لم تعد العودة إلى الوطن خيارًا بالنسبة لنحو 1200 عائلة من مسيحيي العراق الذين لجأوا الى لبنان، وآخرهم هرب من الإبادة والتهجير القسري من قبل “الدولة الإسلامية” المعروفة باسم “داعش” ضد الأقليات في الموصل تحديدًا، حيث يتخذ هؤلاء من لبنان محطة “ترانزيت” استعدادًا للهجرة إلى الغرب.
وتهتم المطرانية الكلدانية في لبنان بهؤلاء، فتقوم بتسجيل العائلات وتوزيع الحصص الغذائية عليهم، بالإضافة إلى تأمين ما يمكن، سواء من المطرانية مباشرة أو بالتنسيق مع السلطات اللبنانية المعنية، مع العلم أن العديد من هذه العائلات لم يتمكن من الوصول إلى لبنان لأن مقاتلي “داعش” صادروا أوراقهم وأموالهم وأحرقوا بيوتهم وسياراتهم.
ويقول “أمير بولس” (57 سنة) خلال تسلمه حصته الغذائية، إنه وصل إلى لبنان منذ 10 أيام بعدما “هربنا من عصابة داعش المجرمة ولم يعد هناك من أمل للبقاء في العراق”.
وأعرب بولس عن ارتياحه “مع أشقائنا في لبنان والمعاملة جيدة جدًا”، مشددًا على أنه لن يرجع إلى العراق فليس هناك استقرار، والشعب المسيحي مضطهد”.
وفي هذا السياق، قال الأب العراقي “دنحا توما يوسف” وهو نائب أسقفي لكنيسة الكلدان في بيروت ويقوم بالاهتمام بالعائلات الواصلة من العراق إنه بعد الأحداث الأخيرة “وصلت عوائل قليلة إلى لبنان ذلك أن أكثر من 1100 عائلة هربت من الموصل، لكن داعش وضعت حواجز واستولى مقاتلوها على الأموال والأوراق الرسمية والجوازات، لذلك لم يصل عدد كبير إلى لبنان لكن سيأتي عدد أكبر”.
ولفت توما إلى أن عشرات العائلات التي تسجلت حتى الآن قادمة من الموصل، مشيرًا إلى أنه “بشكل عام يوجد 1200 عائلة في لبنان”.
وأضاف أنه “طلبنا مساعدات لأن القادمين بحاجة لمساعدات مالية، وبدأنا بتسجيل العوائل ونساعدهم بقدر استطاعتنا وحسب”، موضحًا أن غالبية من العائلات اللاجئة “ليس لديها سكن فسكنت مع بعض العائلات العراقية” التي سبقتها بالنزوح إلى لبنان.
ولفت إلى أن المطرانية في عملها هذا تعتمد على التبرع بشكل أساسي “لأن الكنيسة لا تستطيع تغطية كل الاحتياجات”، خصوصًا مع ارتفاع تكاليف السكن والاستشفاء في لبنان.
وأوضح أن المطرانية أنفقت أكثر من 50 ألف دولار أمريكي كنفقات لإجراء عمليات جراحية ومعالجة أمراض مزمنة للاجئين، مشيرًا إلى أن هناك حالات تصل فيها العائلات إلى لبنان وقد سُلبت أموالها ولم يتبق معها إلا أجرة الوصول إلى لبنان، فتأخذ المطرانية على عاتقها تأمين سكن لهم.
ولفت الأب يوسف إلى أنه “في عهد صدام حسين كان تعداد المسيحيين 1.6 مليون نسمة، غالبيتهم من الكلدان يتوزعون في كل العراق من الجنوب إلى الشمال، لكن اليوم بسبب الإرهاب وداعش تقلص الرقم إلى 350 ألف مسيحي والغالبية أتت إلى لبنان”.
وأوضح أن لبنان “شكل محطة ترانزيت، فمنذ 2003 حتى اليوم، أكثر من 30 ألف عائلة سافرت وهاجرت من لبنان إلى دول أخرى، أغلبية المسيحين العراقيين المهجرين هم كلدانيون ويوجد عائلات تتبع الكنائس السريانية والآشورية والأرثوذوكسية”.
ولفت إلى أن المسيحيين الكلدان السوريين الذين تركوا سوريا قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية فيها في مارس 2011، توجهوا إلى الدول الأوروبية وأمريكا عن طريق الأمم المتحدة، وعندما بدأت الحرب في سوريا أتوا إلى لبنان وأصبح هناك ضغط على الكنيسة الكلدانية.
وشدد على أن الكنسية الكلدانية في لبنان “تحاول تغطية النواحي كافة ثقافيًا كالمدارس، وصحيًا كالمستشفيات والسكن، ومن الناحية السيكولوجية لوجود عائلات مرهقة نفسيًا”، لافتًا إلى “تنسيق مع الدولة مثل الطلب من وزارة الصحة أن تخصص لنا مستشفيات إذا واجهنا حالة فتقوم المستشفى بمعالجتها إما مجانًا أو بكلفة معقولة”.
وأكد يوسف أنه “لا يوجد عائلة من اللاجئين العراقيين المسيحيين تفكر بالبقاء في لبنان وجميعها تريد الهجرة، لبنان مثل ترانزيت كثير من العائلات أتت إليه وهاجرت”.
وأضاف أن “العودة إلى بلدهم صعبة إلا في حال استتب الأمن ولا أعرف متى سيحصل ذلك مستقبلاً، لكن الأمل ضئيل جدًا للعودة”.
وفي أحد الملاعب الصغيرة في ضاحية بيروت الشرقية، يتجمع العديد من العائلات بانتظار إفراغ حمولات الشاحنات الصغيرة التي تحمل أكياسًا مملوءة بالمواد الغذائية ومخصصة لتوزيعها عليهم.
يتولى عدد من الاشخاص أخذ جواز سفر أو هوية كل منهم بالإضافة إلى بطاقة تسجيل خاصة وزعتها عليهم المطرانية الكلدانية عند تسجيلهم، فيتم تدوين أسماء المستفيدين في جداول تمهيدًا لتسلم الحصص.
غالبيتهم رفض التحدث، لكن أورهان (37 سنة)، لفت إلى أنه وصل إلى لبنان يوم 26 يوليو الماضي هربًا من “داعش الحقيرين الذين هجموا علينا وأفرغوا بيوتنا من محتوياتها، أخذوا سياراتنا ولم يتركوا لنا شيئًا”.
وشدد أورهان على أنه “لم يبق لنا أبدًا أي مكان لنبقى فيه داخل العراق، أتمنى أن يُسمع صوتنا، نحن المسيحيون لا يريدوننا (داعش) هناك في العراق ومن لا يريدنا فلا نريده”، معتبرًا أنه “محظوظ” لقدومه إلى لبنان مع عائلته “ذلك أن من بقوا من جماعتنا هناك محاصرين”.
وأكد أنه “لم يبق من مكان للمسيحيين في العراق، لا أفكر بالعودة لأنه لم تعد للمسيحي قيمة في العراق ومستعد للهجرة إلى أي مكان”.
من ناحيتها، سميرة ميخائيل بولس (68 عامًا)، موجودة في لبنان منذ ثلاثة أشهر في لجوئها الثاني بعد سوريا التي مكثت فيها أربع سنوات، قالت “ولم تقدم لي الأمم المتحدة شيئًا”.
وقالت بولس إنه لا داعي لتتكلم عما يجري في العراق لأنه واضح، فهناك تقوم داعش “بذبح المسيحيين وتهجيرهم من بيوتهم”، مصرة بقولها “لن أعود إلى العراق”، ومشيرة إلى أنها قدمت أوراق الهجرة إلى أمريكا حين كانت في سوريا وستتابعها خلال وجودها في لبنان”.
وشدد الأب يوسف على أن “داعش ليست كل الإسلام ويوجد إسلام معتدل لا يقبل بأفعالها”، موضحًا أنه حتى في الموصل “لم يقبل المسلمون بداعش، و80% من عناصرها في الموصل هم من خارج العراق”.
وقال “في الموصل، رأينا الدولة الإسلامية التي تحمل علم لا إله إلا الله تفجر المسجد المكتوب عليه نفس الشعار وفي داخله كتاب من القرآن الكريم، هل هذه الدولة الإسلامية التي تؤمن بالدين الإسلامي؟”.
ورأى أن المشكلة في العراق أنه “لا يوجد أمان، وحتى إقليم كردستان الآمن مهدد من داعش”، مضيفًا أن “المسيحي لا يستطيع أن يقاوم ويحمل السلاح وذلك صعب في وجه داعش”.
ولفت إلى أنه “لا يمكن أبدًا أن يتحمل أحد العيش مع وحوش، لذلك اختار المسيحيون الطريق الأسهل وهو الهجرة والابتعاد عن الشر والبدء بحياة جديدة”.
واعتبر أن النار التي تجتاح المنطقة حاليًا لا تحرق المسيحيين فقط بل الإسلام أيضًا”، داعيًا الغرب وتحديدًا فرنسا والولايات المتحدة “إن كانتا جادتين في حمايتنا إلى تشكيل قوة دفاعية تحمي كل المناطق المسيحية كما فعل الأكراد في العراق”.
وكان بابا الفاتيكان “فرنسيس” قد أعلن في العاشر من أغسطس الجاري إرساله موفدًا شخصيًا إلى العراق غدًا، مؤكدًا أنه يتابع الأحداث التي يشهدها العراق عن كثب حيث أرغم هجوم مسلحي تنظيم “الدولة الإسلامية” آلاف المدنيين على ترك منازلهم.
وقال البابا – بعد صلاة التبشير في ساحة “القديس بطرس” -: ” أدعوكم جميعًا إلى الانضمام إليّ في الصلاة من أجل الضحايا وأولئك الذين يتعذبون بشكل خاص في العراق نتيجة تزايد أعمال العنف”، وأضاف أنه ” قلق على جميع الأشخاص ومن وبينهم العديد من المسيحيين، الذين اضطروا لترك منازلهم”.
وأعرب مبعوث الفاتيكان الخاص لدى العراق “الكاردينال فيرناندو فيلوني”، والذي وصل في الـ 13 من أغسطس الجاري عن امتنانه لحكومة إقليم شمال العراق لما تقدمه من إغاثات للنازحين المسيحيين والإيزيديين، وقال إنهم يراقبون وضع الإقليم عن كثب ومستعدون لتلبية أي طلب.
وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الأوقاف في حكومة الإقليم،” كمال مسلم” قال فيلوني: “من الواجب أن أعبّر عن امتناني لحكومة إقليم كردستان وشعبه، بسبب إغاثتهم للاجئين، وأدعو الله أن يوفقكم ويحميكم”، ومضى قائلاً: “سنكون على إطلاع دائم على الوضع ومستعدون لتلبية أي طلب أو حاجة”.
ومضى قائلاً إن “روح التعايش الديني راسخة في إقليم كردستان، وكل فئة تعبر وتمارس شعائرها الدينية بحرية، ونقدم المساعدة اللازمة لكل الفئات بهذا الصدد”.
وكانت الحكومة الفرنسية قد عبرت في وقت سابق عن غضبها للملاحقة التي يتعرض لها المسيحيون العراقيون، وأنها مستعدة لتسهيل منحهم حق اللجوء في فرنسا.
وجاء في تصريح مشترك أصدره وزيرا الخارجية “لوران فابيوس” والداخلية “برنار كازينوف”: “نحن على أتم الاستعداد لمساعدتهم في الحصول على حق اللجوء في فرنسا إذا كانت تلك رغبتهم”.
وجاء في التصريح الذي أصدره الوزيران الفرنسيان “تشعر فرنسا بغضب شديد إزاء هذه الإساءات التي تدينها بكل قوة، إن الإنذار الذي نفذته الدولة الإسلامية بحق المسيحيين في العراق وكذلك في سوريا ما هو إلا النموذج المأساوي الأحدث للتهديد المخيف الذي تشكله المجموعات الجهادية لجاليات تعتبر من صلب النسيج التاريخي لهذه الدول”.