لم يكن بين قوسي الربيع العربي، حين طرح سؤاله على الشعوب والنُخَب، غير خيارين هما: الديمقراطية أو الاستبداد؛ فإمّا عودة الجموع إلى المشهد والتمسك بزمام المبادرة وخلق زمن عربي جديد أو الاختناق في سرج العسكرتارية والبقاء على حالة التبطل السياسي والتعفن في زمن العسكريين القديم. وما حصل فيما بعد، في الخريف العربي، ليس تزويدا في الخيارات، لكنه تغيير جذري في السؤال، وبالتالي فيما بين القوسين؛ فأصبحنا أمام خيارين هما: الدولة أو اللادولة. وإذا تقرر ذلك فقد صار السؤال الربيعي ترفا سياسيا أمام السؤال الخريفي!
سؤال الخريف هذا يُروَّج بغرض التملص والتعمية على السؤال الربيعي، ومن يعمل على تسويقه وتصديره وبيعه جهتان: الدول العربية المناهضة للتغيير، والجماعات الإسلامية المسلحة التي تتفرع معاداتها للديمقراطية عن معاداتها لمفهوم الدولة. الأولى تريد أن تستلب الدولة في عائلة أو طائفة أو طغمة، كما يتأكد إصرارها على الطبيعة الخريفية في تشبثها بمخططات سحق ودحر التيارات الإسلامية المدنية، بما لا يبقي على الساحة سوى جماعات العنف الإسلامي، والثانية تروم الخروج عن أفق الدولة لصالح مشاريع امبراطورية تتغذى على تهويمات تراثية وأوهام مستقبلية. هذه تريد الحُكم بمفهوم القبيلة وإن تموضع في صيغ حديثة، وتلك ترنو للحكم بمفهوم العقيدة من خلال تصديرها كايديولوجيا تعبوية تهدف للتقتيل والترويع واستعلاء طائفة على الجميع. كلتاهما في حالة جحود تجاه الدولة كمنجز إنساني حديث، وكلتاهما أيضا لا تقبل صيغة العيش معا في مساواة.
بهذا تتوضح مسؤولية القوى الديمقراطية في رفض كلا الجهتين، من خلال تأكيد خيار الدولة الديمقراطية، بما يعني التمسك بالتفكير داخل أفق الدولة وداخل أفق المشروع الديمقراطي، سواء بسواء. فالثورات العربية هي جِماع مطاليب حقوقية صدح بها أناس تربطهم ببعض علاقة حقوقية هي المواطنة، ومن ثم فهي تأكيد على الدولة لا نفي لها لصالح امبراطورية أو ما أشبه، وهي رغبة أصيلة في استعادة الدولة من أيدي من استحوذوا عليها.
يعرفُ كل معني بالحقول المعرفية السياسية الثلاثة، النظرية السياسية والفلسفة السياسية والفكر السياسي، أن الدولة والديمقراطية يعانيان من مشكلات بنيوية جمة، وأن النقد الموجّه للدولة منذ كروبتكين حتّى كاستوريادس، وذلك الموجّه للديمقراطية منذ ماركس حتّى بثك الشتين، بالتأكيد لا يخلوان من وجاهة وطرافة، ويعرفُ كذلك أن الترويج للدولة والديمقراطية بصيغ تبشيرية ودعوية حماقة وانبطاح أمام اليوتوبيا، لكنّه يعرف مع ذلك كلّه أن منطقتنا تواجه تحديات مختلفة ينبغي أن نضعها في حسباننا ونحن ننتقد الدولة لئلا نقدّم مرافعة عن الإرهاب أو حين ننتقد الديمقراطية لئلا يتسرّب المستبد من بين مقولاتنا. كلما أكدوا على سؤال الخريف، علينا كديمقراطيين أن نؤكد على سؤال الربيع!