الصورة: مسيرة أمام السفارة المصرية ببيروت
كان عمري يقارب الست سنوات عندما مرر لي أبي بعيداً عن أعين والدتي بيانًا يحمل عنوان “انصروا إخواننا في البوسنة والهرسك” واحتوى البيان الذي حمل توقيع جماعة الإخوان المسلمين على صور لرجال قتلى ونساء مبقورة بطونهم مكدسة جثامينهم في مجموعات وسط بعض الحفر بمدينة “سربرنيتسا” إحدى مدن البوسنة والهرسك؛ كان البيان يتحدث عن المذبحة التي سميت بعد ذلك بمذبحة “سربرنيتسا”.
لم أكن أعرف لا عن البوسنة والهرسك وما هي؟ وأين تقع؟، ولا عن جماعة الإخوان المسلمين صاحبة البيان، وحكى لي والدي وقتها بإيجاز عما حدث في الفترة من 11 وحتي 16 يوليو 1995 من قتل وتعذيب ممنهج لمدنين عزل من البوشناق البوسنية يقدر عددهم ما بين 8 و15 ألف عن طريق القوات الصربية بقيادة السفاح “راتكو ملاديتش” وسط تقاعس قوات الأمم المتحدة الهولندية. جّمل والدي الحقيقة وقتها على قدر المستطاع، ولم يتحدث عن عمليات الاغتصاب ولا استهداف الأطفال ولا عن المقابر الجماعية.
بعدها بخمس سنوات كنت مسؤولاً عن توزيع بيان يحمل توقيع نفس الجماعة – وقت أن كنت أنتمي إليها كشبل – بعد صلاة الجمعة بأحد المساجد وحمل البيان عنوان “انصروا إخواننا في فلسطين” كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، واحتوى البيان على الصورة الشهيرة للمصور طلال أبو رحمة لاستشهاد الطفل محمد الدرة، واستمر توزيع تلك البيانات خمس سنوات أخرى حتى نهاية الانتفاضة الثانية في عام 2005، كانت حصيلة القتلى في تلك الفترة تقارب الأربعة آلاف شهيد.
وفيما نسطر تلك الكلمات تقوم قوات الاحتلال الإسرائيلية بعملية عسكرية واسعة النطاق أسمتها “الجرف الصامد” على قطاع غزة والذي تسيطر عليه حركة حماس المنتمية فكرياً إلى جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 2007، ونتج عن تلك العملية حتى الآن استشهاد ما يقارب الألفي شخص من الفلسطينين معظمهم من المدنيين.
في مذبحة “سربرنيتسا” سهلت القوات الهولندية عمليات الذبح الجماعي والتصفية الجسدية لسكان البوسنة. البداية كانت مع قيام القوات الصربية بالضغط على قوة الحماية الهولندية لتتقهقر، وبعد منع عودة الجنود الذين غادروا في أجازة؛ هاجم الصرب المنطقة التي كان قد وصلها آلاف اللاجئين، ويقول أحد الجنود المشاركين في قوة الحماية “روبرت زومر” :”كان علينا أن نحمي اللاجئين، لكن من منظور عسكري، لم يكن هذا ممكناً، لقد أعطوا كل منا 20 رصاصة، وكانت لدينا أوامر شديدة الوضوح ألا نطلق النار تجاه أي شخص”.
وأضاف زومر قائلا: ” عندما عدت إلى هولندا كان الناس يقولون إننا فعلنا شيئًا سيئًا، وأننا سمحنا بذلك، لكن كيف كان لنا أن نتوقع أن يحدث ذلك؟! عندما تعرف أنه عليك فعل شيء ما .. يكون الوقت قد فات”.
أما الآن فلا اختلاف بين موقف القوات الهولندية وبين الحكومة المصرية، حيث تواصل السلطات إغلاق معبر رفح الحدودي، في الوقت الذي تطالب فيه حركة حماس بفتح معبر رفح بشكل كامل وتمكين عشرات القوافل الإغاثية التي تحمل الأدوات والمعدات الطبية والمواد الغذائية من الوصول إلى قطاع غزة، في الوقت الذي أصبحت فيه أرصدة المستشفيات في فطاع غزة صفرًا نتيجة إجراء العمليات المستمرة للجرحى الذين وصل عددهم لنحو عشرة آلاف مصاب.
في عام 2004 أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي الخاصة بيوغسلافيا السابقة “أن ما حصل في سربرنتسا هي عملية تطهير عرقي عن سبق الإصرار والترصُّد”، والآن وبعد مرور مرور ما يقارب العشرين عاماً على مذبحة “سربرنيتسا” بدأت محكمة العدل الدولية في لاهاي النظر في دعوى تقدمت بها أمهات ضحايا المجزرة ضد هولندا، تتهمها بالتقاعس عن حماية المواطنين البوسنيين قبل وقوع المجزرة.
وتضمنت الدعوى المفتوحة باسم ستة آلاف قتيل تثيبت التهمة على هولندا أولاً، ومن ثم مطالبتها بدفع تعويضات، وفي وقت سابق كان القضاء الهولندي قد أصدر قرارًا يُحمل القوات الهولندية المسئولية عن قتل 3 بوسنيين بداعي تقاعسهم عن حمايتهم وألزمت الدولة الهولندية بدفع تعويضات لذويهم، وبعدها أمرت محكمة في لاهاي الحكومة الهولندية بتعويض عائلات أكثر من 300 مسلم بوسنيٍّ من ضحايا المذبحة كانوا قد احتموا بماني القوة الهولندية، وقامت القوات وقتها بتسليمهم إلي القوات الصربية.
معظمنا يعرف أن مراحل التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بعد فوز حماس بالانتخابات التشرعية الفلسطينة 2006 تركز جزء كبير منه على الرفع أو التخفيف من الحصار المفروض على القطاع، من قبيل إعادة فتح معبر رفح بشكل كامل مع مصر، أو حتي توسيع منطقة الصيد، وكلها مطالب تم تجاهلها بشكل أو بآخر من إسرائيل أو من حليفها المصري، بشكل جزئي أو كامل.
وفي وقتنا الحالي وحتى في ظل المقاومة الشرسة التي يواجهها الجيش الإسرائيلي في معركة “الجرف الصامد” والخسائر البشرية والاقتصادية التي تتكبدها دولة الاحتلال يؤكد وزير دفاعها “موشيه بوغي يعلون” في نقاش داخل لجنة الخارجية والأمن :”أن إسرائيل تريد أن ترابط قوات الرئيس عباس في معابر الحدود في غزة، مع التشديد على الجانب المصري من معبر رفح، وذلك كجزء من أي اتفاق مستقبلي لوقف النار”، بمعنى آخر .. إسرائيل تريد استكمال حصارها على غزة بأي شكل من الأشكال.
من ناحية أخرى يؤكد الكاتب والمحلل السياسي الإسرائيلي “إيال عوفر” مصر بأنها تنتظر متنحية، بينما إسرائيل وحماس تضرب إحداهما الأخرى، مضيفا أنه بينما يتكلف الطرفان الأضرار الاقتصادية والعسكرية ويخسران حياة الناس فإن “مصر هي التي تربح من هذا الصراع الذي لا حل له”.
الأمر الواضح أن السلطة المصرية تنتهج هذه المرة منهجاً جديداً غير الذي تعود نظام مبارك على استخدامه وبالطبع مختلفاً عن المنهج الذي عالجت به مصر في فترة حكم الإخوان المسلمين موقف الحرب على غزة 2012.
هل سيؤتي هذا المنهج الجديد بثماره، هل تربح مصر بالفعل من القتال الدائر علي حدودها الشرقية؟، وهل ستتأثر مكانة مصر الدولية والإقليمية بهذه الأحداث؟ هل يتم إعلان ما حدث في أحياء الشجاعية وخزاعة جرائم حرب أو عمليات تطهير عرقي؟.
هل سنرى أحكامًا من المحكمة الدولية تدين الحكومة المصرية وتحملها جزءًا من المسؤولية المدنية عما يحدث الآن بقطاع غزة من قتل وجرح باعتبارها شاركت في دعم الهجوم بإغلاقها معبر رفح في وجهة قافلات الإغاثة؟، وهل سنرى قرارًا يلزم الدولة المصرية بدفع تعويضات لذوي القتلى والجرحى في الهجوم؟.
سنري.