هل نحن متطرفون؟!
حينما كنت صغيرًا وتحديدًا في سن السابعة كنت وعائلتي (المهجرة قسرًا من سوريا) نعيش في مدينة صنعاء عاصمة اليمن السعيد، كنت ووالدي يوميًا نقطع جبل الستين لنصل إلى معهد الحسن بن علي القابع في الحي المخيف الذي يدعى (مذبح).
كنت حينها أشعر بالفخر، فأنا أدرس في معهد شرعي علمي مميز، تدرس فيه مواد الشريعة مفصلة كما اللغة العربية والعلوم وليس كمدارس الحكومة التي لا تدرس سوى مادة واحدة للشريعة وأخرى فقيرة للغة العربية والحساب والعلوم.
دارت الأيام وبدأت صواريخ السكود الروسية تدك صنعاء المحصورة بين جبالها الشاهقة، هرعت إلى والدي لأسأل عن السبب فأخبرني أن حرب الانفصال بين اليمن الجنوبي والشمالي قد بدأت، في اليوم التالي ذهبنا إلى المعهد لأرى منظرًا مريعًا، كانت ساحة المعهد الواسعة تعج بطلاب الثانوية والأستاتذة وحتى وكيل المدرسة وهم يحملون البواريد الروسية وينظمون أنفسهم للذهاب إلى ساحة المعركة للتصدي لمحاولة الانفصال تحت اسم (الجهاد المقدس)، مدير المدرسة أذكر حينها أنه خطب خطبة عصماء جعلتني أصر على والدي وأنا أبكي بكاءً شديدًا ليسمح لي بالذهاب معهم للجهاد كي أموت شهيدًا وكان حينها عمري لم يتجاوز الثامنة.
مرت أيام الحرب طويلة قصيرة وكنت وإخوتي نلح بإصرار على مشاهدة الرصاص الخطاط ذي الألوان المتعددة ظنًا منا أنه ألعاب نارية.
لم يطل الوقت كثيرًا حتى أعلن عن انتصار المجاهدين في اليمن الشمالي ورفع العلم الشمالي على كامل تراب اليمن كدولة واحدة مستقلة.
ببراءة الطفولة حينها كنت أسأل من هم أعداؤنا الذين قتلوا المجاهدين وحاولوا اغتصاب أرضنا فكان المجتمع بكل أطيافه يجيب أنهم (الشيوعيون) أعداء الله والوطن، في الحقيقة لم أكن أعرف من هم الشيوعيون ولا ما يعتقدون لكنني صرت أدعو عليهم في كل صلاة وأسأل الله النصر للمجاهدين.
وبسبب شظف العيش وقسوته وازدياد عدد أفراد العائلة وبحثنا عن فرصة أفضل للعيش؛ ساقتنا الظروف وعائلتي للعيش في قطر ولسبب ما فقد انتقلت أيضًا إلى مدرسة (إسلامية) خاصة.
أذكر في تلك المدرسة أستاذ اللغة العربية ذو الطابع السلفي حينما مرت بنا قصيدة (كن جميلاً) للراحل إيليا أبو ماضي، كيف أمضى الحصة كاملة وهو يشرح لنا عن زندقة الرجل وكفره وأنه يعبد الطبيعة والحياة وأكد لنا وجوب دراسة القصيدة من باب أنها مفروضة في المنهج.
أما أستاذ الشرعية فكان جل ما يركز عليه ونحن طلاب الصف الخامس والسادس الابتدائي ضرورة التبرؤ من الشيعة الكفار وعن عدم جواز إطالة الغرة حتى لا تفصل بين جبهتنا والأرض أثناء السجود (مع أن معظمنا لم يكن يعرف كيف يصلي) وعن فظاعة ذنب إطالة البنطال إلى ما تحت الكعبين.
كان يتجاوز كثيرًا من الوقت في الدورس ليتكلم لنا عن وجوب إنكار المنكر ويبين لنا أنه لا بد من معاداة الكافرين وقتالهم بالجهاد أو حتى بالنية فقط حتى لا نكتب مع الآثمين.
بطبيعة الحال وفي المرحلة الإعدادية ولأني كنت أملك جرأة التحدث وقوة المنطق فقد أصبحت حادًا أكثر في فرض وجهة نظر الحق التي اقتنع بها على أنها المنهج الوحيد الصحيح وبدأت بالبحث والقراءة حول الصوفية لأدخل في حوارات انتقامية مبينًا لهم أننا على حق (أهل السنة والجماعة) حتى أذكر أنني وأنا في المنزل كنت أتابع فيديو لمدة ساعة عن ضلال الصوفية وشبه تكفيرهم فدخلت في صراع طويل مع والدي الذي كان معترضًا عليّ وقال لي حينها: “هذا الطريق سيودي بك إلى الهلاك، لقد كنا نحضر مجالس الصوفية وهم يحضرون مجالسنا والاختلاف ليس أصلاً”، فقلت له بصوت مرتفع غاضب: “إنك تماري بالحق”.
أود أن أذكركم أن عمري حينها لم يتجاوز الخامسة عشر.
في المرحلة الثانوية درسنا عن وجوب الجهاد بصورة مجردة وعن شكل الدولة الإسلامية وكيفية تطبيق الحدود فيها من قتل الزاني المحصن وجلد غير المحصن وجلد شارب الخمر وقطع يد السارق وقتل قاطع الطريق بحد الحرابة واستتابة المرتد لمدة ثلاثة أيام وإلا يقتل وما إلى ذلك من أحكام، كان سؤالي المتكرر حينها للأساتذة “هل تعتبر الدول التي نعيش فيها إسلامية؟” فكان الجواب المشترك من الجميع لا وسيأتي اليوم التي تسمح الظروف وتقوم فيه الدولة الإسلامية وتزال الحدود بينها ويطبق شرع الله وحدوده.
بعد السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية جندت نفسي لدراسة المذهب الشيعي لأفند حججهم وأكون سيفًا قاطعًا على رؤوسهم كما كنت أقول حينها وبالفعل فقد دخلت في هذا المجال باندفاع شديد خاصة مع الكم الهائل من المصفقين من حولي والمشعجين الذين يرون أن الله اختارني لهذا الأمر، كان كلما تحدث أحد ممن يصف نفسه متوازنًا ناصحًا إياي بالوعي والنظر أكثر كنت أتهمه سريعًا وبلسان سليط متكلم عن أنه يوالي الكافرين وأسوق له سيلاً من الأدلة النصية الموظفة لتأييد أحقية موقفي.
في المرحلة الجامعية بدأت آفاق المعرفة تتسع أمامي أكثر فأكثر؛ فانتقلت من التطرف إلى الانتصار للإخوان باعتبارهم يعتقدون بوسطية الدين، وبعد سنة واحدة وبلا شعور ولأسباب كثيرة أصحبت متعصبًا لكل ما يمت للإخوان بصلة أدافع عنهم دفاع الأعمى في كل حالاتهم وأهاجم بعنف كل من يلمح ولو حتى بالإشارة إلى خطأ ارتكبوه.
وعندما بدأت الآفاق تتسع أمامي أكثر وهيأ الله لي بعض الأحبة المتبصرين من حولي ممن قبلوا بي على ما أنا عليه واستوعبوا كل أخطائي فبصروني بها رويدًا رويدًا حتى انتلقت إلى مرحلة أخرى من حياتي اعتبرها أكثر نضجًا وأشمل وعيًا وأقرب للواقع وأبعد عن الكذب و لنفاق باسم الدين أو العرف، عرفت أن الحياة ألوان وأشكال وأن الخير فيها أوسع مما يتصوره أفقي الضيق مهما اتسع، وأن الإنسان فيها يكون في رحلة اكتشاف وبحث دائم.
هذه المرحلة التي ما زلت أرسم ملامحها حتى اليوم، ربما أتحدث عنها في مقال آخر..
حينما بدأت أحداث الربيع في بلاد العرب بدأت حالات التطرف تسري وتكبر في كيانه يومًا بعد يوما تذكرت الملايين الذين درسوا ما درست وتعلموا ما تعلمت، كم منهم راح ضحية الجهل وقربانًا للمنهج الظلامي الذي ساهم بنموه وتغطيته مشايخ الظاهرة الصوتية.
أحسست أكثر بالحمل الملقى على عاتقي ومن هم أمثالي الذين لم يبذلوا جهدًا كافيًا في التوعية وإنكار الخطأ بجرأة حتى وإن شتمنا أصحابه (هذا ما وجدنا عليه أباءنا).
شعرت بالمسئولية أكثر عن كل أولئك الذي يموتون ذبحًا بالسكين تحت اسم الله وتحقيقًا لأمة نبيه.
أدركت أن بداية تصويب الطريق الطويل الخاطئ أن نعترف بالخطأ الذي فينا بصراحة وأن نراجع كل ما فعلنا سابقًا وما نفعله اليوم حتى لا نطلب الحرية ونحصد الدم.
تأكدت أنه يتوجب علينا أن نبتعد عن تعليق شماعة تطرفنا على داعش ومثيلاتها لأن داعش تتغذى على قوت ودم أبنائنا الذين كانوا قبل 3 سنوات يعيشون بيننا كما كنا نعيش لكننا غرسنا فيهم بذورًا خفية نبتت حينما هيئ لها الجو المناسب، ويال خباثة ما زرعنا.
إن ما نمر به اليوم هو صراع مع ذواتنا، فالتطرف الداعشي هو جزء منا، والتسلط الاستبدادي هو جزء منا، والقتل الطائفي على الهوية هو جزء منا.
لنراجع ما نعتقد به مراجعة شاملة، جريئة، وواقعية، مصححين مواطن الخلل حتى نستيطع أن نعالج واقع حالنا المؤلم، فما نظام الأسد الطائفي ونظام السيسي القتال المستبد ونظام داعش المتطرف الدموي إلا صورًا إن حاربناها ولم نعالج أصل الظاهرة ونزيل أسبابها ستنتج بشكل جديد وصورة أخرى.
المسئولية الفردية على عاتق كل منا تكبر وتزداد كل يوم، لكن على قدر المسئولية.
المتطرف سابقًا: بشير كفاح يحيى