عندما أسقط الانفصاليون الموالون لروسيا طائرة الخطوط الجوية الماليزية (التي كانت تقوم بالرحلة “إم إتش 17” بين أمستردام وكوالالمبور) من علو 30 ألف قدم شرق أوكرانيا، لم تكن لهم أية فكرة عما كانوا على وشك تفجيره، فبهذا العمل الإجرامي لم يقتلوا مئات المصطافين الهولنديين فقط، بل كانوا يحطمون عقدًا من العمل الدبلوماسي الدءوب للكرملين لمنع الأمريكيين من بناء جبهة غربية موحدة ضد روسيا.
وكان الكرملين يكتسح الاتحاد الأوروبي من خلال لعب أوراق الطاقة والمال والتسليح، وهو ما يفسر سبب تأخير العقوبات ضد روسيا لفترة طويلة، حيث كانت كل النقاشات التي دارت بين البيروقراطيين الأوروبيين تتحول عبر الأموال الروسية لصالح الكرملين لتشل أي سياسة خارجية مشتركة ضد روسيا.
وروسيا هي ثالث أكبر شريك تجاري في أوروبا، فأكثر من 40 في المائة من التجارة الخارجية لروسيا تدور مع الاتحاد الأوروبي، كما أنها تزوده بما يقرب من ربع احتياجاته من الغاز، في حين أنها تتلقى أكثر من 310 مليار دولار في شكل قروض من البنوك الأوروبية، وتكتيكات الكرملين كانت بسيطة: استخدام هذه الأموال لتطبيق سياسة فرق تسد، فلم يعد الدبلوماسيون الروس يعملون وكأنهم عملاء الكي جي بي: فهم لا يتحدثون عن الأيديولوجيا وإنما يتحدثون دائمًا عن المال.
وعمل دبلوماسيو بوتين مثل رجال أعمال أذكياء: هل تريد ألمانيا خطوط أنابيب خاصة بها؟ ممتاز .. في المقابل نحن نريد فقط من برلين أن تكون أكثر تفهمًا حول موضوع حقوق الإنسان، هل فرنسا، أو إيطاليا تريدان صفقات عسكرية وصفقات في الطاقة؟ رائع .. هذا يمكن ترتيبه، ولكن من فضلكما، لا نريد محاضرات عن كيفية التصرف، هل بلغاريا والمجر ورومانيا أو ربما النمسا يريدون مرور خطوط أنابيب الغاز عبر أراضيهم؟ رائع .. ولكن تذكروا، نحن بحاجة إليكم للوقوف معنا في بروكسل، هل ترغب لندن في أن تكون الوجهة المفضلة لأغنياء روسيا؟ رائع .. لكن دعونا لا ننظر عن كثب في موضوع التمويل الخارجي.
وصنع الدبلوماسيون الروس حلفاء سريين، وخاصة من دول منطقة اليورو الأضعف مثل إيطاليا والبرتغال وإسبانيا، فهذه الحكومات التي تعاني من الركود والتي لا تريد إلا المزيد من ملايين السياح الروس أو التخفيضات في أسعار الطاقة، وهو ما حصلت عليه في مقابل الدفاع على مصالح روسيا داخل الاتحاد الأوروبي.
واقترح الدبلوماسيون الروس إنشاء خط أنابيب جنوب شرق أوروبا لشراء الأصدقاء وضمان المحاباة في بروكسل، وقد عرقلت هذه الألعاب الماكرة آمال الاتحاد الأوروبي في تشكيل اتحاد للطاقة للدخول في مفاوضات جماعية مع روسيا في صفقات الغاز، ولكن بدلاً من ذلك فإن كل دولة لا تزال تتفاوض مع روسيا لوحدها.
ونجحت السياسة الروسية بامتياز خاصة مع أثينا ونيقوسيا، حتى أن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وصف كل من اليونان وقبرص “أحصنة طروادة” لروسيا، فقد جعل الكرملين أثينا شريك عسكري ونيقوسيا، عاصمة قبرص اليونانية، مركز لغسل الأموال، فما يقرب من 150 مليار دولار تتدفق سنويًا من روسيا إلى نيقوسيا.
وساهم هذا التعاون في وقوف الوفود اليونانية والقبرصية في بروكسل باستمرار مع الملف الروسي بشأن جميع المسائل المتعلقة بالبحر الأسود وجنوب القوقاز، حتى أنهم اعترضوا على مقترحات الاتحاد الأوروبي لإرسال مراقبين إلى الحدود المتنازع عليها في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ومولدوفا.
وهذا ما يفسر سبب عدم حدوث أي تطور في موضوع العقوبات الروسية قبل إسقاط الطائرة الماليزية، فقد نجح الكرملين في تطبيق سياسة فرق تسد من خلال تفرقة الثلاث لاعبين الكبار في الاتحاد الأوروبي: فبريطانيا ترفض خسارة أعمالها مع البنوك الروسية، وفرنسا مصممة على عدم فقدان مليارات الدولارات في عقودها العسكرية مع روسيا، أما ألمانيا، والتي تتزود بـ 40 في المائة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا، ترفض أن تتزحزح عن كل ما له علاقة بالطاقة.
وأصيبت واشنطن بالإحباط على نحو متزايد من تراخي بروكسل تجاه ملف العقوبات الروسي، إذ لم يتحرك السياسيون الأوروبيون بما فيه الكفاية مع الكارثة الإنسانية والجيوسياسية الأوكرانية خوفًا من فقدان كل هذه الامتيازات، وبينما كان الأوروبيون يبحثون فرض عقوبات محتملة على بوتين، يأتي إسقاط الطائرة الماليزية ليغير كل شيء؛ فهذا العمل الإجرامي غيّر من نظرة الرأي العام الأوروبي تجاه فلاديمير بوتين: من جار غير مرغوب فيه إلى وحش خطير.
وبعد هذه الحادثة استيقظ ساسة أوروبا على عناوين الصحف الشعبية مثل “بوتين قتل ابني” لتصبح بريطانيا وألمانيا وهولندا – بلد المنشأ لمعظم ضحايا الطائرة الماليزية – واقفة في وجه بوتين، ولتنقلب كل الحسابات بعد أن أصبح الساسة الأوروبيون يخشون فقدان مصداقيتهم وأصوات ناخبيهم، فبالنسبة لديفيد كاميرون وأنجيلا ميركل – على وجه الخصوص – أصبحت العقوبات الموجهة ضد روسيا ورقة مربحة سياسيًا.
وهكذا حقق الانفصاليون الموالون لروسيا ما فشل فيه الدبلوماسيون الأميركيون، فلعدة أشهر، تحركت الماكينة الدبلوماسية الأمريكية لتضغط على 28 عضو في الاتحاد الأوروبي من أجل أخذ موقف تجاه روسيا، ولكن الكل كان متذبذب بما فيهم بريطانيا التي لم يُلزمها الضغط الأمريكي، ولكن ليس بعد هذا الحادث الذي غيّر في الدبلوماسية الأوروبية تجاه روسيا لتضرب شبكة العلاقات التي تعهّدها بوتين منذ زمن طويل، ومع اقتصاد روسي يترنح وعلى حافة الركود، زد عليه تقييد وصول البنوك الروسية إلى الأسواق المالية الغربية، فلن يتضرر فقط الكرملين، ولكن أيضًا القلة الروسية “المتنفذة” التي لها علاقات وثيقة بالاقتصاد الأوروبي.
المصدر: بوليتيكو