جنود مجهولون أنقذوا الأرواح
“رأيت أطفالاً ونساءً وشيوخًا ممزقون إلى أشلاء تنتشر أجسادهم بين الأزقة والمنازل المدمرة بمنطقة النزاز شرق الشجاعية ودخان القذائف المدفعية يُغطي المكان” .. مشهد من عشرات المشاهد المؤلمة التي رواها أحد المسعفين العاملين ضمن طواقم مديرية الخدمات الطبية.
“شاهدت مواطنًا يحمل على كتفه جثمان زوجته، وآخر يحمل طفله الشهيد بين يديه، وآخرون يحاولون إسعاف من سقطت القذائف فوق منازلهم” .. شهادة أخرى تروي مأساة غزة.
قصص مروعة في شهادات حية يرصدها “نون بوست” لجنود مجهولين أنقذوا الأرواح وانتشلوا جثامين الشهداء تحت القصف وحمم القذائف المدفعية وقدموا ما يلزم رغم نقص إمكانياتهم بل وضعفها.
روى عدد من رجال الإسعاف في غزة تفاصيل مؤثرة وقصصًا مروعة لساعات وأيام قضوها داخل مركبات الإسعاف وبين المنازل المدمرة وركام مناطق باتت “أرضًا محروقة وأشبه بزلزال”.
“الشجاعية .. خزاعة .. بيت حانون ..” من أشهر المناطق التي عصفت بها آلة الحرب الإسرائيلية، إلى جانب مجازر مسحت عائلات بأكملها من السجل المدني، لكن صور المأساة لم تُمحى من ذاكرة رجال الإسعاف ممن عاشوا أيامًا صعبة، كما يصفون.
من بين تلك الأحداث المؤلمة روى سائق الإسعاف “محمد القرعة” صورًا مروعة شاهدها بأم عينه في اللحظات الأولى لمجزرة الشجاعية فجر الأحد الثالث عشر من تموز (يوليو) المنصرم، ويقول ساردًا جزء من هذه المجزرة “دمار في كل مكان الأشجار احترقت، وسيارات إسعاف تدمرت، ومنازل هدمت .. القصف العشوائي استهدف كل شيء”، ويضيف “كنا ننقل الشهداء وقد مزقت القذائف أجسادهم إلى أشلاء، نقلت شهداء مقطوعي الرؤوس وجرحى مبتوري الأطراف .. كان مشهدًا مروعًا لم يمر عليّ في الحربين السابقتين”.
ويؤكد سائق الإسعاف أنه كان شاهدًا حيًا على المجزرة البشعة التي استهدفت زميله المسعف “فؤاد جابر” والمصور الصحفي “خالد حمد” في اللحظات الأولى لمجزرة الشجاعية، ويروي تلك المجزرة بقوله “كان المسعف جابر والصحفي حمد بجانب بعضهما ومن حولهما عدد من الشهداء والإصابات ولم أتمكن من نقلهم بسيارة الإسعاف نتيجة القصف المدفعي العشوائي والمكثف”.
“بيت الدرج”
ولم تكن هذه المشاهد الفاجعة الوحيدة التي صعقت المسعف “محمد”؛ فقد رأى بأم عينه مجزرة مروعة بحق عائلة بمنطقة النزاز شرق الشجاعية .. أسرة مكونة من ثمانية أفراد الجدة والأب والأم وأبناءهم الصغار لجأوا لـ “بيت الدرج” عله يحميهم من الحمم التي أطلقتها مدفعية الاحتلال بشكل عشوائي، ويصف سائق الإسعاف تلك المجزرة “صعقت من هول المشهد 8 مواطنين الأب يحتضن طفلته الصغيرة والجدة والأم عبارة عن أشلاء ممزقة .. كانت لحظات صعبة للغاية”.
لم يكن حال ضابط الإسعاف “فارس” مختلفًا عما وصفه زميله “محمد” فقد تعرضت سيارة الإسعاف التي كان يقودها لاستهداف مباشر فجر ارتكاب الاحتلال لمجزرة الشجاعية، شجرة عملاقة سقطت من شدة انفجار قذيفة مدفعية على سيارة إسعاف الضابط فارس فأفقدته الوعي، لكن ما لبث أن أفاق من غيبوبته القصيرة ليترك سيارة الإسعاف ويزحف مسافة بحثًا عن ساتر يحميه من القصف العشوائي من المدفعية والطائرات.
فجأة وجد “المسعف فارس” نفسه داخل أحد المنازل قائلاً: “رعاية الله كتبت لي عمرًا جديدًا؛ فلجأت لغرفة آمنة داخل المنزل الذي كان يقطنه 30 فردًا معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن”، ويشير إلى أنه تحصن وأفراد تلك العائلة داخل إحدى الغرف التي أصابتها قذائف المدفعية؛ مما أسفر عن إصابة الأطفال باختناق نتيجة الدخان المنبعث من القذائف؛ فلجأ ضابط الإسعاف لإجراء إسعافات أولية لإنقاذ المصابين، ويتابع “بعد ساعة من المكوث داخل تلك الغرفة توقف القصف المدفعي للحظات تمكنا خلالها من الخروج إلى مكان آمن، وأثناء سيرنا في المنطقة رأيت مشاهد صعبة نساء تصرخ وشيوخ تبكي وأطفال مرعوبة، شاهدت مواطنًا يحمل على كتفه جثمان زوجته، وآخر يحمل طفله الشهيد بين يديه، وآخرون يحاولون إسعاف من سقطت القذائف فوق منازلهم”.
“مجزرة الشجاعية 2”
لم تكن مجزرة الشجاعية الأولى التي يستذكر ضابط الإسعاف “فارس” تفاصيلها، فقد عايش مجزرة الشجاعية الثانية التي استهدفت تجمعًا للمواطنين في شارع صلاح الدين قرب سوق البسطات الشعبي، ويقول واصفًا تلك المأساة: “تلقينا استغاثة باستهداف الاحتلال بوابل من القذائف المدفعية لمواطنين قرب سوق البسطات بالشجاعية، صعدت لسيارة الإسعاف وسارعت لمكان الاستهداف”.
تفاجأ “فارس” بإصابة زميله المسعف “أكرم العارور” أثناء محاولته إسعاف المواطنين، مضيفًا “أثناء محاولتي تقديم الإسعاف لزميلي أكرم وللمواطنين المصابين انهالت سبع قذائف مدفعية على المكان”.
صُدم ضابط إسعاف الخدمات من هول ما رأى؛ فالشهداء تناثرت أشلائهم ودمائهم على شقي شارع صلاح الدين حيث مكان المجزرة، أطفالاً وشبابًا ورجالاً وشيوخًا جميعهم بين شهيد أو جريح فقد أطرافه وأجزاء من جسده.
“عائلة النيرب”
أما المسعف مازن مشتهى – في منتصف العشرينات من عمره – روى هو الآخر مشاهد قاسية كالتي سردها زملائه، فأثناء توجه طواقم الإسعاف لانتشال جثامين شهداء عائلة النيرب في حي الصبرة جنوب غزة التي دمرت طائرات الاحتلال الحربية المنزل على رؤوس ساكنيه شاهد المسعف مشتهى وأقرانه من الطواقم الطبية وطواقم الدفاع المدني صورًا مروعة.
“أخرجنا الأم وأطفالها الأربعة من أسفل سقف المنزل المدمر، كان الوضع صعب للغاية الشهداء عبارة عن أشلاء بعضهم انتشلنا جثمانه بلا رأس والآخر عبارة عن أشلاء ممزقة”.
ووصف المسعف مشتهى عمله ضمن طواقم الإسعاف التابعة للخدمات بـ”الصعب”، قائلاً “كنا نعمل على مدار أيام وساعات متتالية بلا نوم ولا يوجد وجه شبه بين هذا العدوان وما سبقه من عدوان في 2008 و2012”.
بينما ذكر سائق الإسعاف محمود المهدد – 26 عامًا – أن ما شاهده خلال العدوان أصعب من الوصف، مستطردًا “ما شاهدناه من جرائم حرب ومجازر بشعة ارتكبها الاحتلال بحق أبناء شعبنا أصعب بكثير مما يتخيله العقل البشري”.
وسرد سائق الإسعاف شهادته أثناء توجهه والطواقم الطبية لتلبية استغاثة المواطنين في شارع الطواحين الذي يفصل منطقة بغداد ومنطقة المنصورة بحي الشجاعية شرق غزة.
ويروي المسعف المهدد ما حدث معهم بقوله “تعرضنا لقصف مباشر من مدفعية الاحتلال وسقطت قذيفة أمام سيارة الإسعاف الأولى وسقطت قذيفة ثانية بمحاذاة السيارة الثانية”، ويؤكد أن طواقم الإسعاف شعرت بـ”قلق نفسي” كبير وحاولت العودة نظرًا لكثافة القصف المدفعي، لكن أحد المسعفين لاحظ خروج مجموعة كبيرة من المواطنين من منازلهم فسارعت مركبات الإسعاف لإنقاذهم وإخلائهم إلى مكان آمن.
“مجزرة البطش”
أما مجزرة عائلة البطش فشكلت لدى المسعف “محمود” صدمات نفسية كبيرة باعتباره أول سائق إسعاف يصل لمكان الحادث المؤلم الذي وقع عقب أداء المواطنين صلاة التراويح في مسجد الحرمين بمنطقة الشعف شرق مدينة غزة، “رأيت شهداء كانوا على قيد الحياة يلتقطون أنفاسهم الأخيرة” كان من بين أكثر المشاهد المؤثرة على المسعف المهدد، وقال واصفًا تلك المجزرة البشعة التي حصدت أرواح 20 فردًا من عائلة واحدة: “كانت ليلة سوداء رأيت أشلاء متناثرة في المكان، فتحنا سيارة الإسعاف لنضع شهيد انتشلناه فتفاجأنا بوجود شهيد ثان قد وضعه المواطنون”.
بينما روى مسعف آخر موقفًا مؤثرًا حدث معهم أثناء إخلاء شهداء وجرحى من تحت أنقاض منزل مدمر شرق الشجاعية، وسرد روايته لذلك المشهد “كنا نخرج الشهداء من تحت الأنقاض وأفراد أسرتهم الأم والأشقاء ينظرون على أبناءهم الممزقين إلى أشلاء .. الأطفال يصرخون والجثث منتفخة ورائحة الموت تتنشر في المكان”.
ويشير ذلك المسعف إلى أن الطواقم الطبية بالتعاون مع رجال الإنقاذ في الدفاع المدني مكثت في المكان المدمر من الساعة الثامنة صباحًا وحتى الثالثة عصرًا حتى تمكنت من إخراج الجثامين.
وعمل المسعفون وأفراد الأطقم الطبية في غزة على مدار الساعة خلال العدوان الإسرائيلي، واستشهد 21 مسعفًا وطبيبًا وممرضًا من مختلف الطواقم العاملة في غزة، بالإضافة لإصابة أكثر من 80 من الطواقم الطبية المختلفة خلال العدوان.