تُعرف “الدولة الفاشلة” في العلوم السياسية بأنها الدولة الضعيفة أو غير الفعالة في السيطرة على شعبها أو أراضيها المختلفة، ولا تملك إلا القليل من السيطرة على جزء كبير من أراضيها.
ولهذا تصبح الدولة فاشلة إذا ظهر عليها عددٌ من الأعراض، أولها أن تفقد السلطة القائمة قدرتها على السيطرة الفعلية على أراضيها أو أن تفقد احتكارها لحقّ استخدام القوة المشروعة على الأراضي التي تحكمها، وفقدانها لشرعية اتخاذ القرارات العامة وتنفيذها، وعجزها عن توفير الحدّ المعقول من الخدمات العامة.
وبحسب مؤشر الدول الفاشلة للعام 2013 الذي نشرته مجلة السياسة الخارجية الأمريكية وضمّ 178 دولة، تمّ تصنيف دولة جنوب السودان التي استقلت في 9 يوليو 2011، في المرتبة الرابعة على المؤشر، ومع أن شمال السودان احتل المرتبة الثالثة، ما يعني أنّه أكثر فشلًا من الجنوب، إلّا أن الأدلة التي وضع على أساسها الجنوب كدولة فاشلة كانت أكثر وضوحًا فيما يخصّ تعريف الدولة الفاشلة، بينما صُنّف السودان وفقًا لأدلة أخرى تتعلق باستمرار الصراعات في بعض مناطقه التي بها حركات تمرد مثل دارفور.
فقبل استفتاء 11 يناير 2011 الذى جرى فى جنوب السودان على الانفصال عن الشمال، وتُوج بالانفصال الرسمي في 9 يوليو نفس العام، كان يحلو للقادة الجنوبيين فى جنوب السودان أن يصوّروا انفصال الجنوب عن شمال السودان على أنه سيكون أشبه بولادة دولة غنية بالنفط سرعان ما تتحول إلى مدينة للاستثمارات مثل دبى، بهدف تشجيع الجنوبيين على اختيار حق الانفصال فى هذا الاستفتاء، دون أن يظهروا لهم الصورة الحقيقيّة للجنوب فى حالة انفصاله.
الآن ومع دخول الدولة الانفصالية عامها الرابع (فى 9 يوليو 2014) ثبت للجنوبيين وكلّ دول العالم أنهم أمام نموذج جديد لما يسمّى (الدولة الفاشلة) بكل المقاييس، ليس فقط بموجب تصاعد عمليات القتل الداخلية والفشل الاقتصادي واستمرار معدلات الفقر والفساد كما هي، وإنما لأن الدخل السنوي الهائل من النفط بات يذهب لجيوب قادة الحركة الشعبية الجنوبية وخزائن الغرب ولا يرى منه الشعب الفقير إلا القليل.
كما ثبت للجميع أنّ دولة الجنوب لا تزال كما هي قبائل متصارعة لا انصهار بينها، وقوى سياسية وفصائل عسكرية متصارعة يسعى كلٌّ منها للسيطرة على جزء من البلد الآن أو حقول النفط، وتحولت الدولة إلى نموذج الدولة الفاشلة الفعلية، بدليل الصراعات المتتالية بين الفرقاء السياسيين والعسكريين هناك، سواء بين رياك مشار وزير الخارجية السابق الذي يقود حملة مسلحة لخلع الرئيس سلفاكير من السلطة، أو عبر عمليات تمرّد لقادة من جيش الجنوب أنفسهم.
خبراء سودانيون -مثل الدكتور حسن مكي الأستاذ بجامعة أفريقيا العالمية- قالوا قبل الانفصال إن «المزاج الانفصالي إنما هو مزاج وسط النخبة الجنوبية (قادة الحركة الشعبية) فقط التى تريد أن تحقق مكاسب؛ لأنهم لو سلموا بالوحدة مع السودان فإنهم لن ينالوا أي مكاسب مادية أو مناصب، وأن غالبية الشارع الجنوبى والقبائل والسلاطين فى الجنوب مع الوحدة».
وهو ما تأكّد بالفعل من الصراع الحالي بين قادة الحركة على المكاسب التي حصلوا عليها من الخرطوم، بينما عاد الجنوبيون للهجرة واللجوء إلى منظمات الإغاثة الغربية.
فالجنوب تحوّل إلى ساحة حرب أهلية داخلية وقتال بين القبائل المتناحرة بعدما انتهى صراعه مع الخرطوم، وهذه الصراعات الداخلية توشك أن تنعكس على حروب إقليمية عديدة مع دول الجوار بسبب الامتدادات القبلية خصوصًا أوغندا وكينيا، ولهذا تدخلت أوغندا بقواتها، وتدخلت أمريكا ودول أفريقية أخرى، فضلًا عن أن اقتصاد الجنوب باتَ يعاني الكثير فى ظل عدم وجود أي مشاريع وانتشار ظاهرة الفساد ونهب أموال النفط.
والحقيقة أنّه برغم اتهامات الجنوبيين المتكررة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم فى الشمال بالمسؤولية عن تأجيج هذه الحرب الأهلية فى الجنوب ومدّ عناصر جنوبية موالية للخرطوم بالسلاح، وآخرها تصريح وزير دفاع جنوب أفريقيا السبت 16 أغسطس 2014 بأنّ الخرطوم تدعم تمرد ريال مشار بسلاح كثيف، بهدف خلق أجواء من الفوضى تدفع الجنوبيين لنبذ الحركة الشعبية الجنوبية المهيمنة هناك، فلا يمكن إنكار أن هناك سلبيات عديدة فى الجنوب تتحمل وزرها الحركة الشعبية أيضًا.
1- من ذلك قضايا الفساد التى لُوحق بسببها العديد من أعضاء حكومة جنوب السودان دون أن تُجرى تحقيقات أو ينشر أي شيء عن إجراءات مضادة لما قيل عن هذا الفساد وقصر الأمر على رفض الحركة الشعبية لهذه الاتهامات.
2- ومن ذلك اتهامات قبلية جنوبية لحكومة الحركة الشعبية بمحاباة قبيلة (الدينكا) على حساب قبائل أخرى خصوصًا (النوير) أو (الشلك) التى ينتمي لها لام أكول وزير خارجية السودان السابق الذى استقال من الحركة الشعبية وشكّل حزبًا جنوبيًّا، ولكنه منعَ من ممارسة نشاطه فى الجنوب والآن متهم بالانقلاب على سلفاكير ويحتل مدينة الوحدة منطقة حقول النفط.
3- أسباب العنف فى الجنوب قديمة وتتعلق بالفقر أساسًا، فالعنف يجرى بين القبائل على خلفية سرقات الماشية بين القبائل وبعضها البعض؛ أي إنها أسباب محلية، وهو ما حدث بالفعل مؤخرًا فى ولايات: جونقلى وأعالي النيل، والبحيرات والاستوائية لأسباب محلية خاصة بالماشية والأبقار والمياه والزراعة، ولكن تدخّل أفراد من الجيش الشعبي لنصرة قبيلة على أخرى هو ما يزيد من إلقاء البنزين على النار المشتعلة.
هياكل الدولة لا توجد
هناك عيب خطيرٌ آخر لا يلتفت له قادة الحركة الشعبية الجنوبية هو ضعف أو تلاشي هياكل الدولة فى الجنوب تقريبًا، بخلاف عدم توافُر مقومات الدولة أو البنية الأساسية بما سيجعل هذه الدولة الجنوبية نموذجًا للدولة (الفاشلة) فى العالم، ولا تعذر حكومة الجنوب في هذا كما يسعي وزراؤها للتبرير بدعوي أن دولتهم جديدة .
وقد أصدر نائب رئيس دولة جنوب السودان المستقلة حديثًا رياك مشار، تحذيرًا مبطّنًا للرئيس سلفاكير ميارديت، المدعوم من الغرب، بأن يتنحى عن منصبه، وتعهد بأنه سيسعى ليحل محله قبل أو بعد الانتخابات المقررة بحلول عام 2015، وهذا التهديد من شأنه أن يزعزع الوضع أكثر في بلد غير مستقر، ليس له منفذ بحري، ومفلس تمامًا، ويعاني حروبًا حدودية وحركات تمرد داخلية لا يستطيع تحمل كلفتها.
إسرائيل جديدة خطر على العرب
والمخاوف الحقيقية لدى الخرطوم ودول عربية ودول الجوار من أن ينتهي الأمر بالدولة المستقلة فى الجنوب لأن تصبح نموذجًا لما يسمّى «الدولة الفاشلة» ما يجعلها غير قادرة على إدارة شؤونها، أو العاجزة ويجعلها عبئًا ليس فقط على نفسها، وإنما على الدول المجاورة ويؤثر في الاستقرار فى منطقة الجنوب الأفريقى ككل، ليس فقط هو مجمل المخاوف.
إذ يتخوف سودانيون وعرب أن تتحول هذه الدولة الجنوبية إلى «إسرائيل جديدة» تظلّ تعتمد على الغرب فى دعم اقتصادها ومدّها بالموارد المختلفة وتثقل كاهلها المثقل أصلًا منذ الأزمة المالية العالمية، فضلًا عن إثارتها لأزمات فى الوسط الأفريقي المحيط بها نتيجة حروبها الأهلية الداخلية وموجات الهجرة أو انتقال شرارة العنف خارج الإقليم الجنوبي.
بل لقد انتقدت مجموعة من الناشطين الأميركيين، ساعدت على انفصال جنوب السودان، ما أسموه “الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، واستشراء الفساد الذي تمارسه الحكومة، والذي قد يؤدي إلى انهيار الاستقرار في البلاد”.
وقالت مجموعة «الخبراء» أو «القابلات» كما يطلق عليها، التي تتمتع بنفوذ لدى صناع السياسة الأميركيين، بحسب تقرير لجريدة الجارديان البريطانية، أنها سعت ولفترة طويلة لحماية جنوب السودان من انتقادات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، لكنها فاجأتِ العالمَ قبل أيام قليلة برسالة مفتوحة موجّهة إلى الرئيس سلفاكير، تقول فيها: “إنها لم تعد تستطيع السكوت عن العنف الذي تمارسه قوات الأمن ضد المدنيين، والصحافيين الذين ينتقدون الحكومة”.
وقالوا: “هذا العنف يشمل الاغتصاب والقتل والسرقة وتدمير الممتلكات”، وإنه “في حين أن الأشخاص العاديين في جنوب السودان لا يمكنهم الوصول إلى المستشفيات أو المدارس، فإن سارقي الأموال العامة يرسلون أطفالهم إلى المدارس الخاصة في الخارج، ويحصلون على أفضل الخدمات الطبية في العالم”، وخاطبت الرسالة سلفاكير بالقول: إنه “في فترة قصيرة جدًّا من الزمن، أصبح اسم بلدك مرادفًا للفساد”.
فهناك عدم رضا عن حكومة سلفاكير ينتشر على نطاق واسع، وذلك بسبب فشلها في توفير فرص العمل، والرعاية الصحية الكافية، والمدارس والمساكن والطرق، والاستثمار في البنية التحتية والقطاعات الرئيسة مثل الزراعة.
وبعد أعوام من الاستقلال لا يزال 50٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وترتفع معدلات الأمية، برغم أن الإمكانات الزراعية في جنوب السودان هائلة، والأسماك والثروة الحيوانية والغابات، ومع هذا يستورد جنوب السودان كل المواد الغذائية تقريبًا!
وتقول الأمم المتحدة إن 2.3 مليون شخص في جنوب السودان سيحتاجون لمساعدات غذائية هذا العام، وسيتمّ توفير خدمات التغذية إلى 3.2 ملايين نسمة، أي إن 4.6 ملايين شخص من جملة عدد السكان البالغ قدرهم 12 مليون نسمة يعانون انعدام الأمن الغذائي.
ورغم أموال النفط الغزيرة، بلغ الإنفاق الحكومي على الزراعة في الفترة بين 2012-2013 5.2٪ فقط من الميزانية الوطنية، مقارنة بإنفاق ما يقدر بـ 25٪ على الخدمات العسكرية والأمنية، فيما تنفق الحكومة نحو نصف الميزانية على نفسها، معظمها على الرواتب، وعلى سيارات باهظة الثمن للوزراء.
فساد النخبة
ويقول تقرير لصحيفة “الجارديان” إن الفساد بين النخبة الحاكمة في الجنوب هو الآخر قضية من القضايا المؤرقة للبلاد، فقد اعترف سلفاكير بأن مليارات من الجنيهات السودانية تعرضت للاختلاس، وأنه دعا عام 2013 قرابة 75 مسؤولًا، لم يسمهم، إلى أن يعيدوا ما اختلسوه، ولم تكن هناك اعتقالات في هذا الخصوص، على الرغم من تعلىق هذا الشهر أنشطة وزيرين كبيرين على خلفية عملية احتيال مزعومة منفصلة، فيما تعاني (هيئة مكافحة الفساد) قلة الموارد المحلية، لدرجة أنها غير قادرة على دفع إيجار مكاتبها.
هل تعود الوحدة بين الشمال الجنوب؟
وإزاء هذا الوضع كان من الطبيعي أن يطالب كثيرون في الغرب بعودة الوحدة مع الشمال بعدما وجدوا أنّ حلم الانفصال مع رغد الحياة وهميّ والعكس هو الصحيح، وتحدث عن هذا الرئيس السوداني عمر حسن البشير، بكشفه خلال مؤتمر حزبي في الخرطوم، أنّ “حكومته تلقت اعتذارات من قوى دولية، لم يسمّها، عملت من أجل فصل الجنوب بغية تدمير الشمال، وأن تلك الجهات الدولية تطالب الآن بإعادة النظر في انفصال الجنوب، والعمل على إعادة الوحدة بين السودان ودولة جنوب السودان”.
ولم يستبعد رئيس “هيئة تحالف أحزاب المعارضة السودانية”، فاروق أبو عيسى، ذلك عندما قال إن حكومة جنوب السودان أبلغت هيئة المعارضة أنها مستعدة للعودة إلى خيار الوحدة مع الشمال، إذا ما توفر شرط نظام ديمقراطي برحيل نظام حكم الرئيس البشير.
بدورهم، لا يستبعد سياسيون جنوبيون أن تقود تداعيات الحرب في جنوب السودان إلى طرح الوحدة مجددًا مع الشمال، بنظام كونفدرالي، ومنهم القيادي في “الحركة الشعبية” جورج أموم، وباعتقاد قادة سياسيين جنوبيين معارضين للرئيس الجنوبي ونائبه السابق، سيؤدي استبعاد الرجلين (سلفاكير ومشار) لخلق فرصة واقعية للعودة إلى خيار الوحدة بين الشمال والجنوب.
لا سيّما في ضوء المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستفحلة، وخطر المجاعة، جراء الصراع القبلي الدموي، وسيطرة المتمردين على المناطق الغنية بالنفط في الجنوب.
وما يزيد من الحنين للعودة لهذه الوحدة أن مصالح السودانيين في الشمال والجنوب تضررت بفعل الانفصال عام 2011، بفقدان الحكومة السودانية في الخرطوم لما يقدر بـ 70% من الموارد النفطية التي ينتجها الجنوب، وزيادة حالة عدم الأمن والاستقرار، والخشية المتزايدة من أن تتحول دولة الجنوب إلى دولة فاشلة لفترة طويلة قادمة، تعصف بها الصراعات القبلية بين أكثر من ستين قبيلة أكبرها قبيلتا “الدينكا” و”النوير”، إلى ما لا نهاية.
بالإضافة إلى العديد من العوامل الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، التي لم تكن في صالح خيار الانفصال، وعدم قدرة دولة الجنوب على الاستغناء عن علاقات متميزة مع السودان بفعل موقعها الجغرافي، والعلاقات التاريخية بين أبناء الجنوب والشمال.
بالمقابل، يرى الرافضون للعودة إلى خيار الوحدة، أنّه ربما فاتَ أوان جمع “اللبن المسكوب” بعد الانفصال، ويتحدثون عن مشاكل بفعل التهميش للجنوبيين في فترة الوحدة مع الشمال، وأن الخرطوم ستعود للاستفادة بالنفط الجنوبي بنسبة كبيرة غير الجنوب، فضلًا عن الحديث عن أن نظام البشير لا يسعى بالفعل إلى خلق حوافز لاستعادة الوحدة مع الجنوب، مثل الإصلاحات الدستورية الجذرية، ويخشي المتطرفون منهم أن تصرّ الخرطوم على تطبيق الشريعة الإسلامية التي يرفضونها.
المصدر: التقرير