عندما يفرح المسلمون في شتى بقاع المعمورة بصواريخ حماس البسيطة والضعيفة ويسعدون بمقاومتهم الباسلة للصهاينة المجرمين ويزداد خوفهم وقلقهم ومقتهم من الفتوحات الوهمية لتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق المعروف إعلاميًا بـ (داعش) في العراق وسوريا والتي أعلنت الخلافة الإسلامية في الموصل بمبايعة أبى بكر البغدادي خليفة للمسلمين! يجعلنا ننظر ما الذي جعل المسلمون يفرحون لجهاد حماس ضد الصهاينة في حين يبغضون الدواعش وجهادهم المزعوم.
وكعادتى في تناول القضايا وفهم الأمور وبعيدًا عن أن (داعش) تنظيم مخابراتي ترعاه المخابرات الأمريكية والعربية العميلة وتموله تمويلاً شرسًا كما يقول الأستاذ “إسلام مهدي” في مقاله الدسم (داعش خلافة أم تخلف!) وعن الذين يمجدون ويهللون بتنظيم الدولة (داعش) على أنه أمل الأمة وطريقها الوحيد والخالد.
لنفهم هذا الشعور لابد أن نفهم الجهاد كعبادة من أعظم العبادات وأجل القربات وأجمل الطاعات وأكبر التضحيات، وللجهاد دور قيمي وهدف رسالي وغاية نبيلة، فكما نبلت غايته نبلت وسائله وعظمت أهدافه وقويت أشكاله وألوانه.
لم يكن الجهاد قتلاً ولا تفجيرًا ولا سفكًا لدماء المخالف بدون جريرة أو ذنب يقترفها هذا المخالف في الرأي والفكرة والمذهب والأيدولوجيا والعقيدة فالكل عند الدواعش في سلة بيض واحدة.
وانظر معي لقوله سبحانه وتعالى {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} أي أن القتال في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين – الذي هو من سبيل الله – لإنقاذهم من الظلم والطغيان، فكيف بالمستضعفين إذا كانوا أكثر استضعافًا وإهانة وإذلالاً بوجود من يسمون أنفسهم مجاهدون؟!
يقول الأستاذ “حسن البنا” – رحمه الله – في رسالته عن الجهاد: “لما كانت الغاية في الجهاد الإسلامي أنبل الغايات، كانت وسيلته كذلك أفضل الوسائل فقد حرم الله العدوان، فقال تعالي: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190)، وأمر بالعدل حتى مع الخصوم فقال تعالي: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:)، وأرشد المسلمين إلي منتهى الرحمة”.
فهم حينما يقاتلون لا يعتدون ولا يفجرون ولا يمثلون ولا يسرقون ولا ينتهبون الأموال ولا ينتهكون الحرمات ولا يتقدمون بالأذى، فهم في حربهم خير محاربين كما أنهم في سلمهم أفضل مسالمين.
وجهاد الدواعش كما يقول الأستاذ “مجاهد ديرانية” لا يحترم قيم الحرية والكرامة والرحمة والعدل والحياة التي ثار الناس من أجلها، فلا وزن لحريات الناس عندهم، فالناس أسرى سلاحهم وقوتهم وسطوتهم، ولا قيمة لكرامة الناس عندهم إلا الذل والإهانة والاستهزاء، ولا رحمة في قلوبهم فهم غلاظ شداد قساة، ولا عدل عندهم ولا بينهم فما أكثرَ الذين يبيحون لأنفسهم ما لا يبيحونه لغيرهم، فيستحلون نقد المخالفين بأبشع الصفات ثم يسلّون السيوف على رقاب من يمس الدولة بكلمة.
أيضًا قيمة الحياة عند الدواعش تجد أكثرنا يستصعب إزهاق الروح ولو كانت روح قطة أو عنكبوت، لكني أحس أن إزهاق النفس البشرية عند كثيرين، كثيرين جدًا ممن يحملون فكر الدولة، أنه أهون عندهم من دعس القطة ومعس العنكبوت!
وفي بيان الإخوة في أحرار الشام ردًا على إعلان البغدادي المشهور في نيسان الماضي، فقد رفضت الإعلانَ المذكور ورفضت نشر الصراع مع نظام الاحتلال الأسدي خارج سوريا وتحويله إلى قضية جهادية عالمية، وخاطبت الجولاني والبغدادي قائلة: “إننا نتوجه لكلٍّ من الطرفين أن يستشعروا عِظَم الحدث وخطورة أقلمة الصراع بهذه الطريقة وإشراك أطراف أخرى، وهذا ليس احتكامًا لحدود مصطنعة بين أبناء الأمة، ولكنه قراءة موضوعية لمعطيات الواقع وتقديم لما نراه مصلحة المسلمين وجهادهم ضد طاغية الشام”.
أما عن أفكار الدواعش فإن التكفير هو أعظمها شرًا، وهو من أخطر المشكلات التي يعاني منها تنظيم الدولة على مستوى الأفراد والقيادات على السواء، وقد كانت تلك هي التهمةَ التي تعلل بها أحد أمراء الدولة، أبو أيمن العراقي، لقتل أبي بصير في اللاذقية، قتَلَه وهو صائم أعزل وافتخر بقتله (قال: اشهدوا أني قتلت أبا بصير) لأنه يتقرب إلى الله بقتل المرتدين!
ولازال الكلام للأستاذ “مجاهد ديرانية”، أما عن منهج تنظيم الدولة فإن المنهج الذي تعتنقه الدولة في السياسة الشرعية يعطل الشورى ويقزّم دور الأمة ويفتح الباب للاستبداد السياسي، ويبلغ من خطره أنه يسوّغ قتال الإخوة وقتلهم، ويكيّفه تكييفًا شرعيًا من شأنه أن يجعله طريقًا إلى الجنة.
إنه المنطق نفسه الذي تسلط به المستبدّون والطغاة على أقطار العالم الإسلامي على مرّ القرون وحتى الآن؛ منطق يعطل الشورى التي هي من أركان الحكم الإسلامي ومن مبادئه الكبرى ويهمّش دور الأمة مع أن الأمة هي مصدر السلطات في الإسلام، وهو منطق مرفوض ولو قال به الماوردي والقلقشندي وأبو الحسن الأشعري ومئة من الفقهاء وأهل العلم المشهورين، فإنّ منطق القرآن أعلى وأسمى، وإنّ فِعْل الصحابة وسنّة الراشدين أَولى بالاتّباع.
فالجهاد هو بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل لدفع الظلم ونصرة الحق وحماية الدعوة وإعلاء كلمة الله.
واهتم القرآن الكريم بالجهاد اهتمامًا كبيرًا وعظيمًا حيث يقول الدكتور “كامل سلامة الدقس” في رسالة الدكتوراة والتي بعنوان “آيات الجهاد في القرآن الكريم: دراسة موضوعية وتاريخية” حيث بلغت آيات الجهاد نصف القرآن المدني، وكانت حياة النبى – صلى الله عليه وسلم – حافلة بالجهاد فى سبيل الله حيث وصلت عدد غزوات النبى – صلى الله عليه وسلم – لسبع وعشرين غزوة قادها بنفسه وسبع وأربعين سرية سيرها – صلى الله عليه وسلم – بما يعادل سبع وقائع في العام الواحد مما يدل على أهمية الجهاد في السيرة النبوية أيضًا.
وقد وردت لفظة (الجهاد) في القرآن الكريم بمعنى القتال أكثر من ثلاثين، مرة كما وردت لفظة (الحرب) بمعنى القتال أربع مرات، وكذا لفظة (الغزو) لم ترد إلا مرة واحدة فى القرآن الكريم بنفس المعنى؛ مما يشير إلى أن لفظة (الجهاد) أوسع انتشارًا في القرآن الكريم لأنها أشمل في الغاية وأوسع في المدى في بذل الوسع والطاقة في المال والنفس في سبيل الله، لكن الحرب والقتال والغزو قد يكون له مآرب أخرى، حيث أن لفظة (الجهاد) اقترنت بـ (في سبيل الله) أكثر من خمسين مرة.
والشيخ رشيد رضا في المنار يقول “سبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته وهي التي يحفظ بها الدين ويصلح بها حال عباده”.
فانظر معي أخي – غفر الله لنا ولك – هل جهاد الدواعش يحفظ الدين ويصلح حال العباد؟!
أنا لا أشكك في نوايا أحد ولا أتهم إخلاصهم فهم مخلصون في الجملة، ولكن الإخلاص ليس دليل على الصواب فرب مخلص مخطىء يضر أكثر مما يحسب أنه ينفع.
وقد عقب الأستاذ “يحيى رفاعي سرور” على فرحة المسلمين بصواريخ حماس قائلاً “فرحة المسلمين بصواريخ حماس، رغم محدودية أثرها عسكريًا، أشد من فرحتهم بتقدم داعش الذي ينظر إليه المسلمون بفرحة مشوبة بالحذر والقلق”.
الصلف والغرور والعزلة عن الأمة وغياب البعد السياسي وليّ ذراع الناس والاقتصار على التفكير بمنطق القوة والمزايدة وتجاوز الكبار، أمور لم تظهر كل عواقبها الكارثية بعد.
لقد كان الرجل دقيقًا فى وصفه لتنظيم الدولة (داعش) وأمراضها التب عزلتها عن الأمة وأخرجتها من المسار المستقيم فب الجهاد ورسالته السامية وغايته النبيلة ووسائله الشريفة.
لقد ظلم الجهاد كما ظلم الإسلام مرتين مرة من أبنائه ومرة من أعدائه، وظلم الأعداء للجهاد طبيعي ومنطقي، لكن أن يظلم الجهاد من أبناء الأمة الإسلامية فهذا غير المنطقي وليس طبيعى – سواء من يحملون راية الجهاد المسلح أو من من يحملون راية الجهاد السلمي – وهنا لا نذكر دور التيار السلفي المستنعج من قبل الطواغيت والدكتاتورية العسكرية وأكواخ المخابرات وكهوف أمن الدولة.
فالجهل والغرور واتباع الهوى وعبادة الأمراء والتنظيمات وخلق الأصنام الجهادية والتضليل الإعلامي وترديد الشائعات ونشرها من أهم أعراض تشويه صور الجهاد الإسلامي وتنفير الناس وتأخير الدعوة ومحاربتها في كل مكان.
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.