوى الإعلامي كذلك.
وسنلقي الضوء بشكل خاصّ على ستّة نقاط لها معالم بارزة منذ دخول داعش على خطّ الثورة السورية، ولا أزعم أنّها جميع أسباب تضخّم داعش، ميدانيّا وإعلاميّا، وإنّما أرى ضرورة تسليط الضوء عليها لتساعدنا في فهم الاستراتيجية التي أدّت لنجاح التنظيم ميدانيّا، وإلى انتشار صيته إعلاميا، حتى بات القاصي والداني يتساءل: ما هي داعش؟ لكثرة ما يسمعون اسمها في الإعلام الموجّه إليهم.
أولا: من أبرز الأسباب لذلك شدّة وطأة النظام على المجاهدين من الثوار في سوريا، مقابل كفّ يده بشكل واضح عن مناطق تواجد داعش؛ ففي الوقت الذي كان الثوار يواجهون فيه النظام وداعش، كانت داعش تضربهم من الخلف وتغدر بهم. ويمكن لأي منصف أن يقارن بين حجم قتال النظام للثوار في الغوطة وريف حماة وحلب وإدلب ودرعا وغيرها، وبين قتاله لتنظيم داعش في مناطق تواجده في الرقة وجرابلس ومنبج وغيرها؟ فهل حاصر النظام الرقة بالحجم الذي يحاصر فيه حلب الآن؟ وهل تقاتل داعش النظام كما يقاتله المجاهدون في الثورة السورية الآن؟! إنّ المقارنة البسيطة تُظهر فارقا كبيرا في ذلك؛ حيث ينخرط الثوّار في قتال النظام في أماكن سيطرته، بل ويرابطون حول دمشق، ويعتبرهم النظام عدوّه الأول، بينما يقاتل تنظيم داعش الثوار في الفترة الأخيرة أكثر ممّا يقاتل النظام، وقد قامت دولته المزعومة في غالب مساحتها على أراض حرّرها الثوار فانتزعها منهم بالغدر والقتال.
ثانيا: غفلة المجاهدين وحسن ظنّهم بالدولة، مقابل غدرها وخبثها وتخطيطها لذلك، فقد كانوا يتعاملون معها – حتى بعد قتالها – بالمبدأ الصنميّ “إخوة المنهج”، فشهدنا اتفاقيات بين أحرار الشام والنصرة وغيرهم من جهة، وبين داعش من جهة أخرى، تسمح بمرور أرتال داعش إلى الرقة وغيرها، تلك الأرتال نفسها هي التي لم تأخذها الرأفة بالمجاهدين فقامت بذبحهم دون رحمة. بهذه الطريقة أدّى تهاون الثوار مع داعش – وخصوصا الكتائب الإسلامية – إلى تفوّقها في بعض المناطق، وكان من النتائج الحاسمة لهذا التفوّق سيطرة داعش على بعض المعابر وعلى حقول النفط، ممّا ضاعف في قوّتها بسبب المال الذي درّته عليها.
ثالثا: تردّد المجاهدون في الشام في قتال المنتمين لداعش، ولم يقاتلوهم باعتبارهم مرتدّين كما يفعل مقاتلو داعش، وقد رأينا صبر أحرار الشام وغيرهم عيانا حين قتلت لهم داعش الكثير من عناصرهم (كأبي عبيدة البنشي، والطبيب ريان، وجنود آخرين) وكيف أصرّ الأحرار على التحاكم إلى الشرع حتى رفضت داعش ذلك وزادت في طغيانها. بينما يقاتل مجرمو داعش المجاهدين باعتبارهم “مرتدين”، ويحملون تجاههم عقيدة مفاصلة صلبة، ويعتبرون قتالهم من أولى الأولويات، فقد قال متحدّثهم العدناني واصفا قُطعان مقاتليه: “شرابهم الدماء، وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات” (يقصد المجاهدين، فهم يعتبرون مجاهدي الثورة السورية من الصحوات المرتدّين!).
رابعا: اعتمدت داعش على خطاب إعلامي “شعاراتي” يلمس ألباب المسلمين من السطوح، وهو خطاب إقامة الدولة الإسلامية والخلافة وقتال جميع العالم وتكسير سايكس بيكو.. لقد تربّى معظم الشباب السلفي والجهادي وغيره على هذه الأدبيات كأسس يميّز من خلالها بين المحقّين والمبطلين، وتُلهمه في غربته التي يعيشها في ظلّ الأنظمة العلمانية. في المقابل كانت كتائب الثورة بما فيها الجبهة الإسلامية والتشكيلات الإسلامية الأخرى وجبهة النصرة والجيش الحرّ وما ينضوي تحت مسمّاه من كتائب مستقلة منشغلة بشكل كبير بنصرة الشعب السوري والتخطيط لكيفية إسقاط النظام، ولم يكن يشغلهم إطلاق هذه الشعارات وحشد الشباب عليها بالطريقة التي تقوم تقوم بها داعش. أدّى هذا الأمر إلى انجذاب الكثير من الشباب إلى داعش، ممّن يفضّلون الشعارات البراقة على التفكير العميق في المضامين والمآلات، وهكذا اندفع آلاف الشباب من شتى بلاد المسلمين إلى سوريا والعراق للانضمام لداعش، اندفاعا وراء الخطاب الإعلامي البرّاق الذي ألهم تفكيرهم السطحي، وفي هذا الجانب يمكن ملاحظة المستوى الثقافي المتدنّي الذي يتمتّع به الكثير من هؤلاء الشباب من خلال عشرات مقاطع الفيديو التي تُظهرهم وهم يتحدّثون.
خامسا: كنتيجة للنقطة السابقة أصبح الاهتمام الإعلامي بداعش أكبر جهة الإعلام الشبابي للشباب المنتمين لداعش أو المؤيدين لها؛ حيث يعملون ليل نهار في نشر ما تقوم به مع إرفاق هذه الشعارات. قارن مثلا بين أخذ داعش للفرقة 17 المجاورة للرقة من نظام بشار (بعد أن أنهكها الثوار في السابق)، وبين تحرير المجاهدين في الثورة السورية لأكبر ألوية النظام في درعا قبل أيام أو الاقتراب من قلب دمشق في جي جوبر وساحة العباسيين وتحرير بعض الحواجز، أو تحرير مستودعات ضخمة في ريف حماة، ولو حدث العكس، أي لو كانت داعش هي التي ترابط على مداخل دمشق وتستولي على كل هذه المرافق المهمّة؛ لأغرق مؤيّدو داعش الشبكة مهلّلين بهذه الإنجازات الكبيرة!
وفي الواقع، استطاعت داعش من خلال آلتها الإعلامية الجبارة، متمثّلة بمعرّفات شهيرة في تويتر وحملات واسعة في فيس بوك من قبل مؤيّديها، استطاعت من خلال هذه الآلة التي تستلهم الشعارات البرّاقة أن تجذب إليها الكثير من الشباب الباحث عن رائحة النصر والأمل الممزوج بشعارات لطالما شُحن بها من قبل المشايخ ورجال الحركات الإسلامية!
سادسا: يُلاحظ أيضا التضخيم الإعلامي الذي يمارسه الإعلام العربي الرسمي والغربي بل والصهيوني لداعش.
والسبب بالنسبة للحكومات العربية هو تبرير موقفها الوحشيّ من الثورات، وعدم ترحيبها بالتغيير، فتُظهر للمواطن العربي أنّ البديل عن الاستقرار الذي توفّره هو الفوضى والتطرّف والإرهاب؛ باعتبار أنّ داعش تؤدّي دورا متقنا في الوحشية والتطرّف، ولا تحتاج لأي مبالغات إعلامية! ولا ننسى هنا الإشارة إلى وصف النظام السوري للثوار بأنّهم “تكفيريين” قبل دخول داعش، ومع دخول داعش في الثزرة قام إعلام النظام باستغلال ذلك والتركيز على نسبة الكتائب المقاتلة وأعمالها إلى “داعش”، فتضخّم حضورها في حسّ المتلقّي.
والسبب بالنسبة للحكومات الغربية ومعها الصهيونية هو إنشاء عدوّ يتم تحذير المجتمعات منه لتبرير أي تدخّلات خارجية ولتشويه التوجهات الإسلامية التي تسعى لإقامة الشريعة، وبالنسبة لإسرائيل على وجه الخصوص فالتركيز على داعش كان مقترنا – في كتابات مراكز الدراسات الاستراتيجية – بخطورة دخول داعش إلى الأردن ومهاجمتها الحدود الشرقية، ومن ثمّ فلا يجب إعطاء تلك الحدود (بين الضفة والأردن) للفلسطينيين في حال تمّ الاتفاق على إقامة دولة فلسطينية مستقلّة، ويجب أن يبقى الوجود العسكري الإسرائيلي هناك، فتستهدف من خلال هذا التضخيم تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية في قضاياها الخاصّة.
قارن أيها القارئ مثلا بين تركيز الإعلام على داعش وبين ذكره لتنظيمات الثورة السورية المختلفة، فستجد أنّ تلك التنظيمات قامت بتحرير معظم الأراضي المحرّرة في سوريا، وتحدّت الأسد في عقر داره (دمشق) ولا زالت ترابط على أبوابها وتحقّق الفتوحات ضدّ النظام بوتيرة أكبر بكثير ممّا تفعله داعش مع النظام، ومع ذلك لا تلقى من الإعلام ذلك التهويل والتضخيم.
هذا التهويل والتضخيم أثّر ببعض السطحيين وضعاف العقول ممّن جزموا بأنّ هذا التركيز الكبير على داعش في وسائل الإعلام العربية والغربية دليل على صحّة منهجها، فأصبح الإعلام الغربي معيارًا يحدّد لهؤلاء صوابية المنهج من خطئه! وأضيف إلى ذلك ممارسات إعلامية قذرة رسّخت في عقول هؤلاء السطحيين أنّ سائر التنظيمات في الثورة السورية هي تنظيمات عميلة أو مرتهنة للخارج، وزاد الطين بلّة أن هناك تنظيمات مشبوهة لا تشكّل حالة عامة في الثورة السورية رحّبت بالتمويل الغربي وكانت لها علاقات مشبوهة، فتمّ تعميم ذلك بين الشباب المفتون بداعش على جميع تنظيمات الثورة، فنظر هؤلاء إلى المجاهدين الذين حرّروا مساحات واسعة من أراضي الشام وضحّوا بأرواحهم في سبيل الله باعتبارهم “خونة” و”مرتدّين”، ونظروا في المقابل إلى مجرمي داعش الذين عوّقوا الثورة عن مسيرها وغدروا بالمجاهدين وسرقوا الأراضي المحررّة باعتبارهم شرفاء ومخلصين!