من كان يرى سعة انتشار المتحدثين بالشأن العام، الحاملين لواء التنظير خلال ثلاثة أعوام مضت ويمر على ملتقيات الشباب العديدة ليسمع كلاما في الديموقراطية والثورية والعلمانية والنيوليبرالية والمشكلة الإسلامية ونقدها ونقد الحراك الحادث والنصائح التي يفوق عددها عدد المصريين أنفسهم لا يمكن أن يتخيل النتيجة التي انتهت إليها الأحداث في الثلاثين من يونيو ثم في الرابع عشر من أغسطس، ثم بعد عام كامل وفي ذكرى أثقل أيام الحياة علي هذا الجيل تمر فتسمع وترى مثل الذي كنت تسمع وترى.
ما الذي ينقص هذا الجيل إذا، الذي قرأ في كل شيئ ”إذ تكفي نقرة واحدة لتفتح له ما يريد من معارف“ وكتب في كل شيئ ونظّر لكل شيئ، فلم تغنه القراءة ولا الكتابة ولا التنظير عن شيئ مما حيك له.
توقف نجيب محفوظ عن الكتابة لخمس سنوات تلت ثورة يوليو ٥٢، أعاد سبب توقفه لكونه يرى أن كتابته إنما أراد بها تغيير المجتمع المصري وحثه على التقدم، أمَا وقد بدأت حركة التغيير فلم يعد لديه ما يقدمه للناس .. خمس سنوات كانت كافية ليتشكل عالم جديد في نفس محفوظ وليعيده للكتابة، لكن العودة هذه المرة ليست من طريق المشكلات الاجتماعية التي ترهق كاهل المجتمع المصري وتعيقه كما كان يرى من قبل، بل من وجهة كونية إنسانية شالمة، من أبعد النقاط التي تتعلق بها الخطوط والخيوط، نقطة صوفية ودينية في ”أولاد حارتنا“.
لعل في هذا الموقف ما يجيب عن السؤال .. أي شيء نحتاجه حين نتبين أن كتاباتنا وتنظيرنا السابق لم يكونا كافيين لنلوذ بهما، أو لم يمنحانا القوة لنكتب نحن الحياة التي نريدها. هناك دائما نقطة أبعد من تلك التي تستوعبنا تفاصيلها، تخطيناها دون أن نجيب عن أسئلتها كاملة، وانشغلنا بكثير مما قد يكون مهما لكنه سابق لوقته، لا سبق الزمن المجرد بل سبق الفعل، فما بني على ”واهٍ“ سرعان ما ينهار.
بدأ موسم الربيع العربي فجأة دون تمهيد حركي أو معرفي لأي من فئات المجتمع الفاعلة، السياسية والفكرية. لم يخرج من مكتبة أو محضن ثقافة أو مسجد ممتلئ بالأفكار والتفاعل، بل خرج عفو الخاطر من أحد أكثر أدوات الحياة المعاصرة اختصارا للمعارف بل والمشاعر أيضا “فيس بوك” .. ومثل هذه البداية تنبئ بالخطر، خطر تحول هذا السطر مهما كان عدد المعجبين به إلى مجرد حالة قديمة في “التايم لاين” لا علاقة لها بأي شيء حولها. وقد كان.
كان حجم العمل الثقافي خارج الأطر التنظيمية السياسية أو الأطر الثقافية الرسمية قد بدأ يزداد خلال السنوات العشر الأخيرة زيادة تدعو للتفاؤل، سواء ما هو ذاتي التمويل صغير الأثر بطيئ النمو، أو ما هو متعلق بمنح من مؤسسات داعمة عربية أو أجنبية، وهي بالطبع الأسرع نموا والأعلى صوتا والأقل مدعاة للتفاؤل. وكانت الأسباب المُدرَكة لكل هذا الحراك هو أن الثقافة لا تحدها سلطة، وأنها عودة بالمثقف والثقافة إلى رحاب المجتمع الواسع بعد أن قضت زمانا مملوكة بيد الدولة حتى اختنقت تماما.
كنا نمر على هذه المساحات الجديدة ونستشرف منها روحا ندية تبث في المجتمع المصري. خصوصا أنها جمعت قطاعا واسعا من الشباب حولها بسرعة، شباب لم تكن الحركات الإسلامية التقليدية قادرة على تفجير طاقاتهم وكذا الشكل الرسمي للثقافة.
ما حدث، أن كل هذا ظهر فارغا تماما حين وضع في الاختبار الحقيقي. لم تتحول المعارف المملوؤة بها هذه المساحات إلى حركة تشبهها، بل انتكست ترجماتها الحركية إلى كل الأشكال التقليدية التي كان تأسيسها بالأساس هربا منها. وإذا كانت الحركية الإسلامية أسيرة لأطروحات ثقافية/ دينية سطّحها ما عرف بجيل الصحوة ”وهو جيل نشأ في ظروف مخصوصة“ فإن الحركات الثقافية البديلة فوجئت حين وضعت في الاختبار أنها أسيرة أيضا للأطروحات المضادة ”القديمة“ !
ما يعني أن التفاعل الثقافي لجيل كامل من الشباب إزاء معارك تغيير “صادفته” ومثلت له فرصة لكتابة مستقبل مغاير، خاضها الجميع بلا استثناء بكل المفردات التاريخية التي يريدون الهرب منها.! اختزلت الحياة إلي محددات ماتت منذ زمن! كل ذلك تحت ضجيج المطالبة بالسماح للشباب بخوض التجربة، ولعن الشيوخ الممسكين بزمام الأمور. الحقيقة المحزنة أن الروح الشائخة كانت تسكن كثيرا من هؤلاء الشباب.
هل يمكننا أن نضع حياتنا الثقافية في الميزان إذا ونحن ندرس السنوات الثلاثة السابقة. لنقدم كشف حساب عنوانه لماذا فشلت هذه الحركة في أن يكون لها قوة حركية مستقلة، قادرة على التشكل بخصوصية لتصوغ هي حياة جديدة متحررة من مفردات صراع الماضي.
ما لم نجب هذا السؤال، وأسئلة أخرى كثيرة فسنظل أسرى أسئلة وإجابات يضعها غيرنا ،، لازلت أذكر ما كنت أقوله قبل أول استفتاء خضناه بعد التنحي ”ليس من نعم أو لا أخاف ،، بل من الطريقة التي نفكر بها فيهما“ .. كنت أرى يومها أن كليهما يمكن أن يؤدي للطريق نفسه ”خيرا“ إن كانت النوايا خيرة، و كليهما يقود للنهاية التي وصلناها إذا كانت النوايا مغايرة. وأن الجدل في التفاصيل دون بناء الأسس مهلك، وأن فرحة الشباب وانطلاقه لا ينبغي أن تضيع في البحث عن إجابات فرعية مثل هذه، بل في صياغة العناوين الكبرى والأسئلة الأهم .. من نحن وماذا نريد؟