ترجمة عربي 21، وتحرير: نون بوست
استلقى “خالد مشعل” على سرير المستشفى وهو يصارع الموت بعد أن تدفق السم في عروقه مغلقًا جهازه التنفسي ببطء، وكان أمامه بضعة أيام على أفضل تقدير كي يبقى على قيد الحياة، منتظرًا الحصول على ترياق مضاد للسم الذي أُصيب به لينقذه من الموت، غير أن الشخص الوحيد الذي كان يستطيع توفيره هو نفس الشخص الذي حاول قتله، وهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ومع مرور أربعة أيام وفقدان مشعل للوعي وتدهور حالته بشكل سريع، واجه نتنياهو خيارًا مؤلمًا للغاية، فعملاء الموساد الذين رشوا السم في أذن مشعل في إحدى شوارع العاصمة الأردنية عمان للقصاص لضحايا سلسلة الهجمات الانتحارية داخل إسرائيل، تم إلقاء القبض عليهم وهم يحاولون الفرار، وتوعد الملك حسين بمحاكمة العملاء الإسرائيليين إذا مات مشعل، وكانوا سيواجهون الإعدام في حالة إدانتهم.
وفي محاولة لتجنب أزمة عالمية من شأنها أن تعوق جهوده للتوصل إلى اتفاقيات سلام بين إسرائيل وأعدائها العرب، تدخل الرئيس بيل كلينتون وأصر على أن يقوم نتنياهو (الذي كان في مدته الأولى كرئيس للوزراء) بتوفير الترياق، وهو ما أذعن له القائد الإسرائيلي على مضض، حتى أنه سافر إلى عمان لتقديم اعتذار شخصي للملك، بعد أن أعاد الترياق مشعل إلى الحياة حاملاً لقب: “الشهيد الحي”.
وبعد ذلك بخمسة عشر عامًا، في ديسمبر 2012، ظهر مشعل في بدلته الغربية ولحيته الملونة بالأبيض والأسود، وخرج من داخل نموذج ضخم لصاروخ من طراز M75 في قلب مدينة غزة لمخاطبة حشد من الفلسطينيين المهللين بوجوده، قائلاً: “لن نعترف أبدًا بشرعية الاحتلال الإسرائيلي، ولذلك ليس هناك أي شرعية لإسرائيل مهما استغرق هذا الصراع”، مضيفًا بنبرة صوته: “سوف نحرر القدس شبرًا شبرًا، حجرًا حجرًا، وإسرائيل لا مكان لها في القدس”.
واليوم، لازال خالد مشعل وبنيامين نتنياهو خصمين في الأزمة الدولية، ففي الوقت الذي تشن فيه إسرائيل حربًا على حماس في ما أصبح أكثر المعارك دموية ضد الحركة المسلحة التي تسيطر على قطاع غزة، يشغل القيادي الفلسطيني البالغ من العمر 58 عامًا، منصب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والمتحدث الأبرز باسمها، والذي يقدم حوارات تلفزيونية مع أمثال تشارلي روز والبي بي سي، في حين يواجه نتنياهو عدوًا تزايدت قيمته منذ الحادث الذي جمعهما.
ويقول “ناثان ثرال” المحلل في مجموعة الأزمات الدولية إنه بالرغم من عدم قيادة مشعل لحماس بشكل رسمي إلا أنه يظل أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في السياسة الفلسطينية، مشيرًا إلى أن مشعل يعتبر مرشحًا مقبولاً لقيادة الحركة الفلسطينية بشكل عام بعد انتهاء رئاسة محمود عباس البالغ من العمر 79 عامًا، وذلك على الرغم من تصنيف الولايات المتحدة وإسرائيل لمشعل كإرهابي، وربطه بعديد من التفجيرات الانتحارية وآلاف الصواريخ التي أُطلقت على إسرائيل.
وكان نتنياهو قد أمر باغتيال مشعل في أعقاب تفجير ضخم في سوق في القدس راح ضحيته 16 شخصًا وأصيب 169، غير أن الجدل مستمر داخل إسرائيل وخارجها حول ما إذا كان مشعل شخص متعصب غير قابل للتغيير أو براجماتي قادر للاعتدال، ففي تصريحاته العلنية منذ بدء القتال الحالي رفض مشعل أي وقف لإطلاق النار لا يحتوي على تغيير جذري في موقف إسرائيل من حماس وغزة.
وقال من مقره في قطر يوم 24 يوليو/ تموز: “لن نقبل بأي مبادرة لا تنص على رفع الحصار”، إلا أن بعض المحللين يعتقدون أن مشعل – المقيم في العاصمة القطرية الدوحة والتي قابل فيها الدبلوماسيين القطريين والأتراك الذين يتواصلون مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من أجل التوصل لوقف إطلاق النار – هو أكثر رغبة في التوصل إلى صفقة من قياديي الجناح العسكري لحركة حماس.
ويقول “دينيس روس” المفاوض الأمريكي الأسبق في عملية السلام والباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: “بدا أن الجناح السياسي مستعد لوقف إطلاق النار في وقت مبكر، ولكن الجناح العسكري لم يكن مستعدًا وهو من يتولى زمام الأمور الآن”.
ربما يكون ذلك صحيحًا، ولكن أحد مسئولي الحكومة الإسرائيلية يصف مشعل بالشخص الراديكالي الذي لا تختلف آراؤه بشكل كبير عن قيادات الجناح العسكري في غزة، مما يجعل القضاء على مشعل مكونًا رئيسيًا للجهود الإسرائيلية في العلاقات العامة أثناء الحرب، والتي تصور القيادي الفلسطيني أنه جهادي يستقل عربة ليموزين، وهو ما يؤكده تصريح لنتنياهو في حوار مع سي إن إن في 22 يوليو: “هذا الرجل، خالد مشعل، يتجول في فنادق خمس نجوم في الدول الخليجية، ويعيش أمتع أيام حياته في الوقت الذي يقدم فيه شعبه كعلف لهذه الحرب الإرهابية المروعة التي يشنوها ضدنا”.
بعد ذلك بأيام قليلة عرضت قناتي تلفزيون في غزة تسجيل فيديو غريب لمشعل يتحدث فيه قائلاً: “بسم الله الرحمن الرحيم … أريد البدء بشكر الطاقم الممتاز العامل في مطبخ الفندق الذي أقيم فيه”، وأضاف أن تكلفة غرفة الفندق تساوي تكلفة مستشفى وثلاثة أنفاق في غزة، ووفقا للجيروساليم بوست فإن بعض النشطاء الإسرائيليين اخترقوا البث التلفزيوني للقنوات الفضائية وقاموا بعرض هذا التسجيل المفبرك.
ويقول بعض المحللين إن مثل هذه التسجيلات الساخرة يمكن أن تلقى صدى لدى الفلسطينيين، فمشعل لم يقض أي وقت في الأراضي المحتلة منذ أن هربت عائلته أثناء حرب 1967 من الضفة الغربية التي ولد فيها، وانتقل مشعل في البداية إلى الكويت التي انضم فيها إلى الإخوان المسلمين وهو في الخامسة عشرة من عمره، وتخرج من قسم الفيزياء وعمل مدرسًا، ثم انتقل بعدها إلى الأردن التي قاد فيها فرع حماس القوي هناك، ثم إلى سوريا، ثم انتقل في يناير 2012 إلى قطر التي تمول وتدعم حماس.
وقام مشعل بزيارة نادرة إلى غزة في عام 2012، بترتيب النظام الذي كان يترأسه محمد مرسي المنتمي للإخوان في ذلك الوقت، وكانت أول زيارة معروفة له إلى القطاع الفلسطيني المحاصر، ويرى ثرال أن في ذلك مشكلة بالنسبة لمصداقية مشعل لدى الشارع، قائلاً: “تستمد حماس الدعم الشعبي من صدقها وقربها من الناس الذين يقبع معظمهم في الفقر ويعيشون في مخيمات للاجئين في غزة وسوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية؛ لذلك فمن غير المستغرب أن يستمر أعداء مشعل في حملة السخرية، وقد نشر بعض المغردين المؤيدين لإسرائيل صورة لمسئولي حماس في كابينة طائرة خاصة وأمامهم كعكة شيكولاته ضخمة بانتظار الأكل، وادعوا أن مشعل هو أحد المتواجدين في الصورة، وفي الواقع تظهر الصورة قيادات أخرى في حماس ولكن ليس خالد مشعل، وفي مصر التي يعادي نظامها حماس المؤيدة للإخوان أظهر التلفزيون الرسمي مؤخرًا صورًا لمشعل وهو يتناول العشاء ويمارس الرياضة داخل فندقه، وصرخ المذيع المصري قائلاً: “أين الشجاعة؟ أين البطولة؟ إذا كان لديك الجرأة فلتعد إلى غزة”.
ولكن من الصعب التشكيك في الرجل الذي أجبر رئيس وزراء إسرائيلي على إعطائه “ولادة ثانية” كما يصفها مشعل، فالعالم العربي لم ينس بعد الحادثة التي كانت قد أوشكت على قتل مشعل، فالعام الماضي عرضت الجزيرة وثائقي مدته 90 دقيقة حول الحادثة تحت عنوان “اقتلوه ببطء”، وهو يعرض إعادة تمثيل لواقعة قيام عملاء الموساد بانتظار مشعل خارج مكتبه في صباح 25 سبتمبر/ أيلول عام 1997، حيث قام أحدهم برش مادة الفنتانيل في أذن مشعل من خلال جهاز مخبأ خلف ضمادات ذراع، وكان الإسرائيليون يأملون أن الجرعة القاتلة من مادة الفنتانيل المعدلة (بنسبة أقوى 100 مرة من المورفين) سوف تدخل مشعل في غيبوبة طويلة لا يفيق منها أبدًا، وأن العملاء سوف يهربون ولن يتركوا وراءهم أي دليل على المؤامرة.
ولكن الخطة تعثرت من البداية، فحراس مشعل كانوا مرتابين من عملاء الموساد حتى قبل الاعتداء عليه، ونجحوا في ملاحقتهم والقبض عليهم، كما تم العثور على ثلاثة عملاء آخرين في أماكن أخرى بالمدينة، وجميعهم دخلوا الأردن بجوازات سفر كندية، وعلم مشعل أن العملاء كانوا يحاولون فعل شيء غريب، ولكنه اعتقد أنهم فشلوا في إيذائه، وقال: “شعرت بصوت عال في أذني، مثل الصعقة الكهربية”، ولكنه كان على ما يرام، أو على الأقل هذا ما كان يبدو.
وفي وقت لاحق من اليوم بدأ مشعل يدرك أن الهجوم شكل تهديدًا على حياته عندما شعر بصداع شديد وبدأ في التقيؤ، وتدخل كلينتون في جهد دبلوماسي للخروج من الأزمة محاولاً إنقاذ اتفاقية سلام هامة بين الأردن وإسرائيل والتي كان من المزمع توقيعها بعد أسبوعين فقط، وفي النهاية قدم نتنياهو الترياق للأطباء الأردنيين الذين لم يثقوا في أي شيء يقدمه الإسرائيليين، واعتذر بنفسه للملك الذي رفض رؤيته.
وخرج مشعل من هذه الأزمة بطلاً، وتولى رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس بعدها بسبع سنين، عام 2004، عندما قامت إسرائيل بقتل سلفه “عبد العزيز الرنتيسي” من خلال إطلاق قذيفة على سيارته من طائرة هليكوبتر عسكرية. مع العلم أن الرنتيسي تم إطلاق سراحه من سجن إسرائيلي في صفقة 1997 لإنقاذ حياة مشعل.
ويقول الأستاذ في جامعة ميريلاند “شيبلي تلهامي” إن مشعل “أثبت حنكته في مواجهة التحديات الصعبة بالرغم من استهانة الكثيرين بقدراته، بما في ذلك بعده عن غزة وقيادتها”، وليس هناك وسائل استطلاع رأي موثوق بها في فلسطين ولكن شعبية مشعل ظهرت جليًا في الترحاب الذي لاقاه في غزة عندما ألقى خطابًا أمام نموذج صاروخ القسام.
وربما يصف نتنياهو ذلك بالكابوس، ولكن الآخرين في الغرب يبدون أكثر تفاؤلاً، فدعوات مشعل لتدمير إسرائيل يصحبها مواقف له أكثر حرصًا، فقد نأى بنفسه نوعًا ما من ميثاق حماس المليء باللغة المتعصبة حول “الصهيونية العالمية” و”اليهود تجار الحروب”، واقترح هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل في مقابل انسحابها إلى حدود 1967 والاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين.
وترفض إسرائيل بشدة هذه المواقف، ولكن بعض الدبلوماسيين يرون فرصة لتحقيق تقدم، ففي عام 2009 دعت مجموعة من أبرز صناع السياسة الخارجية الأمريكية بما في ذلك برينت سكوكروفت، وزبيغنيو بريجنسكي، ووزير الدفاع الحالي لباراك أوباما تشاك هيغل، إلى “منهج أكثر واقعية تجاه حماس” والذي يمكن أن يشمل مفاوضات معها.
وفي مؤتمر أمني الأسبوع الماضي تحدث رئيس المخابرات العسكرية الأمريكية المنتهية مدته، مايكل فلين، قائلاً: “حماس ليست سيئة كما يبدو .. إذا تم تدمير وإنهاء وجود حماس ربما ينتهي بنا المطاف بشيء أسوأ بكثير”.
وفي تصريحاتها العلنية على الأقل تعتبر إسرائيل هذا الكلام أحمق ومتهور.
وبعد زيارة مشعل إلى غزة عام 2012 تحدث نتنياهو بغضب حول الصمت العالمي تجاه تصريحات مشعل التي وصفها متحدث باسم الحكومة الإسرائيلية بـ “الموقف المتشدد في معارضة إسرائيل”.
وربما يحاول نتنياهو استكمال عمله الذي لم ينته بعد، ولكن قتل مشعل في قطر ربما يخلق أزمة دبلوماسية خطيرة أخرى، ولكن وزير الخارجية الإسرائيلي “أفيجدور ليبرمان” يعتقد أنه يجب القيام بذلك على أي حال، وفقًا لتقرير بثته القناة الإسرائيلية الثانية، وقد قام عملاء الموساد من قبل بتخدير وخنق قيادي في الجناح العسكري لحركة حماس في فندق في دبي في مارس عام 2010 (وهي حادثة مشهورة بالتقاط الكاميرا لها عند وقوعها).
ومنذ بضعة أعوام سأل مراسل الجزيرة الرئيس الأسبق لجهاز الموساد “داني ياتوم” والذي أشرف على المحاولة الفاشلة لاغتيال مشعل، عما إذا كانت إسرائيل ستحاول مرة أخرى قتل القيادي الحمساوي، فرد قائلاً: “لابد أن يعي الإرهابي أن أي شخص يقوم بأعمال إرهابية لن يتمتع بالحصانة”.
المصدر: Time