لطالما طالب السوريون الذين وجدوا ثورتهم أمام عسكرة سائلة عمادها عدد لا نهائي من التشكيلات والأجسام والمجموعات المسلحة، بعد أن تشكلت بصورة عفوية في البلدات والمدن والأحياء لتدافع عن الأهالي أمام الوحشية التي قابلهم بها نظام بشار الأسد، بتوحّد تلك التشكيلات تحت مظلة عسكرية تجمعهم وتوحد قرارهم وتحد من ظاهرة السيولة العسكرية.
وبالفعل كانت هناك عشرات المحاولات التي عملت على تجميع التشكيلات ونجح الكثير منها في جمع شتات المجموعات والألوية الصغيرة لتكوّن جسمًا عسكريًا أكبر، لكنها فشلت في جمع الكل في بوتقة واحدة نتيجة اختلاف الأيديولوجيات والتمويل و”كبر راس القادات” كما عبّر قائد ومؤسس لواء التوحيد الراحل عبد القادر الصالح في مقابلة له على قناة الجزيرة.
وبعد انزواء الثورة إلى مساحة جغرافية أضيق، وانكفاء “جيوشها” إلى مناطق في الشمال السوري، في محافظة إدلب وما تبقى من مناطق محررة في محافظات حلب وحماة واللاذقية، وهي مناطق تحاذي تركيا في الشريط الحدودي الذي تسيطر مليشيات كردية انفصالية على بقية امتداداته، عملت تركيا بإصرار على حث الكتائب السورية المعارضة على التوحد تحت مظلة واحدة، وأمكن لأنقرة الضغط على تلك الفصائل العاملة في الشمال السوري التي لا يبدو أن لديها خيارات في تجاوز التعاون مع أنقرة، منفذها الوحيد والحليف الأخير المتبقي بفعل الجغرافيا بالدرجة الأولى، وتلاقي المصالح بالدرجة الثانية، بعد أن انفض العالم عن الثورة بمن فيهم “الأشقاء العرب” الذين استحالوا إلى ثورة مضادة مصابة برهاب الربيع.
في مطلع 2017، نجحت الضغوط التركية وظهرت أولى تشكلات “الجيش الوطني السوري”، منبثقًا من انصهار مجموعة فصائل كانت شاركت مع تركيا في عملية درع الفرات، ليشارك الجسم الجديد “الجيش الوطني” بعملية “غصن الزيتون”، وهما العمليتان اللتان قادتهما تركيا ضد المليشيات الكردية وتنظيم داعش في الداخل السوري، قبل أن يتوسع الجيش هذا العام ليضم المزيد من الفصائل ويشارك في عملية “نبع السلام” وهي العملية التي فتحت على الجيش الوطني عاصفة من الانتقادات المحلية التي رأت في نشاطه العسكري بنبع السلام “عمالة” لتركيا، وهو ما رد عليه الجيش بوجود مصلحة للثورة والجيش بتحرير المدن السورية من المليشيات الانفصالية.
ونبحث في الأسطر التالية، تكوين الجيش الوطني السوري المعارض وتشكيلته ومهامه، ومصيره بعد عملية “نبع السلام”.
آلاف المقاتلين بـ7 فيالق
تأسس الجيش الوطني السوري في يناير 2017، بعد عملية “درع الفرات” التي سيطرت خلالها فصائل الجيش السوري الحر بإسنادٍ تركي على مناطق جرابلس والباب والراعي، لتكون أولى العمليات الثلاثة التي تنفذها تركيا داخل الأراضي السورية، وجاء التأسيس نتيجةً للعشوائية التي رافقت عملية درع الفرات، فضغطت تركيا على تلك الفصائل لضبطها في تشكيل واحد ودعوة باقي الفصائل للانضمام إليه، حتى إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصف قوات الجيش الحر بأنها “الجيش الوطني لسوريا”، داعيًا دول الخليج لتدريبه، مؤكدًا أن “تركيا تسانده”.
إلا أن الانقطاع الجغرافي بين مناطق ريف حلب الشمالي التي صارت تسمى “مناطق درع الفرات” ومناطق الشمال السوري الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة وتضم إدلب وريفها وجزءًا من ريف حلب وريفي حماة واللاذقية، لم تسمح لهذا التشكيل بالتمدد أكثر في المساحة، وظل وجوده محصورًا في مدن درع الفرات، حتى إن “جبهة النصرة” التي تعرف اليوم بـ”هيئة تحرير الشام”، كانت تمنع التعامل مع فصائل الجيش الوطني، وأصدرت فتوى بحرمة المشاركة في معارك درع الفرات، وترى النصرة أن ما حصل في الريف الشمالي هو “تضارب المشاريع كمشروع تنظيم داعش ومشروع قوات الأسد وحلفائه والمشروع الأمريكي ومشروع الأمن القومي لتركيا”.
استمر الانقطاع الجغرافي بين المناطق التي تسيطر عليها المعارضة إلى أن أتت عملية “غصن الزيتون” التي شنتها تركيا مع الجيش الوطني، وكان من نتائجها أن اتصلت مناطق إدلب وريف حلب الغربي مع ريف حلب الشمالي وأصبح الطريق مفتوحًا بين المناطق موسعّةً المساحة وموفرّة لكثير من الجهود بشتّى المناحي العسكرية والاقتصادية والمعيشية.
إلا أن الجيش الوطني ورغم توافر الطرق ظل ممنوعًا من الدخول إلى إدلب وريفها بقرار من “هيئة تحرير الشام”، حتى بدأ النظام معاركه بريف حماة التي من خلالها وبعد ضغطٍ شعبي سمحت “تحرير الشام”، بدخول بعض المجموعات للمشاركة بالدفاع عن ما تبقى من الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام السوري، خاصةً أن قوات الأسد سيطرت على مناطق إستراتيجية ومهمة كمدينة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي.
في الفترة الزمنية التي توسطت بين سيطرة النظام السوري على مساحات واسعة بريف إدلب، وبدء عملية طرد التنظيمات الكردية من مناطق شرق الفرات بمعركة نبع السلام، أصرّت تركيا على دمج جميع الفصائل المقاتلة تحت لواء الجيش الوطني، لسهولة دعمها ولتكون هنالك قوة معتدلة تفاوض بها الروس والإيرانيين بعيدًا عن التنظيمات المتشددة لإبعاد شبح الحرب والسيطرة على إدلب وريفها.
فيما رأى معارضو مشاركة الجيش الوطني بالعمليات العسكرية التركية أن أنقرة تدعم الجيش لحماية الحدود التركية، واستخدامه في المعركة ضد التنظيمات الكردية وكورقة في المفاوضات مع روسيا، إلا أن القيادي في الجيش الوطني مصطفى سيجري ذكر لـ”نون بوست” أن “الجيش الوطني يعتبر العلاقة مع أنقرة علاقة إستراتيجية ومهمة جدًا في سبيل استمرار النضال، وخصوصًا في الظروف الحاليّة، بعد أن تخلى عنا المجتمع الدولي والأشقاء العرب، وبتنا وحدنا في مواجهة نظام الإرهاب وروسيا وايران، وبعض الدول العربية الداعمة لنظام الأسد والداعمة للقوى الانفصالية”.
ومن جهة أخرى فإن هذا التشكيل وعلى الرغم من أنه من فصائل مختلفة الأيديولوجيا والتوجهات، لديه قاسم مشترك وهو أن تشكيلاته أضعفتها سطوة “جبهة النصرة”، حيث شنت عليها أكثر من هجوم فسلبت سلاحها ومناطقها وقتلت العديد من جندها، مما استدعى تلك الفصائل بتجميع نفسها تحت مظلة دولة تحميها من ممارسات النصرة التي دائمًا ما تكون عقبة في وجه أي حل، غير أنها شماعة للهجوم الروسي المستمر على إدلب والمناطق المحيطة بها.
وفي الـ4 من أكتوبر من العام الحاليّ، أعلن رئيس الحكومة السورية المؤقتة عبد الرحمن مصطفى “اندماج فصائل الجيش الحر في ريف حلب الشمالي وإدلب تحت جسم عسكري موحد”، وتم الإعلان من ولاية شانلي أورفا التركية، ولفت مصطفى إلى أنّ “فصائل الجبهة الوطنية ستتحول إلى الفيالق الرابع والخامس والسادس والسابع في صفوف الجيش الوطني، وتعيد انتشارها ضمن قطاعاتها السابقة”.
وبذلك أصبح الجيش الوطني يضم 7 فيالق تتألف من فصائل عدّة هي: فرقة السلطان مراد وفرقة الحمزة ولواء المعتصم وهي التشكيلات التي قام عليها الجيش الوطني منذ 2017، وانضمت إليها الجبهة الوطنية للتحرير التي تضم فيلق الشام وهو ذو دعم تركي منذ إنشائه حتى إنه يحوذ مناصب قيادية مهمة في هذا التشكيل.
وينضوي أيضًا في الجيش فصائل جيش النخبة وجيش النصر وحركة أحرار الشام التي كانت أساسًا من أساسات الكفاح السوري المسلح ضد النظام ولكن اغتيال قادتها عام 2014 وهجوم “جبهة النصرة” عليها في 2017 أضعف قواها كثيرًا، بالإضافة إلى حركة نور الدين زنكي التي فككتها جبهة النصرة في معاقلها بريف حلب الغربي لتتوجه إلى مناطق درع الفرات وتتمركز هناك.
من جهته قال سيجري إن تعداد الجيش بعد دخول قوات الجبهة الوطنية للتحرير بات “أكثر من 110 آلاف مقاتل”، ويتوزع هذا الجيش حاليًّا على مناطق تل أبيض ورأس العين ومناطق ريف حلب الشمالي وعفرين فيما ينتشر بريف حلب الغربي وإدلب وريفها وقرى من ريف اللاذقية.
قيادات الجيش
يقود الجيش الوطني اللواء سليم إدريس، وهو ضابط انشق عن قوات الأسد عام 2012، وتولى عدة مهام في الجيش السوري الحر، فيما تسلم العقيد فضل الدين الحجي منصب نائب رئيس الأركان عن منطقة إدلب، هو الذي كان يشغل منصب القائد العام للجبهة الوطنية للتحرير قبل أن تندمج مع الجيش الوطني، فيما تقلد العميد عدنان الأحمد منصب نائب رئيس الأركان عن جبهة حلب وهو ضابط منشق، وكان من بين قادة عمليات درع الفرات وغصن الزيتون.
الجيش الوطني ونبع السلام
منذ انطلاقة عمليات نبع السلام، سيطرت قوات الوطني السوري والجيش التركي على مدينتي تل أبيض ورأس العين، وقدّم الجيش الوطني 132 قتيلًا في المعركة التي دعمها بآلاف المقاتلين، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 13 من أكتوبر: “الجيش الوطني السوري حقق من خلال قتال بطولي نجاحًا كبيرًا في تطهير الأحياء السكنية في منطقة شرق نهر الفرات شمالي سوريا من المنظمة الإرهابية”، في إشارة إلى المليشيات الكردية.
قال الرئيس التركي أردوغان:
يجب أن أؤكد شيئا، وهو أن في هذا الكفاح القوات المسلحة التركية ومعها يجب ألا ننسى الجيش الوطني السوري.
شارك الجيش الوطني السوري في هذا الكفاح ببذل النفس والتهالك مع القوات المسلحة التركية.
وهم قوم كأنهم يخيفون الموت.
هم قوم يهاجمون الموت.
— Emrullah İŞLER (@emrullahisler) October 25, 2019
وحاولت قوات المعارضة السورية منذ اليوم الأول لدخولها أحياء تلك المدن منع عناصرها من ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وعمدت قيادة الجيش إلى إصدار البيانات التحذيرية من أي انتهاكات ضد المدنيين والمؤسسات، وأصدر الجيش الوطني في بداية العمليات بيانًا تطمينيًا لمكونات تلك المنطقة، قال فيه: “نبلغكم التطمينات على أنفسكم وأموالكم وممتلكاتكم، ومساجدكم وكنائسكم فهي في حفظ وصون وأمانة، وإن أبناءكم الثوار من جنود الجيش الوطني لا يرغبون السوء لكم، بل هم كما عهدتموهم درعكم الحصين، وسيفكم الذي طالما كان يذب عن الأرض والعرض”.
من جهة أخرى فقد أسس الجيش الوطني وعلى يد قائده سليم إدريس ما يسمى “المحكمة العسكرية” التي ستبحث في الانتهاكات التي ينفذها عناصر الجيش، إلى ذلك فإن الجيش يحتوي على إدارة للتوجيه المعنوي، تقوم على توعية جنوده بالمحاضرات والدروس التوعوية والتواصل مع المجتمع لتأمين الحاضنة الشعبية.
إلا أن عملية نبع السلام انتهت نتيجة التفاهمات الدولية، الأمريكية التركية ومن ثم الروسية التركية التي قضت بانسحاب التنظيمات الكردية من المناطق التي تريدها تركيا وتسيير دوريات روسية تركية مشتركة في المنطقة وتظل المناطق التي استولى عليها الجيش الوطني على وضعها الحاليّ، أي أن منطقتي تل أبيض ورأس العين ستبقى دون أي اتصال مع المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية فيما يبدو أنه حصار كامل.
ويبقى التنقل لمقاتلي الجيش الوطني بين مناطق نبع السلام ومناطق درع الفرات وعفرين وإدلب محصورًا بخروجهم إلى تركيا ومن ثم ينتقلون عبر الأراضي التركية إلى مناطقهم، مما يجعل الأمر شاقًا ومعقدًا ومكلفًا، من جهته قال مصطفى سيجري لـ”نون بوست”: “لا بد من تطهير المنطقة الواصلة بين تل أبيض وجرابلس لضمان تحرك سهل لقواتنا في المنطقة”.
جانب من زيارة وزير الدفاع اللواء الركن “سليم إدريس” وتشكيل المحكمة العسكرية في مدينة #رأس_العين بعد تحريرها من ميليشيا الحماية الانفصالية ضمن إطار عملية #نبع_السلام#إدارة_التوجيه_المعنوي pic.twitter.com/CGUs0uMQXh
— التوجيه المعنوي (@tawjih_syria) November 4, 2019
وذكر سيجري بأنهم أوصلوا رسالة لتركيا مفادها بأنه “لا معنى للحديث عن منطقة آمنة في شرق الفرات ما لم يتم تطهير كامل المنطقة من المجموعات الإرهابية ووجود مجموعات تابعة للأسد لا يساعد في عودة الناس، وعليه لم يعد اسمها منطقة آمنة”.
إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال: “أنقرة أنشأت ممرًا بين مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا شمالي الرقة، ومدينة جرابلس شمال شرق حلب”، وأضاف أردوغان أن الجيش التركي سيكون له دور المراقبة في مدينتي منبج وعين العرب، غير أن هذا الممر لم يُعرف إن كان بدأ العمل أم لا، من جهته قال مصطفى سيجري: “من المبكر الحديث عن شكل المنطقة في شمال شرق سوريا، وخرائط السيطرة النهائية، قواتنا موجودة في شرق الفرات وتبحث الخيارات الممكنة والمتاحة في الفترة القادمة”.
وفي الطرف المقابل يخوض الجيش الوطني معارك عنيفة على جبهة كبينة بريف اللاذقية، التي تتمركز فيها بعض فصائله وتتكرر محاولات اقتحامها من روسيا ومليشيات الأسد بشكل شبه يومي، وقال الناطق باسم “الجبهة الوطنية للتحرير” أحد فصائل الجيش الوطني، ناجي مصطفى: “الجبهة الوطنية مع بقية الفصائل العاملة في الشمال نفذت هجومًا مباغتًا على عدد من المواقع والتلال لقوات الأسد في ريف اللاذقية، مما أوقع عشرات القتلى والجرحى في هذه الغارات البرية”.
وعليه فإن مستقبل الجيش الوطني في مناطق إدلب وريفها مرهون بدفاعه عن ما يسيطر عليه من أراضٍ، وفي حال سيطرة النظام على تلك المناطق سينحصر وجوده بالمناطق ذات الإدارة التركية، وحينها يكون مصيره مرتبطًا بما قد تمليه عليه الاتفاقيات والتسويات الدولية، إلا أن يتخذ -كله أو فصائل منه- قراراً بمواصلة كفاح نظام الأسد حتى الرمق الأخير.