كتب ريتشارد فالك، الأستاذ المخضرم في القانون الدولي والعلاقات الدولية في جامعة برينستون، مقالا يناقش فيه الجرائم التي ارتُكبت في غزة خلال الحرب الإسرائيلية التي تجري حاليا على القطاع، والتحيزات والتحالفات الإقليمية التي أطلق عليها “الغريبة”، التي تقف وراء هذه الحرب.
فمن بين كل التعقيدات التي أحاطت بردود الأفعال الدولية، ليس هناك شيء مثير للحيرة أكثر من تواطؤ معظم الحكومات العربية مع الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. إن ما يجعل الأمر محيرا هو حجم المشتركات بين الفلسطينيين وبقية العرب، مشتركات عرقية ودينية وثقافية وتاريخية تخلق هوية شديدة التشابك بين شعوب المنطقة.
كما أنه لم تكن هناك قضية واحدة تسترعي اهتمام العرب أكثر من ذلك الظلم الواقع على الفلسطينيين، وبشكل ما، يمكن القول إن الحكومات العربية حاولت أن تتضامن أو أن تظهر تضامنها مع المحنة الفلسطينية، بداية من حرب فلسطين، وحروب فاشلة أخرى عام 1967 و 1973 لم تهدد إسرائيل وجوديا. وكانت نتيجة تلك الحروب إقامة معاهدة سلام مصرية أعلنت بداية لحظة التخلي عن الفلسطينيين سياسيا، لكن لم يكن التخلي حينها دبلوماسيا أو اقتصاديا.
أما الآن، فإن أي تضامن عربي مع الفلسطينيين قد يُنظر له بشكل من التهكم والسخرية، بل إن العداء حل محل التضامن، وقبل العرب بطموحات إسرائيل الإقليمية بالتزامن مع قبولهم بالدور الأمريكي في المنطقة.
هناك بعض العداء الرسمي لإسرائيل، وبعض التعاطف الرسمي مع الفلسطينيين، لكن ذلك فقط على المستوى الخطابي الفارغ. وما زالت هناك دول عربية حتى الآن ترفض دخول أي شخص خُتم جواز سفره بالختم الإسرائيلي. اغتيال أنور السادات تم تفسيره في 1981 على أنه معارضة للسلام مع إسرائيل، ونقل الإعلام الغربي حينها أن مصريين كانت تمر بهم الجنازة أسفل منازلهم ولم يكونوا يعيرونها اهتماما كنوع من أنواع الاعتراض على موقف الرجل من فلسطين.
لكن الآن، وعلى النقيض من ذلك، نجد أن هناك دولتين فقط يمكن القول إنهما تصرفتا بمسؤولية حيال العدوان الإسرائيلي، الأولى تركيا غير العربية والثانية هي قطر. رئيس الوزراء التركي أدان العدوان، وبعض الدول في أمريكا اللاتينية سحبت سفراءها من دولة الاحتلال في نوع من الاعتراض الرمزي، لكن أوروبا وأمريكا وحتى الدول الأفريقية أدارت ظهورها للفلسطينيين، ربما باستثناء جنوب أفريقيا.
كل هذه الاعتبارات تجعل من المحزن سياسيا وأخلاقيا مشاهدة صمت الدول العربية. بالنظر إلى وحشية الهجوم الإسرائيلي، هذا الصمت على أقل تقدير يضرب في عمق الهوية العربية والإسلامية، والأسوأ من ذلك، هو حالة التحريض ضد الشعب الفلسطيني والذي ثبت أن السعودية ومصر تقومان به عبر حث إسرائيل ودعمها لإنهاء “المهمة”. المهمة بالنسبة لمصر والسعودية ليست الأنفاق ولا الصواريخ ولا حتى الحفاظ على أمن إسرائيل، لكن المهمة هي القضاء على حماس باعتبارها “رأس الأفعى” الفلسطينية التي لا تزال تؤمن بالمقاومة.
من المؤكد أن سلوك هذه الحكومات هو أمر غير أخلاقي ويشكل حيرة كبيرة في كل من مجالات السياسة والقانون، لكن ما المراوغات التي يمكن وصفها “بالواقعية السياسية” التي أدت بهذه الأنظمة العربية لاتخاذ ذلك الموقف المخزي؟
– عدو عدوي
التفسير الأساسي للتواطؤ العربي (باستثناء قطر) هو علاقة الحكومات العربية بإسرائيل وكرهها للإخوان المسلمين. إنهم يكرهون الإخوان أكثر كثيرا من استيائهم من جرائم إسرائيل. هذا العداء للحركة الإسلامية يلقي بظلاله على المنطة كلها. مثل هذا التقييم الأولي يقدمك خطوة لفهم المشهد أكثر لكنه لا يعطيك نظرة ثاقبة للوضع.
مصدر كراهية الإخوان المسلمين هو أنه ينظر إليها على أنها بديل شرعي للنظام الديني الأقوى في المنطقة، السعودية، وقد حدث ذلك سابقا في الثورة الإسلامية الإيرانية، وتسببت الثورة الإيرانية رغم اختلاف سياقاتها في هز جميع الأنظمة العربية لاسيما الملكية منها وبالطبع السعودية على رأسها. تشعر كل تلك الأنظمة أن خنق الإخوان أو أي صوت للمعارضة هو الضامن الوحيد لبقائها أو لاستقرار حكمها.
حماس من ناحية أخرى، كحركة مقاومة نشطة، فهي يُنظر إليها على أنها تهديد حاد لهذا النوع من الحكومات. فهي ذات علاقة تاريخية مع الإخوان المصريين، والتي يعود تاريخ تأسيس حركتهم إلى عقود قبل دولة الاحتلال. ثاني أسباب ذلك التهديد هو أن حماس قد اكتسبت قدرا هائلا من الشرعية بسبب مقاومتها للاحتلال وفعالية تلك المقاومة فضلا عن شرعية الصندوق التي أوصلتها للسلطة عام 2006 بعد انتخابات برلمانية نزيهة. أما ثالث تلك الأسباب فهو أن حماس رغم أنها حركة إسلامية سنية إلا أنها تجاوزت الطائفية عبر بناء علاقات طويلة الأمد مع الإيرانيين، ورغم اهتزاز تلك العلاقة بسبب الأوضاع في سوريا إلا أنها عادت إلى حيز الاستقرار من جديد.
– الخيانة المصرية
لم تخف دول الخليج خيبة أملها من رفض واشنطن التمسك بحسني مبارك وصد المد الشعبي الذي أطاح به، الأمريكيون لا يزالون يحتفظون بذكرى طهران، والأنظمة الخليجية لا تقل هشاشة عن نظام مبارك، ولن تشفع لها علاقتها بالولايات المتحدة أو النفط، والبديل على الأرض هم الإخوان المسلمون وحتى السلفيين.
وهكذا، بعد عامين، رتبت السعودية وإسرائيل وقادة من الجيش المصري الانقلاب العسكري الذي أطاح برئاسة متعثرة لمحمد مرسي، وفورا حظي انقلاب السيسي بمساعدات ضخمة من السعودية والإمارات، حيث أمل الخليجيون أن ينعش الاقتصاد النظام الجديد، حتى لو أظهر ذلك النظام نفس الأدوات والوسائل والسياسات التي كانت السبب في الهبة الشعبية ضد مبارك قبل ذلك. السيسي قمع معارضيه، قتل المئات من الإخوان المسلمين، العشرات منهم بينما كانوا يصلون، وسمى “الإخوان” منظمة “إرهابية”، وأصدر قضاته أحكاما بالإعدام الجماعية، وصمتت واشنطن لأنها تريد عودة الاستقرار الإقليمي لما قبل الربيع العربي.
– إيران تفجر أسطورة الاستقرار الإقليمي
كانت إيران مختلفة كثيرا عن مصر، الخميني كان يصر أن هذه ثورة إسلامية وليست ثورة إيرانية، كان يرى نظام الحكم السعودي غير شرعي بسبب انحطاطه وانبطاحه أمام الغرب. كانت الثورة الإيرانية تهديدا حقيقيا للاستقرار في المنطقة، فقد أطاحت الثورة بنظام سماه كيسنجر “نظام نادر الوجود، إذ أنه حليف بغير شروط”! هذه الشرعية الثورية طفت على السطح مرة أخرى مع ربيع 2011، كان الخوف في كل القصور الملكية والرئاسية، والمد الثوري لا يمكن رفضه الآن على أسس طائفية.
الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) تلعب على نفس النغمة التي استخدمها الخميني، الدولة الإسلامية والخلافة. هؤلاء يرون التقسيمات الوطنية والسياسية في العالم العربي بمثابة أمر مفروض من الأوروبيين، ولذلك فإن الواجب هو تدمير وزعزعة استقرار نظام سايكس بيكو لتنهض الأمة المسلمة.
– عالم إسرائيل الموازي
انقسم المحللون الإسرائيليون طويلا حول أولويات دولتهم الإقليمية، لكنهم اتفقوا على عدد من الأهداف الأساسية. الشرق الأوسط بالنسبة لإسرائيل يجب أن يتألف من حكومات ودية ومستقرة، تماما كحكومة الشاه في سنوات ما قبل الثورة في إيران، كان هذا هو النظام المثالي، لاحقا يجيء ثاني أفضل الخيارات، الحكومات الباردة، أو حتى المعادية، لكنها على هامش القضية، نتحدث هنا عن أردن الملك حسين، أو مصر مبارك، أو دول الخليج والسعودية في عهد الملك فهد أو خلفه عبدالله. إذا كان هذا الاستقرار لا يمكن بلوغه، فثالث أفضل جيران إسرائيل هي الدول المعادية خطابيا، سوريا الأسد أو عراق صدام. لذلك فإن إسرائيل ليست على استعداد أن تعيش في عالم واحد مع دولة معادية سياسيا، ويمكن لذلك أن يفسر الكثير.
فحينما يتعلق الأمر بغزة أو حماس، فإن التقارب الإسرائيلي العربي هو نعمة لا تقدر بثمن لدى الساسة الإسرائيليين في تل أبيب. إنه يعطي لإسرائيل مساحة غير محدودة من تنفيذ المذابح وارتكاب المجازر والدمار. حتى الولايات المتحدة والأمم المتحدة لن يجرؤا على رفع إصبع في وجه إسرائيل، ما دامت الدبلوماسية المصرية تعمل لصالح إسرائيل، فقد سمعت حماس بمقترح مصري لوقف إطلاق النار عبر وسائل الإعلام، إنهم يدّعون أنهم يسعون لوقف إطلاق النار لكنهم لا يحادثون حماس! وبالمثل يفعل الأوروبيون والأمريكيون الذين يقولون أنهم يسعون إلى التوصل لاتفاق من شأنه أن ينهي العنف.
بينما تتحدث إسرائيل عن الصواريخ والأنفاق، وبينما يعلق الكثيرون على أن الحرب ضد حماس وليست ضد غزة، يبدو أن بعض القادة الإسرائيليين ومؤيديهم يؤمنون بأنه يجب عقاب سكان غزة بالموت لأنهم صوتوا لصالح حماس في عام 2006. لا يفكرون كثيرا أن الأطفال القتلى لم يصوتوا، بل لم يولدوا أساسا حينما حصلت حماس على أصواتها، العقاب الإسرائيلي المصري يستهدف الفلسطينيين بشكل عام لأنهم تجرأوا على تشكيل حكومة وحدة وطنية في يونيو الماضي، إسرائيل تقول للسلطة الفلسطينية أنهم إذا أرادوا لهم أن يتعاونوا مع إسرائيل، فإن عليهم أن يقمعوا المقاومة الفلسطينية وأن يقضوا على حماس.
المصدر: مدونة ريتشارد فالك