ترجمة وتحرير نون بوست
عندما داهمت القوات الأمريكية منزلاً قرب الفلوجة خلال المقاومة السنية للغزو العراقي عام 2004، استطاعوا القبض على المسلحين الذين كانوا يبحثون عنهم، لكنهم أيضًا قبضوا على رجل عراقي في أوائل الثلاثينيات من عمره لم يكونوا يعرفون عنه شيئًا.
ومثلما هي العادة، سجل الأمريكيون اسمه في مركز الاعتقال في معسكر بوكا: “إبراهيم عوض إبراهيم البدري”.
أصبح هذا الشخص المجهول لاحقًا هو حديث العالم باسم “أبو بكر البغدادي”، الخليفة الذي نصب نفسه على رأس الدولة الإسلامية في العراق والشام ومهندس الحملة العنيفة لإعادة ترسيم خريطة الشرق الأوسط.
“لقد كان بلطجيًا من الشارع حينما قبضنا عليه في 2004 ” صرح بذلك مسئول في البنتاغون رفض ذكر اسمه متابعا “من الصعب حينها أن نتصور أن هذا الرجل سيصبح زعيما لداعش”.
شكل كل موقف اتخذته الولايات المتحدة في العراق، صعود البغدادي، فمعظم التغيرات السياسية التي غذت معركته أو أدت إلى تصعيده ورفع أسهمه، ولدت مباشرة من رحم المواقف الأمريكية.، والآن أجبر الأمريكيين على بدء فصل جديد من التدخل في العراق بعد نجاحات داعش العسكرية ومجازرها الوحشية ضد الأقليات في العراق وسوريا؛ الأمر الذي دفع أوباما ليأمر ببدء ضربات جوية في العراق.
بدأ البغدادي في توطين نفسه على الحرب، ووعد بأن داعش ستكون في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
ومع ذلك، عندما انضم في البداية لتنظيم القاعدة، مع السنوات الأولى من الاحتلال الأمريكي، لم ينضم كمقاتل، وإنما كشخصية دينية لها وزنها، لكن منذ أعلن “الخليفة” عن نفسه، بدأ في حملة عنيفة ضد الفرق والأقليات من غير السنة مثل الشيعة واليزيديين، وهو ما جلب عليه نقمة الكثيرين بما فيهم قادة من القاعدة!
وعلى الرغم من مكانته التي حصل عليها، إلا أن البغدادي الذي هو في أوائل الأربعينيات من عمره، ظل من أكثر الشخصيات الجهادية الكبرى غموضًا.
حاول الأمريكيون والعراقيون تشكيل فرق من المحللين الاستخباراتيين والعناصر الأمنية المخصصة لمطاردته، لكن ذلك لم يسفر عن نجاح يذكر في تفكيك شفرة حياته، ظهوره مؤخرًا في مسجد بالموصل لإلقاء خطبة في شريط تم نشره على الإنترنت، كانت المرة الأولى للعديد من أتباعه لرؤيته.
يُقال إن البغدادي حصل على الدكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة في بغداد، وكان إمامًا لمسجد في مدينته سامراء، يدعي الرجل أيضًا أن له نسبًا من قريش.
تقول وزارة الدفاع الأمريكية إن البغدادي بعد القبض عليه في بدايات 2004، تم الإفراج عنه في ديسمبر من نفس العام ضمن مجموعة كبيرة من السجناء اعتُبرت حينها غير ذات أهمية، لكن أحد الباحثين الذين اقتربوا من حياة البغدادي واسمه هشام الهاشمي، وعمل لفترة لصالح الاستخبارات العراقية، قال إن البغدادي قضى خمس سنوات في سجن أمريكي في العراق، ومثله مثل العديدين من مقاتلي داعش، خرج الرجل أكثر راديكالية وتطرفًا.
يقول الهاشمي إن البغدادي نشأ في أسرة فقيرة في قرية زراعية قرب سامراء، وعائلته كانت ذات توجه صوفي، وجاء البغدادي إلى بغداد في التسعينات، وبمرور الوقت أصبح أكثر تطرفًا.
انجذب البغدادي في مرحلة مبكرة من الاحتلال الأمريكي بجماعة جهادية جديدة يقودها جهادي أردني يُدعى أبو مصعب الزرقاوي، كان التنظيم هو تنظيم القاعدة في العراق، والذي بدأ كتنظيم عراقي أعلن الولاء للتنظيم العالمي للقاعدة بقيادة أسامة بن لادن حينها، إلا أنه على مدى السنوات التي تلت ذلك جلب المزيد من الشخصيات الأجنبية غير العراقية وضمها إلى صفوفه.
غير معروف ماذا كان نفوذ البغدادي مع الزرقاوي، لكن بروس ريدل، الضابط السابق في الاستخبارات الأمريكية والذي يعمل حاليًا في مركز بروكنغز للأبحاث كتب يقول إن البغدادي أمضى عدة سنوات في أفغانستان، وعمل جنبًا إلى جنب مع الزرقاوي، لكن مسئولين أمريكيين آخرين لا يعتقدون أنه كان وثيق الصلة بالبغدادي أو أن قدميه وطئتا أرضًا غير العراق وسوريا.
العملية الأمريكية التي أدت إلى مقتل الزرقاوي في 2006، كانت ضربة كبيرة لقيادة التنظيم في العراق، لكنها كانت فرصة للبغدادي كي يتولى الزمام.
بينما كان الأمريكيون يخمدون حربهم في العراق، كانوا يحاولون التركيز على محاولة القضاء على القيادة المتبقية من القاعدة في العراق، وفي أبريل 2010 أسفرت عملية أمريكية عراقية مشتركة عن مقتل اثنين من كبار الشخصيات قرب تكريت.
وبعد شهر من ذلك، أصدرت المجموعة بيانًا أعلنوا فيه قيادتهم الجديدة، وكان البغدادي على رأس قائمة القياديين الجدد، كانت الاستخبارات الغربية مرتبكة وحاولوا الحصول على المزيد من المعلومات حول الرجل.
“هل يعرف أحدكم من هؤلاء” نشرت ويكيليكس هذه الرسالة الإلكترونية من شخص كان يعمل مع الحكومة الأمريكية، لقد رجحوا أنهم قد يكونوا يعرفون أشخاصًا قريبين منهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون أيًا من القيادات الجديدة تلك.
وفي يونيو 2010، نشر ستراتفور تقريرًا عن التنظيم ونص على أن “مستقبل التنظيم في العراق يبدو قاتمًا”.
ومع ذلك، قال التقرير، إن تنظيم القاعدة قد غير اسمه وتحول إلى الدولة الإسلامية في العراق، وذكر التقرير أيضًا أن “نوايا التنظيم المتعلقة بتأسيس خلافة إسلامية لم يتم التراجع عنها”.
كانت القبائل السنية في شرق سوريا والأنبار ونينوى غرب العراق يبنون علاقات قديمة عابرة لحدود سايكس بيكو أو الحدود الوطنية المرسومة، بُنيت داعش على هذه العلاقات، وفقًا لذلك، ومع تراجع حظوظ الجماعة في العراق، وجدت فرصة جديدة في سوريا للقتال ضد حكومة بشار الأسد في سوريا.
الجماعات السورية الأكثر اعتدالاً كانت تتعرض للهجمات وكانوا غير قادرين وحدهم على التعامل مع النظام السوري، وفي ذلك المناخ تزايدت سيطرة داعش على المعركة، جزء من ذلك يرجع بسبب قوة السلاح والتمويل من عملياتها في العراق، وجزء آخر يعود إلى مؤيديها في العالم العربي.
هذا الواقع أدى بالعديد من الساسة الأمريكيين ومن بينهم وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون لاتهام الإدارة والرئيس أوباما بالمسئولية عن هذا الوضع، لسببين: أولاً بسبب سحب كامل القوات الأمريكية من العراق في 2011، والثاني هو التردد القاتل في تسليح الجماعات السورية الأكثر اعتدالاً في وقت مبكر من الصراع.
لكن حتى قبل ذلك، كانت المواقف الأمريكية شديدة التأثير في حياة البغدادي، فالرجل عراقي حتى النخاع، وتكون فكره الحالي وصيغ في بوتقة الاحتلال الأمريكي.
الغزو الأمريكي قدم للبغدادي عدوًا جاهزًا وآلة حشد شديدة الفعالية، ومع الإطاحة بالديكتاتور صدام حسين، ازدهرت الآراء المتطرفة التي كان يقمعها الديكتاتور بوحشية.
وعلى العكس من الزرقاوي، الذي كان دومًا ما ينظر خارج العراق إلى القيادة العالمية للتنظيم طلبًا للمساعدة، يحيط البغدادي نفسه بزمرة ضيقة من ضباط الجيش والاستخبارات في حزب البعث السابق من نظام صدام حسين والذين يعرفون كيف يحاربون.
يعتقد محللون وضباط استخبارات عراقيون أنه بعد وصول البغدادي إلى رأس التنظيم، قام بتعيين عدد من ضباط نظام صدام بالقرب منه، ومن بينهم الرجل المعروف باسم حجي بكر، كقائد عسكري لكتائبه، كما عين مجلسًا عسكريًا شمل ثلاثة ضباط آخرين من قوات أمن صدام.
كان يُعتقد أن حجي بكر قد قُتل العام الماضي في سوريا، ويعتقد محللون أن اثنين على الأقل من ذلك المجلس العسكري كانوا قد احتجزوا لدى القوات الأمريكية في معسكر بوكا في السابق، ربما في ذات الوقت الذي اعتُقل فيه البغدادي.
تم انتقاد البغدادي من قبل الجهاديين لاعتماده على بعثيين سابقين، لكن بالنسبة للكثيرين، استطاع البغدادي أن يتغلب على منتقديه بنجاحاته المتتالية في الميدان، فهو بحسب أحد الباحثين “لديه المصداقية بشكل كاف إذ أنه يدير نصف العراق ونصف سوريا!”
سوريا ربما كانت ملجئًا مؤقتًا وأرضًا احتياطية خلفية، لكن العراق دومًا ما كان معقله وأهم مصادر تمويله، والآن أصبح مقره الرئيسي لممارسة بناء دولته.
وعلى الرغم من أن سيطرة البغدادي على الموصل قد تبدو وكأنها مفاجأة للمخابرات الأمريكية والحكومة العراقية إلا أن جماعة البغدادي بعملياتها في المنطقة منذ فترة طويلة كانت حاسمة في استراتيجية الرجل لإقامة الخلافة التي يرجوها.
لقد استطاع تنظيمه أن يجني أكثر من 12 مليون دولار شهريًا، عن طريق ابتزاز رجال الأعمال في الموصل، لتمويل عملياته في سوريا، وقبل يونيو كانت داعش تسيطر على أحياء المدينة في الليل، تجمع الأموال أو تسرقها وتعود إلى الريف قبل حلول الصباح.
تعتمد الجماعة على التمويل الذاتي بشكل كامل؛ ولذلك فمن غير المرجح أن يكون للقرار الذي ينظره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بفرض عقوبات على الداعمين لداعش أي تأثير على تمويل الحركة، فالحركة تمتلك حقولاً نفطية وتحصل الضرائب وتكسب المزيد من الأرض، بل إنهم ابتكروا أنواعًا جديدة من الغرامات، فقد أمروا جميع الجنود السابقين أو ضباط الشرطة في مدينة الحويجة التي سيطروا عليها، أمروهم بدفع 850 دولارًا كغرامة للتوبة.
ورغم أنه احتل الموصل بشكل وحشي، إلا أن البغدادي قام بعدد من الخطوات ليبدو كما لو كان رجل دولة يعيد بناء دولته، فقد عقدت داعش يومًا ترفيهيًا للأطفال، كما وزع الجنود الهدايا والمواد الغذائية خلال عيد الفطر وفيه عقدت مسابقات للقرآن وبعده فتحت المدارس وأُعيد تشغيل الحافلات العامة مرة أخرى.
يبدو أن البغدادي يعتمد في قراراته على نص جهادي شهير ألهم تنظيم القاعدة منذ وقت طويل، وهو كتاب “إدارة التوحش” لأبي بكر ناجي.
بعض الباحثين يطلق على النص المكون من 112 صفحة وتُرجم للانجليزية، بأنه مثل كتاب “العادات السبع للجهاديين الأكثر فعالية” في تهكم على اسم كتاب شهير.
يقول مسئولون أمريكيون إن البغدادي يدير منظمته بكفاءة أعلى كثيرًا مما كان عليه الزرقاوي، كما أن له سيطرة على التنظيم بلا منازع، ويفوض مساعديه في بعض سلطاته ويعطيهم المزيد من الحرية في التصرف والمرونة.
حتى قبل الحرب الأهلية في سوريا التي قدمت له فرصة للنمو، كان البغدادي قد اتخذ خطوات في العراق لإعادة تأسيس التنظيم، في شيء أقرب إلى إعادة هيكلة الشركات بينما كان يغادر الأمريكيون، لقد أنهى منافسيه من خلال الاغتيالات واقتحامات السجون المدبرة استطاع من خلالها أن يجدد صفوف مقاتليه وأن ينوع مصادر تمويله من خلال الابتزاز لإنهاء اعتماده على التمويل الخارجي للتنظيم.
الهاشمي يقول إنه كان يستعد أن ينشق عن تنظيم القاعدة.
والآن لا يدير البغدادي منظمة إرهابية، بل بحسب بريت ماكجورك، أعلى مسئول في الخارجية الأمريكية بشأن العراق، يدير البغدادي “جيشًا كاملاً”.
ماكجورك قال في شهادته الأخيرة أمام الكونغرس “إنه أسوأ كثيرًا من القاعدة”.