اختتمت يوم الأحد الماضي الموافق 10 أغسطس/آب 2014 الانتخابات الرئاسية التركية لاختيار الرئيس الثاني عشر للبلاد بفوز صريح ومن الجولة الأولى لمرشح حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان بحصوله على 51.8% من أصوات المقترعين الذين شاركوا لأول مرة منذ إنشاء الجمهورية التركية في انتخاب رئيس لهم، في وقت حصل فيه كل من مرشح المعارضة أكمل الدين إحسان أوغلو على حوالي 38.4% من أصوات المقترعين، فيما حصل المرشح الكردي صلاح الدين ديميرتاش على 9.8% من الأصوات.
ويحتل أردوغان حاليًا موقع رئيس حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة التركية وهو المرشح الفائز برئاسة الجمهورية، في معادلة تجسّد ذروة الموقع الذي يمكن لأحد أن يصل إليه في آن معًا، لكنها تطرح أيضا عددًا من التساؤلات المتعلقة بانعكاسات نتائج الانتخابات على الحياة الحزبية في البلاد، وأولويات المرحلة المقبلة، وشكل ونوع التحولات المحتملة في الفترة القادمة، ومستقبل النظام السياسي في تركيا في ظل الجدل القائم حول نية أردوغان في تحويل النظام السياسي في البلاد إلى نظام رئاسي وهو ما تحاول هذه الورقة الإجابة عنه.
تحليل النتائج
أولاً: محصلة النتائج
لم تأت نتائج الانتخابات بأية مفاجآت بخصوص المرشح الفائز والمرشح الخاسر، فقد كانت جميع التوقعات تصب في صالح أردوغان، لكن من الملاحظ أن النسبة التي حصل عليها لم تكن قريبة من أي من تلك التي عكستها استطلاعات الرأي مؤخرًا، ولا كذلك من توقعات بعض أعضاء الحكومة الذين كانوا يتوقعون أن ينال بين 55 و60%.
البعض اعتبر أن هذه المبالغة في النسب هي سياسة مقصودة هدفها دفع الخصم إلى الانهيار وقطع أية آمال لدى ناخبيه بالمنافسة، والبعض الآخر اعتبرها بكل بساطة مزايدة تعكس الثقة المفرطة نتيجة غياب منافسين حقيقيين. صحيح أن هذه النسبة أمّنت لأردوغان الفوز في منصب الرئاسة لكن المعارضين لا يزالون يعتبرون أنها غير كافية لأن تخوله تغيير النظام السياسي في البلاد برمته.
ثانيًا: نسبة المشاركة
بالرغم من أن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات بلغت 73.8% وهي نسبة عالية إلى حد ما مقارنة بمثيلاتها في البلدان الغربية عمومًا، إلا أنها دون المتوقع مقارنة بنسب المشاركة في الانتخابات المتعددة داخل تركيا ولاسيما الانتخابات البرلمانية عام 2011 وبلغت نسبة المشاركة فيها 87%، والانتخابات المحلية الأخيرة وبلغت 89%. ويعزو البعض ذلك إلى عدة أسباب، أهمها: غياب الحافز لدى الناخبين التابعين للمعارضة في ظل التسليم بالنتيجة النهائية للانتخابات وأيضًا التثاقل في الذهاب إلى صناديق الاقتراع في العطلة الصيفية.
لقد كلّف التقاعس مرشح المعارضة كثيرًا. في الانتخابات الماضية حصل أردوغان على حوالي 20 مليون صوت، وكانت أصوات الحزبين المعارضين تساوي حوالي 20 مليون صوت، لكن في هذه الانتخابات حافظ أردوغان على نفس عدد الأصوات تقريبًا لكن مرشح المعارضة المشترك خسر حوالي 5 ملايين صوت، حوالي 4 ملايين منهم من الحزب الجمهوري.
ثالثًا: توزيع الأصوات مناطقيًا
لم تعكس النتائج من حيث المناطق التي صوّتت لكل مرشح أية تغييرات جوهرية بالمجمل، وقد توزعت -كما جرت العادة- بين مناطق ساحلية صوّت معظم المدن فيها لصالح مرشح المعارضة أكمل الدين إحسان أوغلو، ومناطق داخلية صوّتت لصالح أردوغان وبعض المدن في منطقة جنوب شرق تركيا لصالح المرشح الكردي صلاح الدين ديميرتاش.
رابعًا: توجهات التصويت لدى الناخبين
كان لافتًا أن عددًا غير قليل من أصوات المعارضة (تحديدًا الحزب الجمهوري وحزب الحركة القومية) ذهب إلى المرشحيْن الآخريْن بخلاف مرشحهما المشترك أكمل الدين إحسان أوغلو؛ فقد ذهب وفق التوقعات الأولية ما بين حوالي 750 ألف ومليون صوت من الحزب الجمهوري لمرشح آخر غير أكمل الدين إحسان أوغلو (يُعتقد أنه صلاح الدين دميرتاش)، فيما ذهبت أصوات حوالي 1.7 مليون من حزب الحركة القومية المعارض إلى مرشح حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان. ويعني هذا أن كلا الحزبين لم يلتزما بالدعم الكامل لمرشحهم المشترك، أو على الأقل لم يستطيعوا أن يقنعوا قاعدتهم بالتصويت له.
لا شك أن عدم التزام الناخبين في المعارضة بقرار حزبيهما التصويت لصالح المرشح المشترك هو تعبير في حد ذاته عن الأزمة الداخلية التي تعيشها هذه الأحزاب وسيكون له انعكاسات لاحقة على بنيتها وتوجهاتها. في المقابل، نجح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في مضاعفة الأصوات التي حصل عليها كما نجح في تخطي عقد هامش 4 إلى 6% التي كانت تدور حولها المشاركة الكردية في الاستحقاقات الانتخابية السابقة. ولا شك أنه سيترتب على هذا الأداء الكردي نتائج على أكثر من صعيد خلال المرحلة المقبلة.
مقارنة في الأداء في مدن مختارة بين الانتخابات الحالية والانتخابات المحلية الأخيرة
أولويات المرحلة المقبلة
يعطي الخطاب الذي ألقاء أردوغان من على شرفة مقر حزب العدالة والتنمية في أنقرة عقب الانتهاء من فرز الصناديق بعض المؤشرات على توجهاته وأولويات سياساته الداخلية خلال المرحلة المقبلة، ومنها:
- أولاً: استمرار الصراع مع جماعة فتح الله غولن؛ إذ على الرغم من اللغة الإيجابية التي تحدث بها عن كونه يمثل جميع الأتراك من صوّتوا له ومن لم يصوّت أيضًا، إلا أنه أرسل رسالة واضحة إلى الجماعة عندما قال إنه سيواجه بحزم الجهات التي ستهدد الأمن القومي للبلاد داعيًا أتباع “التنظيم الموازي” والصالحين منه إلى الابتعاد عنه وعدم الانصياع له. وليس من المستبعد في هذا السياق أن يشدّد أردوغان من ملاحقته لأتباع الجماعة أو أن يقوم بمحاولة ملاحقة زعيمهم مباشرة لمحاكمته أو الطلب من الإنتربول الدولي فعل ذلك.
- ثانيًا: تحقيق المصالحة الاجتماعية والاستمرار في عملية السلام التي تم إطلاقها سابقًا مع الجانب الكردي، علمًا بأن الشد والجذب بين الطرفين سيتمحور في المرحلة المقبلة حول حجم ما يمكن للأكراد الحصول عليه في ظل توقعات بمطالب كردية لتحقيق نوع من الإدارة الذاتية غير المركزية الموسعة في بعض المناطق جنوب شرق تركيا؛ وهو أمر يتخوف كثير من الأتراك من أن يكون له تداعيات سلبية على مستقبل وحدة وتماسك البلاد.
- ثالثًا: محاولة وضع دستور جديد للبلاد يعكس بشكل أفضل التحولات الجارية في تركيا منذ عقد من الزمان، ويلبّي طموح أردوغان أيضًا في تعديل النظام السياسي في البلاد بما يتوافق مع انتخاب رئيس للجمهورية لأول مرة عبر الاقتراع الشعبي المباشر، ويعطي دفعة لحزب العدالة والتنمية لتحقيق مشروع تركيا 2023 الذي بدأه أردوغان خلال السنوات الماضية.
- رابعًا: المضي قدمًا في مشروع “تركيا الجديدة” الذي يُعد تاريخ الـ28 من أغسطس/آب القادم بمثابة الإعلان الرسمي عن انطلاقه، ويسعى أردوغان إلى أن يرتبط اسمه به كما ارتبط اسم أتاتورك بتأسيس الدولة التركية الحديثة، ويقوم على إحداث تحول سياسي واقتصادي واجتماعي متكامل يرفع من مكانة تركيا على المستوى الإقليمي والدولي كدولة كبرى ويؤسس للجمهورية الثانية إن صحّ التعبير.
انعكاسات نتائج الانتخابات على الحياة الحزبية في تركيا
أولاً: الحزب الحاكم
من المتوقع أن تؤثر نتائج هذه الانتخابات على الواقع الحزبي في تركيا لناحية تعزيز شرعية حزب العدالة والتنمية كحزب حاكم في البلاد وأن تشكّل هذه النسبة حافزًا جديدًا للفوز بهامش واسع على الأحزاب المعارضة في الانتخابات البرلمانية المنتظرة في يوليو/تموز من العام 2015، لكنها من المتوقع أن تفرض عليه في المقابل تحديا في نفس الوقت يقوم على حقيقة أن أردوغان الذي ارتبطت شعبية الحزب بشخصه في السنوات الأخيرة سيرحل عن زعامة الحزب (ولو نظريًا وقانونيًا)، وأن ذلك قد يؤدي إلى:
- خلق تنافس أو تزاحم في الرؤى والأهداف بين أقطاب متعددة داخل الحزب قد تعيد تشكيل سياسات الحزب إزاء قضايا معينة باتجاهات أخرى مختلفة عن الموجودة حاليًا.
- التأثير على تماسك الحزب داخليًا على اعتبار أن تجربة انتقال رئيس الحزب إلى موقع الرئاسة في تركيا ليست جيدة للحزب كما يُظهر لنا التاريخ في مرحلتي تورجوت أوزال عام 1989 وسليمان ديميريل عام 1993. وفي حالة حزب العدالة والتنمية لن يتمكن حوالي 71 عضوًا في الحزب من الاستمرار في مناصبهم نظرًا للمادة 132 من القانون الداخلي للحزب والتي تنص على عدم السماح للأعضاء بالبقاء في مناصبهم التي تم انتخابهم لها لأكثر من ثلاث مرات متتالية، وهذا قد يؤثر على الحزب إذا لم يكن هناك رئيس قوي له وترتيب جيد للوضع الداخلي.
ثانيًا: أحزاب المعارضة الكبرى
يجب أن تدفع نتائج الانتخابات الحالية أحزاب المعارضة إلى مراجعة حساباتها في ظل استنفاد خياراتها المتاحة إثر الفشل المتكرر في مختلف الاستحقاقات الانتخابية السابقة طوال أكثر من عقد من الزمان، لدرجة أن البعض أصبح يقول: إن “أردوغان وحزب العدالة والتنمية يدعوان الله دومًا لبقاء هذه المعارضة”. هناك حالة من اليأس والتململ تسيطر الآن على قاعدة المعارضة الشعبية، وهناك أصوات بدأت تعلو لمحاسبة زعماء الحزبين على خيار ترشيح أكمل الدين إحسان أوغلو وعلى الخسارة أيضًا، ومن المتوقع أن يواجه زعيم حزب الشعب الجمهوري معارضة شرسة لبقائه في زعامة الحزب وقد ينتهي ذلك بتغييره أو دفعه للاستقالة خلال مؤتمر عام واجتماع مركزي للحزب قريبًا.
من الواضح أن هناك بوادر استقطابات وتوجهات جديدة بدأت تتشكل داخل الأحزاب المعارضة مؤخرًا، وقد تأخذ شكلاً أوسع خلال المرحلة المقبلة بالنظر إلى سلوك ناخبي المعارضة في هذه الانتخابات، ومنها:
- بالنسبة إلى حزب الشعب الجمهوري: من المحتمل حصول تحول في توجهات الحزب العامة و/أو انشقاقات داخل الحزب نتيجة تشكّل تيارات متناقضة في داخله كانت قد بدأت تظهر مع اختيار أكمل الدين إحسان أوغلو كمرشح، ومنها ما يُعرف باسم تيار الصقور داخل الحزب، التيار العلوي، والتيار الوسطي الذي يحاول أن يجعل من الحزب أكثر اعتدالاً في مواقفه من القضايا التي تتعلق بالمسلّمات العامة للمجتمع.
- بالنسبة إلى حزب الحركة القومية: من الممكن أيضًا أن يتآكل مع الوقت على اعتبار أن جزءًا من قاعدته الشعبية من “القوميين الإسلاميين” من الشباب خاصة قد يفضّل الذهاب إلى حزب العدالة والتنمية ربما، ولعل هذا ما يفسّر ذهاب عدد من أصوات ناخبي الحزب لصالح أردوغان في الانتخابات الأخيرة.
ثالثًا: الأحزاب الكردية
أظهرت الانتخابات أن هناك دورًا متزايدًا للأكراد في الحياة السياسية التركية، فهي المرة الأولى التي يترشح فيها كردي لرئاسة الجمهورية، وقد عزّز ذلك من الشرعية السياسية التي حظي بها الأكراد نتيجة عملية السلام الجارية والتي أطلقها حزب العدالة والتنمية منذ سنوات. وعلى الرغم من خسارة صلاح الدين دميرتاش، من المتوقع أن تشكّل النسبة التي حصل عليها دفعًا قويًا له ولحزب الشعوب الديمقراطية لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة دون الخوف من انشقاقات وعينه على تحقيق نسبة الـ10% وتجاوزها إن أمكن، وخلق زعامة كردية قوية قادرة بما تحظى به من دعم على انتزاع المزيد من التنازلات في المفاوضات الجارية مع الحكومة، وتعزيز وضع المناطق الكردية باتجاه المطالبة باستقلالية إدارية أكبر لهذه المناطق عن المركز.
شكل النظام السياسي في المرحلة المقبلة
الدستور الموجود في تركيا حاليًا وُضِع عام 1982 إثر الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان إيفرين عام 1980؛ والذي نصّب نفسه بعد ذلك رئيسًا للبلاد واضعًا صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية واسعة لمنصب رئاسة الجمهورية كي يُحكم قبضته على النظام السياسي في البلاد.
وينص دستور عام 1982 وفق المادة 8 على أن السلطة التنفيذية تُمارَس وتنفذ من قبل رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء (من ضمنه رئيس مجلس الوزراء). وبرغم الصلاحيات الواسعة التي منحها هذا الدستور لموقع رئاسة الجمهورية وفق المادة 104 (الفقرات: أ،ب،ج)، فقد بقي النظام السياسي برلمانيًا، حيث يقوم الشعب باختيار ممثليه الذين يقومون بدورهم باختيار رئيس للجمهورية في وقت يعرض فيه رئيس الحكومة حكومته على البرلمان لنيل الثقة. ويكون دور رئيس الجمهورية في النظام البرلماني رمزيًا ولا يستخدم بعض الصلاحيات المنصوص عليها إلا في الحالات القصوى والاستثنائية والبعض الآخر في حدوده الدنيا، وقد جرت عادة الرؤساء اللاحقين على اتباع هذه القاعدة.
في العام 2007، أُدخلت بعض التعديلات على بعض مواد الدستور من بينها تعديلات تنص على انتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب مباشرة لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. لقد كان هدف أردوغان تحويل النظام السياسي إلى نظام رئاسي لكنه لم يستطع تحقيق ذلك نظرًا لمصاعب عدة واجهته، فبقي الأمر معلقًا في الوسط.
الآن، وبعد انتخاب الرئيس عبر الشعب مباشرة وتأكيد أردوغان على أنه لن يكتفي بدور رمزي وبأنه سيكون رئيسًا نشطًا، أصبح لدينا نظام سياسي غير واضح المعالم، فلا هو برلماني صرف (لأن الرئيس يتمتع بصلاحيات واسعة ولأنه منتخب من الشعب مباشرة)، ولا هو في الوقت نفسه نظام رئاسي صريح (لأنه لا يزال لدينا رئيس حكومة ومجلس وزراء ينال الثقة من البرلمان). عمليًا، أصبح النظام السياسي الآن قريبًا من النظام نصف الرئاسي أو شبه الرئاسي دون أن يكون كذلك مئة بالمئة ودون أن ينص الدستور على ذلك صراحة.
هذه الحالة من الجمع بين نظام برلماني وبين رئيس منتخب من قبل الشعب مباشرة بصلاحيات واسعة ومفعّلة يخلق وضعًا شاذًا لا يمكن للنظام معه أن يعمل بشكل صحيح لأنه يخلق حالة من عدم التوازن بين السلطات ومن التضارب في الصلاحيات أيضًا. ونصبح هنا أمام أحد اتجاهين:
أ- قانونيًا: لا يمكن تجاوز هذه المعضلة إلا من خلال
- تعديل النظام السياسي للبلاد، وهذا يحتاج بطبيعة الحال إلى ثلثي أصوات البرلمان، أي: 367 صوتًا من أصل 550. لا يملك حزب العدالة إلا 313 صوتًا منها، ولا يوجد من يريد أن يدعمه في هذا التحول. لذلك، فإن الحزب سيحاول أن يحصل على هذا العدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية القادمة العام القادم 2015 وقد يُصار إلى تقديمها إلى أواخر العام 2014 للاستفادة من الزخم الحاصل لدى الحزب وقاعدته الشعبية، لكن يبقى تحقيق هذا الهدف صعبًا.
- عرض دستور جديد للاستفتاء، لكن التوصل إلى دستور جديد ينص على نظام رئاسي أو نصف رئاسي لن يكون سهلاً في ظل معارضة المعارضة لهذا التوجه سيما وأن عدد أعضاء لجنة صياغة الدستور متساو بين جميع الأحزاب الرئيسية وهو ما لا يخول حزب العدالة فرض ما يريده على الآخرين.
ب- عمليًا: من الممكن تجاوز هذه المعضلة والالتفاف على هذه المتطلبات من خلال فرض سياسة الأمر الواقع إذا كان رئيسا الجمهورية والحكومة متفقين على نفس التوجه، أو إذا كان رئيس الحكومة في حالتنا طيعًا لا يعارض توجه رئيس الجمهورية. في هذه الحالة، يمكن للنصوص الدستورية أن تبقى على ما هي عليه، لكن عمليًا يكون رئيس الجمهورية هو القائد الفعلي ويملي ما يريده على الحكومة ورئيسها من جهة، ويستطيع أيضًا (وهذه حالة خاصة بأردوغان) بما أنه من مؤسسي حزب العدالة والتنمية وسبب من أسباب نجاحه وبما له من فضل على كثير من أعضائه أن يستخدم نفوذه المعنوي عليه.
لكن هذه المعادلة غير مستقرة ودقيقة ولا يمكن أن تصمد لفترات طويلة، وهي تقوض، وفق كثيرين، من عملية الفصل بين السلطات وتعمل على تآكل دولة المؤسسات والقانون.
مصير رئاسة الحكومة ورئاسة حزب العدالة والتنمية
لدى أردوغان مهلة تمتد حتى تاريخ 28 أغسطس/آب من هذا الشهر ليقدم استقالته من رئاسة الحكومة حيث من المفترض أن يؤدي اليمين في ذلك اليوم الذي تنتهي فيه ولاية عبد الله غول قانونيًا ليستلم منصب رئاسة الجمهورية مكانه. ويفرض القانون التركي على رئيس الجمهورية أن لا يكون حزبيًا أيضًا؛ ما يعني أن على أردوغان أن يستقيل كذلك من رئاسة وعضوية حزب العدالة والتنمية. هذه التغييرات تطرح تساؤلات عديدة حول الأسماء التي من الممكن أن تلعب دورًا مهمًا في المرحلة المقبلة في منصبي رئاسة الحكومة ورئاسة حزب العدالة والتنمية وشكل العلاقة بينهما وبين رئيس الجمهورية القادم أردوغان.
أ- بالنسبة إلى رئاسة الحكومة
- جرت العادة أن يكون رئيس الحزب هو رئيس الحكومة، وقد يُصار إلى اعتماد نفس الصيغة فيتم تسمية زعيم للحزب خلفًا لأردوغان في المؤتمر الطارئ الذي سينعقد في 27 أغسطس/آب، ويتم تكليفه فيما بعد من قبل رئيس الجمهورية بتشكيل حكومة.
- أو بسبب الظروف الخاصة التي تمر بها البلاد والمرحلة الانتقالية، قد يصار إلى تسمية زعيم للحزب خلفًا لأردوغان ويقوم رئيس الجمهورية (أردوغان) بعدها بتكليف شخص آخر بتشكيل الحكومة.
في جميع الأحوال، من المنتظر أن يشغل رئيس الحكومة القادم هذا منصبه بشكل مؤقت وستكون مهمته الأساسية الحيلولة دون تخبط النظام السياسي خلال المرحلة الانتقالية هذه حتى الانتخابات البرلمانية القادمة عام 2015 عبر التنسيق مع رئيس الجمهورية، وهو ما يفترض أن يكون شخصًا مقربًا جدًا من أردوغان ويحظى بثقته المطلقة ويتوافق معه بشكل كامل بحيث لا يسائله فيما يطلبه أو يشكّك فيما يقوله أو يتحدى ما يُقدم عليه، وبهذا يضمن أردوغان عدم التعارض بين سلطاته وبين سلطات رئيس الحكومة ويتم العمل بتناغم.
هناك الكثير من الأسماء التي تنطبق عليها هذه المواصفات ويتم تداولها مؤخرًا كاسم وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، ووزير المواصلات السابق بن علي يلدرم، ونائب رئيس حزب العدالة والتنمية محمد علي شاهين، ونائب رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية علي بابا جان. يُطرح بين الفينة والأخرى أسماء مثل: نعمان كرتولموش وهو محافظ التوجه، وبولنت أرينج وهو غير طيع مقارنة بالآخرين.
ب- بالنسبة لمصير رئاسة حزب العدالة والتنمية
ينص القانون على ضرورة أن ينفصل رئيس الجمهورية تمامًا عن حزبه؛ ولذلك يخشى أردوغان أن يفقد السلطة والقدرة على التأثير على الحزب الذي شارك في تأسيسه ونجاحه وارتبطت شعبيته بشعبية شخصه، خاصة أنه سيكون بحاجة إلى الحزب في المرحلة المقبلة كي لا يبقى وحيدًا في سدة الرئاسة. ولهذا السبب يعمل أردوغان على ترتيب الأوراق داخل حزب العدالة والتنمية بما يخدم توجهه هذا؛ حيث سيتم الإعلان عن رئيس جديد للحزب في المؤتمر العام في 27 أغسطس/آب، لكن تصريح عبد الله غول الذي أعلن فيه أنه سيعود إلى الحزب الذي ساهم في تأسيسه يطرح تساؤلات حول الطريقة والتوقيت والمنصب الذي سيعود به إلى الحزب؛ فهو على الأرجح سيرغب في العودة رئيسًا للحزب لأن عودته ستساعد على تماسك الحزب وإعطائه دفعًا جديدًا والاستعداد بشكل أفضل للانتخابات البرلمانية المقبلة والتي قد تنقل غول إلى رئاسة الحكومة أيضًا.
وقد تخلق هذه العودة بعض التحديات لأردوغان إذا لم يكن هناك اتفاق مسبق بين الرجلين على حدود ودور كل منهما في المرحلة المقبلة؛ إذ من المستبعد أن يقبل غول بتدخل أردوغان في الحزب إذا عاد رئيسًا له أو أن يكون رئيس حكومة شكليًا إذا وصل إلى هذا المنصب بعد الانتخابات البرلمانية القادمة.
نُشر هذا المقال لأول مرة في مركز الجزيرة للدراسات