في ظلّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في غزّة، عبَر مقاتلون من الدولة الإسلامية الجهادية (داعش) الحدود السورية-اللبنانية إلى بلدة عرسال في شمال لبنان، في محاولةٍ للسيطرة على معسكر للثوار السوريين. وقد أدّى التوغّل الذي بدأ في 2 آب/أغسطس، إلى وقوع اشتباكات مباشرة بين إسلاميين والجيش اللبناني، الأمر الذي شكّل امتداداً خطيراً للنزاعات الإقليمية إلى الأراضي اللبنانية. والواقع أنّ لبنان أصبح منخرطاً بعمق في الصراع، على الرغم من محاولاته الهادفة إلى البقاء في منأى عن الاضطرابات المجاورة.
على المستوى الرسمي، يعتمد لبنان سياسة النأي بالنفس عن النزاعات المحيطة به، ومن ضمنها الاضطرابات في سورية. تتولّى قوى الأمن في لبنان تطبيق هذه السياسة التي أعلنها مجلس الوزراء، وتتولّى أيضاً، من بين أمور أخرى، مراقبة حركة اللاجئين الذين يعبرون الحدود من سورية، كما تركّز على منع المجموعات المسلّحة من القتال في البلدات اللبنانية. لقد استقرّ الثوار السوريّون في البلدات اللبنانية الحدودية منذ اندلاع الثورة السورية، بيد أنّ الجيش اللبناني لم يَخُض إلا نادراً مواجهات مسلّحة ضدّهم. لكن في جنوب لبنان وشماله، خاض الجيش وقوى الأمن معارك عدّة ضدّ مجموعات إسلامية سنيّة متطرّفة تسعى إلى زعزعة استقرار لبنان، وإلى السيطرة على البلدات والمدن السنيّة.
لايزال لاعبٌ لبناني واحد منخرطاً في الصراع السوري على وجه الخصوص. فحزب الله، المجموعة اللبنانية شبه العسكرية، يدعم بشكلٍ فاعل نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ويحمي مخزونات أسلحته في سورية، فضلاً عن خطوط الإمداد على طول الحدود السورية-اللبنانية. إضافةً إلى ذلك، قاتل حزب الله الثوار في سورية إلى جانب الجيش السوري.
في البدء، لم يحارب نظامُ الأسد، وبالتالي حزب الله، داعش حين بدأ هذا التنظيم المتطرّف بالاستيلاء على الأراضي السورية، بل إن النظام تجاهل، وشجّع حتى، توسّعَ الدولة الإسلامية لأنها كانت تعمل في المناطق الخاضعة إلى سيطرة المعارضة. وقد قام تنظيم داعش بتشتيت المعارضة السورية، وإبعاد جبهة النصرة، المجموعة المسلّحة الأكثر فاعلية في المعارضة؛ وأقصى لواء أحفاد الرسول، مجموعة مسلّحة إسلامية معتدلة، من بلدة الرقّة، وأطاح لواء عاصفة الشمال (في بلدة أعزاز). لم تكن مجموعات المعارضة السورية، الأقل تجهيزاً وتدريباً من الدولة الإسلامية، بمستوى مقاتلي داعش. كما شكّل صعود الدولة الإسلامية فرصةً ذهبيّةً لنظام الأسد كي يبرّر صراعه ضدّ المعارضة السورية، ذلك أنّ النظام قدّم داعش إلى المجتمع الدولي باعتبارها دليلاً على أنّ النظام يحارب إرهابيين.
فيما واصلت داعش أجندتها التوسعيّة القاضية بإنشاء منطقة سنيّة بين العراق وسورية، أصبح حزب الله أحد أعداء التنظيم. وقد توسّعت داعش في العراق في حزيران/يونيو 2014، واستولت على موارد وأموال وأسلحة متطوّرة. وسرعان ما أصبحت داعش، ذات القدرات المتزايدة، تؤرق النظام السوري الذي دُفِع إلى خوض مواجهة مباشرة معها للمرّة الأولى. وبالتالي، أصبح حزب الله أيضاً في مواجهة عدوّ قوي.
وإذ شكّل حزب الله بوضوح عدواً لتنظيم داعش، نقل هذا الأخير مقاتليه إلى القلمون، وهي منطقة واقعة على الحدود السورية-اللبنانية، تُطِلّ على الأراضي السورية وتتميّز بأهمية استراتيجية لحزب الله. أما بلدة عرسال التي تقع على أقدام سلسلة جبال القلمون، فمهمةٌ لكلٍّ من داعش وحزب الله على السواء. بالنسبة إلى تنظيم داعش، تُعَدّ البلدة ذات الغالبية السنّية، والتي تضمّ متعاطفين مع الثورة السورية و100 ألف لاجئ سوري، قاعدةً للمقاتلين حيث يمكن أن يعيدوا تنظيم صفوفهم ويعودوا إلى النزاع في سورية. أما بالنسبة إلى حزب الله، فتُعَدّ البلدة الملاذ الأخير للثوار في القلمون؛ إذ أمّن حزب الله جميع المنافذ الأخرى إلى السلسلة الجبلية حيث يمكن أن يلجأ الثوار. وقد عمد الجيش اللبناني الذي لم يرغب في التورّط في قتالٍ مع الثوار السوريين، وفي ظلّ ضغطٍ متواصلٍ من حزب الله، إلى إقامة الحواجز حول عرسال، مانعاً أي مجموعات مسلّحة من الخروج من البلدة، وغاضّاً النظر عن دخولهم وخروجهم عبر الحدود.
قدَّرَ حزب الله أن دفع مقاتلي داعش إلى داخل عرسال سيوقِعهم في اشتباكٍ مفتوحٍ مع فصائل معارِضة سورية أخرى متواجدة في البلدة، ولاسيما جبهة النصرة وفلول مجموعات متنوّعة من المقاتلين الذين كانوا فرّوا من سورية أو خسروا معارك فيها (مثل معارك مدن القصير ويبرود والرقّة وأعزاز). والواقع أنه من الممكن إلحاق الأذى بتنظيم داعش من دون الحاجة إلى اشتباك حزب الله معه. ومثل هذه المواجهة ستجرّ الجيش إلى القتال بطبيعة الحال، لأنه إذا جرى في لبنان، فسيشكّل تهديداً مباشراً للاستقرار اللبناني.
فضلاً عن ذلك، من شأن سيطرة الجيش اللبناني على عرسال أن تفيد حزب الله، وكذلك نظام الأسد، الذي يسعى إلى السيطرة على منطقة القلمون. فستؤدّي هذه السيطرة، من منظورٍ عسكري، إلى قطع خطّ الإمداد الأساسي لأي مجموعة معارضة سورية تنشط على الحدود. كما أنها ستضمن سلامة مقاتلي حزب الله من خلال منع الثوار السوريين من الوصول إلى الحدود. هذا وكانت المملكة العربية السعودية خصّت الجيش اللبناني بمنحةٍ في ربيع العام 2014 لشراء أسلحة متطوّرة من شأنها أن تساعده على موازنة ترسانة حزب الله المتطوّرة. وإذا ما انخرط الجيش في قتال ضدّ الثوار، فسيستخدم هذا الدعم من دون أن يشكّل تهديداً جدّياً محتملاً لتفوّق حزب الله العسكري في لبنان.
عندما اعتقلت السلطات اللبنانية عماد جمعة، قائد تنظيم داعش في القلمون، في بداية آب/أغسطس، تمّ أخيراً جرّ الجيش اللبناني إلى مواجهة مع داعش. فشكّل هذا الأمر ضغطاً على الجيش، وقوّض سياسة النأي بالنفس اللبنانية.
كان هذا التطوّر حتمياً. فلو كان الجيش اللبناني لينجح في تطبيق سياسة النأي بالنفس، كان يجب أن يكون المجموعة اللبنانية المسلحة الوحيدة المسؤولة على الأرض، والتي تراقب الحدود اللبنانية وتضبطها للحؤول دون أي امتداد محتمل للنزاع السوري إلى لبنان. إلا أن الجيش لايملك العتاد والعناصر الضروريَّين للاضطلاع بهذا الدور. ويعود السبب في ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ إلى أن الوضع السياسي الراهن في لبنان، حيث لحزب الله اليد العليا في مؤسسات الدولة، أبقى الجيش اللبناني في موقع ثانوي.
وطالما أن حزب الله ينشط خارج مظلة الجيش اللبناني وقيادته، وبالتالي خارج سياسات مؤسسات الدولة، سيبقى لبنان عالقاً في اضطرابات تمتدّ إليه من النزاعات الإقليمية.
نُشر هذا المقال لأول مرة في موقع كارنيجي بيروت