بقلم: جون لي أندرسون
ترجمة: عزام التميمي
حينما انقلب الجيش التشيلي في الحادي عشر من سبتمبر ١٩٧٣ بعلم، وربما بمساعدة السي آي إيه، على الرئيس المنتخب ديمقراطياً سلفادور أليندي، فضل الرجل الانتحار على الاستسلام للانقلابيين، وذلك إثر قيام سلاح الجو التشيلي بقصف قصر الرئاسة آخر معاقل الرئيس المنتخب. وحينما تبدد الدخان وانجلى المشهد، خرج زعيم البلاد الجديد، القائد العام للجيش الجنرال أوغستو بينوشيه على الملأ ليقول بأنه إنما اتخذ خطوة الإطاحة بألندي نيابة عن الأمة لإنقاذ الوطن من الإرهابيين الماركسيين. وقال بينوشيه: “إنما جاء تحرك القوات المسلحة التشيلية اليوم انطلاقاً من حس وطني لإنقاذ البلاد من الفوضى العارمة التي كانت الحكومة الماركسية لسلفادور أليندي ستقحمها فيها.” خلال الأيام والأسابيع والأشهر التي تلت الانقلاب تعرض آلاف الأشخاص للمطاردة والاعتقال والتعذيب والقتل. والذين أعدموا أخفيت جثثهم، في كثير من الحالات، من قبل جلادين سريين باسم الحرية وباسم حماية على الوطن.
وبعد ثلاثة أعوام، وفي محاكاة لما فعله بينوشيه في تشيلي، انقلب العسكر في الأرجنتين على رئيسة البلاد المنتخبة إيزابيل بيرون وشكل مجلساً عسكرياً للإشراف على ما أسماه “عملية إعادة التنظيم الوطني” مؤكداً على أنه ضروري لحماية البلاد من الفوضى الاجتماعية الآخذة في الانتشار ومن “التخريب” الذي يتزعمه الماركسيون. إلا أن هذه العملية التي اشتهرت باسم “إل بروسيسو” تحولت إلى ما بات يعرف بـــ “الحرب القذرة” والتي استخدم فيها العسكر الأرجنتيني، كما فعل العسكر التشيلي من قبله، كل ما لديه من سلطات وصلاحيات لممارسة الاعتقال والتعذيب والإعدام والتغييب ضد كل من حامت حوله الشكوك بالمعارضة الأيديولوجية لنظام العسكر. يقدر عدد الذين قتلوا في هذه الحرب القذرة ما بين ١٥ و ٣٠ ألفاً.
في تشيلي حكم بينوشيه البلاد لسبعة عشر عاماً، ورغم أن حكمه اشتهر حول العالم بأنه رمز للقمع والاستبداد إلا أن نسبة كبيرة من مواطنيه خضعوا له اعتقاداً منهم بأنه السد المنيع الذي يحجزهم عن السقوط في هاوية من الفوضى والهرج والمرج. وكذلك في الأرجنتين انساق عدد كبير من المواطنين مع كل ما كان يقوله أو يفعله العسكر لدرجة الإشاحة بوجوههم بينما كان العسكر يمارسون أبشع أنواع القتل، وذلك اعتقاداً منهم بأن مثل هذه الفظائع كانت، بشكل أو بآخر، ضرورية. في نفس تلك الحقبة، كانت ترتكب فظائع مشابهة تحت غطاء مكافحة الشيوعية في دول الجوار الأوروغواي، الباراغواي، بوليفيا، البرازيل وفي تشيلي أيضاً حيث كان حكام البلاد من العسكر يتعاونون فيما بينهم ضمن برنامج سري أطلق عليه اسم “عملية الكوندور” والتي انتهت بمقتل عشرات الآلاف من الناس. وطوال ذلك الوقت كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إما تغض الطرف عن عمليات القتل أو، كما حدث في بعض المشاهد التي يندى لها الجبين، تقدم المشورة والمساعدة لمن يمارسون القتل، وكل ذلك باسم الدفاع عن هدف أسمى، وهو “الحرية” الغربية في مواجهة الامبراطورية الشيوعية القمعية في الشرق بزعامة الاتحاد السوفياتي. وكثيراً ما كان الصحفيون الذين يتساءلون عما يجري أو يتجرأون على التنديد بالقتل وبانتهاكات حقوق الإنسان يتعرضون للقتل. أما المراقبون الأجانب فكانوا يتعرضون للحظر والإبعاد بتهمة التدخل فيما لا يعنيهم ولاستعدادهم تصديق “أكاذيب الإهابيين”.
لم يعد للاتحاد السوفياتي موجوداً، وانتهى عصر حكم العسكر في دول أمريكا اللاتينية، ومع ذلك ماتزال المنطقة تتعامل مع إرث معاناة تلك الحقبة. لقد وصل السياسيون اليساريون إلى السلطة في معظم بلدان “الكوندور”، وتجري محاكمة العسكر الذين اعتبروا أنفسهم ذات يوم منقذين وطنيين وها هي تصدر بحقهم أحكام بالسجن لمدد طويلة على ما ارتكبوه من فظائع. وبينما تترسخ سيادة القانون يفيق من غفوته كثير من الناس في تلك المجتمعات ممن أخضعهم رعب العسكر لدرجة أن بعضهم كان يبرر الفظائع المرتكبة.
يمكن أن يكون إسلاميو اليوم هم ماركسيو الأمس: تسفك دماؤهم باسم الحفاظ على القانون والنظام. في مصر، يدير المشهد اليوم عسكر مستكبرون لم يعرفوا سوى الهزائم في قتال الأجانب وإن كانوا باستمرار أداة للقمع المحلي. لقد تسلطوا بعد عامين من إظهارهم التجاوب مع مطلب الثورة الشعبية بإزاحة دكتاتور البلاد (أو قل دكتاتور العسكر) حسني مبارك. والآن، وبعد سبعة أسابيع فقط من إطاحة العسكر بزعيم الإخوان المسلمين محمد مرسي الذي كان قد انتخب ديمقراطياً قبل ما يزيد قليلاً عن عام واحد، ها هم محامو مبارك يعلنون بأنه تمت تبرئته من تهم الفساد وبأنه قد يطلق سراحه خلال هذا الأسبوع.
في تلك الأثناء يبرر الجنرالات القمع الدموي الآخذ بالاتساع ضد منتسبي الحزب الحاكم سابقاً، أي الإخوان المسلمين، من خلال اتهامهم جميعاً بأنهم إرهابيون. فبعد عمليات القتل المقززة التي شهدها الأربعاء الماضي والتي راح ضحيتها أكثر من ستمائة مصري، بما في ذلك مدنيون من أنصار الرئيس المطاح به مرسي، قال الناطق باسم الجيش أحمد علي: “حينما تتعامل مع الإرهاب، فلا مكان للحقوق المدنية والإنسانية.” وأعلنت وزارة الداخلية بأن الجيش والشرطة سيسمح لهم باستخدام “الذخيرة الحية” للتعامل مع الناس الذين يتوقع تجمهرهم في شوارع القاهرة في يوم غضب الجمعة. وقالت الحكومة في تصريح آخر منفصل بأن المحتجين مارسوا أعمالاً من “الإرهاب والتخريب”. قتل في ذلك اليوم ما لا يقل عن مائة شخص كثيرون منهم قضوا نحبهم في مسجد الفتح الذي التجأ إليه أعضاء من الإخوان المسلمين والذي أطلق البعض منه النار رداً على قوات الأمن (ملاحظة المترجم: هذا ما ادعاه الأمن المصري ونفاه المحاصرون في مسجد الفتح في حينه). ومات المزيد من الناس يوم السبت. وحتى الآن، فقد ثلاثة من زعماء الحزب الذي كان حتى شهر مضى في السلطة أفراداً من عائلاتهم. أعلن العسكر يوم الثلاثاء بأنهم ألقوا القبض على محمد بديع مرشد للإخوان المسلمين واستعرضوه أمام كاميرات التلفزيون كما لو كان من غنائم الحرب أو ربما كما لو كان عضواً في منظمة إرهابية مثل القاعدة. وبالفعل، هذا ما أرادوه، فقد خرجت بعض وسائل الإعلام المصرية تحتفل بابتهاج باعتقال بديع.
ربما لم يكن مرسي هو ألندي، إلا أن الشيطنة التي يتعرض لها هو وحزبه عملية غاية في الخطورة وتستحق الملاحظة. وأكثر ما في الأمر من غرابة يتعلق بالسرعة التي تجري بها هذه العملية. قارن ذلك بما جرى في إسبانيا بعد الحرب الأهلية الدموية في ثلاثينيات القرن الماضي. فقد مرت عدة سنوات قبل أن يتمكن نظام فرانشيسكو فرانكو المرعب من إقناع عوام الناس بأن من بقي على قيد الحياة من رموز الجمهورية السابقة كانوا “قطاع طرق”. وبحلول الخمسينيات شاع ذلك المصطلح حتى أصبح الكل يستخدمه.
يذكرنا الرعب الذي يمارسه العسكر في مصر واللغة التي يستخدمها لتبرير ذلك بأسوأ ما في الإرث الإنساني من فظائع. فمثل هذه التصريحات لا تصدر عن جيوش اعتيادية وإنما عن جيوش تعتنق عقائد أيديولوجية تسهل عليهم إطلاق النار على الناس في الشوارع، وخاصة المدنيين منهم، إذا اعتقدوا أنهم مع الإرهابيين أو غير ذلك مما يقررون إلصاقه بهم من تهم. مصريون كثيرون سينساقون مع عنف العسكر ويدعمونهم بعصابات شبه عسكرية يشكلونها بأنفسهم. وقد يرد بعض أعضاء الإخوان المسلمين على ذلك بالتخلي عن فكرة أن لهم مكاناً في العملية السياسية الانتخابية وباللجوء إلى العنف. حدثان ينذران بشر مستطير: مقتل ستة وثلاثين من المحتجين المعتقلين في عربة للشرطة يوم الأحد، وإعدام خمسة وعشرين من مجندي الشرطة في شبه جزيرة سيناء يوم الإثنين. (لشهور مضت، شهدت البلاد حالة من التسيب الأمني بسبب تنامي قوة وتزايد هجمات إسلاميين مسلحين، ليسوا بالضرورة مرتبطين بالإخوان المسلمين. يشير المدافعون عن العسكر إلى تنامي حالة التسيب الأمني في سيناء، بمحاذات إسرائيل، معتبرين هذه الظاهرة سبباً وجيهاً لعدم قطع الدعم عنهم. لكن مما تجدر ملاحظته أن معظم التسيب الأمني حصل بمعرفة وتحت نظر ورقابة نفس العسكر، لأنه بدأ بعزل مبارك وليس قبل ذلك).
من خصائص العنف في مصر مساهمة العسكر في إطلاقه، وليس صعباً رؤية كيف سيؤدي هرج اليوم ليس إلى “حرب قذرة” فقط وإنما إلى حرب أهلية مكتملة الأركان. إذكاء نار الجهاد ليس أمراً مجرداً أو محيراً، فهناك عنصر جهادي في مصر وعبر الشرق الأوسط، ناهيك عن بعض ما قد تفرزه جماعة الإخوان المسلمين نتيجة لما تعرضت له، الأمر الذي سوف يؤدي إلى إشعال المنطقة بأسرها إذا ما توفرت الظروف لذلك. وقد هيأ لهذه الظروف عسكر مصر خلال الأسبوع الماضي.
حتى الآن، اقتصرت السياسة الأمريكية تجاه مصر على ما يشبه دور الغر في مباريات رعاة البقر، أي محاولة امتطاء الثور وعدم الوقوع عن ظهره. إلا أن هذا الأمر ليس جديداً على الولايات المتحدة. ففي أمريكا اللاتينية، حيث وجد عدة أجيال من الدكتاتوريين الفاسدين أنفسهم ينعمون بالرعاية في حضن واشنطن الدافئ، لايزال الثأر مستمراً. ففي السنوات الأخيرة، وبفضل ما قدمه آل كاسترو من إرشاد وتوجيه وما قدمه الراحل هيوغو شافيز من دعم سخي، تجذرت فيما لا يقل عن نصف دزينة من بلدان النصف الجنوبي من القارة الأمريكية أنظمة معادية للولايات المتحدة الأمريكية. بمعنى آخر، مكننا الإذعان الأمريكي لدكتاتوريي أمريكا اللاتينية من تجاوز الحرب الباردة، ولكنه كان بتكلفة عالية ماتزال تداعياتها مستمرة. وليس مستغرباً إذ ذاك أن يطلب إدوارد سنودن اللجوء السياسي من فنزويلا ونيكاراغوا.
حتى حين، كان بإمكاننا أن نغفر لإدارة أوباما عجزها عن اتخاذ قرار ومقاربتها الفاترة بانتظار رد فعل منطقي تجاه الوضع في مصر ما بعد مبارك. ولكن لا يكفي إلغاء مناورات “النجم اللامع” العسكرية الأمريكية المصرية المشتركة والتي كان من المقرر أن تجري في شهر سبتمبر بينما لا تمس المعونة العسكرية السنوية البالغة ١،٣ مليار دولار التي تدفعها الولايات المتحدة الأمريكية إلى النظام في مصر (والتي مازال نصفها على الأقل مستحقاً هذا العام)، بينما يتم سحب ما يقرب من ربع مليار دولار من الدعم الاقتصادي. إذا كان العنف الذي يمارسه الجيش المصري ضد مواطنيه غير مقبول، فليس أمام الرئيس أوباما خيار سوى اتخاذ الإجراء الأخلاقي الوحيد المتاح أمامه: قطع الدعم العسكري لمصر بشكل تام. لن “ينقذ” ذلك مصر، ولكن جيشها أيضاً لن ينقذها. إذا بقي للولايات المتحدة نفوذ، فلعله من الأفضل استخدامه في الضغط على ممولي الجنرال السيسي: السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة. أم أننا دخلنا، أو عدنا، فعلاً إلى عهد السياسة الواقعية لكسنغر، ونرغب، دون مواربة، في أن يستمر العسكر هناك في التنكيل بالناس بقسوة وإلى الأبد؟ إذا فقدنا الوازع الأخلاقي، يكفينا أن نشاهد ما يجري في سوريا. تلك هي السياسة الواقعية. ولكن، على الولايات المتحدة الأمريكية أن تعبر عن موقفها بوضوح وتبين للناس ما الذي تفعله ولماذا. لا يمكننا الاستمرار في دفع ثمن الرصاص ثم نتأوه على الضحايا التي يقتلها.
المصدر: النيويوركر