دخلت الاحتجاجات العراقية الحالية التاريخ من أوسع أبوابه، وبرز دور شريحة الشباب المطالبين بحقوقهم المسلوبة، وغاب أو غُيِّبَ دور الأحزاب بقرار من الشعب، لم يسمح المحتجون للأحزاب بمصادرة جهودهم عبر ركوب موجتها، ولم يشهد العراق أيضاً مثل هذه الاحتجاجات التي رفع العلم العراقي وحده فيها، وكان الاصطفاف للوطن وشعبه فقط لا على أساس آخر.
لم يتوحد العراقيون من قبل على قضية مثلما يتوحدون حالياً على الاحتجاجات الشعبية، حيث لا مكان لأي هوية فرعية فيها، ولم تفلح أيضاً الأحزاب باستخدام “بعبع” الطائفية هذه المرة، والذي كان لعبتها في سنوات طويلة خلت، يظهر المجتمع العراقي اليوم بأبهى صورة له، تلك الصورة التي غابت سنوات طويلة، ناصعة خالية من شوائب الأحزاب ومخلفاتها.
المحتجون.. نحو نقطة اللاعودة
بتصرفات غير مدروسة، لم تدع السلطات العراقية للمتظاهرين السلميين خيارًا آخر، إذ يراهن أغلبهم على حركة الاحتجاج الأخيرة، وتعدّ بالنسبة إليهم “نكون أو لا نكون”.
ويخشى أغلب المتظاهرين في جنوب العراق وكذلك العاصمة بغداد من مصير معروف بالنسبة إليهم هو “التصفية الجسدية” بسلاح فصائل مسلحة نتيجة خروجهم بالاحتجاجات الأخيرة وتنديدهم بالطبقة السياسية وداعمها الإقليمي “إيران” ليصبح الأمر بالنسبة إليهم نقطة اللاعودة واللاتراجع، ويبدو ذلك واضحاً في كمية الإصرار والتحدي الذي جعل المحتجين يواجهون كمية العنف غير المسبوقة من قبل السلطات ضدهم.
الترهيب.. الغريزة التي أسقطت الدولة!
حملة ترهيب بدأت عقب حركة الاحتجاج العفوية التي تعرض فيها عدد من الناشطين والمشاركين في التظاهرات لعمليات تغييب وترهيب في سلوك آخر خارج نطاق الدولة، تحاول السلطات من خلاله مصادرة حرية التعبير بالرأي التي ضمنها الدستور العراقي ونص أيضاً لتوفير الحماية لها.
حملات تهديد ووعيد يتعرض لها الصحفيون والمدونون على خلفية تغطيتهم الاحتجاجات، تسير السلطات العراقية بشكل لا يقبل الشك نحو جمهورية الخوف والقنص، وتمارس إرهاباً غير مسبوق ضد مدنيين عزل إلا من المطالب.
لهيب الغضب الذي استعصى إخماده
الكاتب والصحفي سرمد الطائي يؤكد أن “الاحتجاجات الأخيرة هي تطور طبيعي لعشر سنوات من التظاهر المتواصل، تطورت خلاله خبرة العراقيين في تنويع أساليب الاحتجاج”.
وعن الجيل الشبابي الذي يقود الاحتجاجات الحالية يقول الطائي إن “ظهوره الأول كان في العام الماضي باحتجاجات البصريين، وأطلق المراقبون عليه تسميات مختلفة عليه تسميات منها “جيل الفيس بوك والبوبجي”، هذا الجيل هم شريحة ناقمة وليس لديهم انتماء لا إلى طوائفهم ولا إلى عشائرهم ولا يحترمون صدام؛ لأنهم لم يعيشوا زمنه، ولا يحترمون الأحزاب أيضا؛ لأنهم شهدوا منها فشلا وانهيارات، ووصل بهم الغضب إلى إحراق القنصلية الإيرانية”.
ويضيف الطائي في حديثه لـ”نون بوست” قائلاً: “حذرنا سابقاً على وجوب إدارة هذا الغضب بطريقة عاقلة وحكيمة من قبل مراكز القوى السياسية والاجتماعية أو ينفلت، ما يحدث هو غضب جديد، حتى لو نجحنا في تهدئته بطرق تقليدية سيعود مرة أخرى ولن يهدأ إلا بعد أن نقول للناس هناك تغيير حقيقي عبر ظهور خارطة سياسية جديدة في البرلمان بانتخابات نزيهة وبضامن دولي”.
العراق ليس “جمهورية موز”
وبشأن السياسة التي تعمد السلطات العراقية في اتّباعها لقمع حركة الاحتجاجات العفوية يقول الطائي إن “سياسة تكميم الأفواه تنفع مع شعب متردد، ولكن الآن هناك صعود كبير للوطنية في العراق، أدى إلى إدانة التدخل الإيراني في البلاد، وكلمة المرشد الأعلى والحرس الثوري أيضاً، هذا الشعور لا يمكن مواجهته حين تشعر الشعوب بكرامة لا يمكن جرح كرامتها أكثر”.
ويؤكد الطائي أيضاً: “العراق ليس جمهورية “موز” أو قرية صغيرة، هو بلد كبير فيه 40 مليون نسمة، وبلد ثري متنوع بعلاقات تاريخية مع محيطه، وهو شريك مسؤول حالياً في أمن المنطقة وآمن العالم، وفيه مقومات كثيرة للاستقلال السياسي وطلب الكرامة الوطنية”.
شلل تام وفجوة كبرى
يواصل القادة السياسيون في العراق الذي يواجه شللاً في بعض مفاصله، تقديم وعود بإصلاحات، بينها إجراء انتخابات مبكرة يصرُّ المحتجون على مطلبهم المتمثّل في “إسقاط النظام السياسي بالكامل”.
ويصرُّ القادة أيضاً على الظهور بشكل شبه يومي على وسائل الإعلام في محاولة منهم لتخفيف غضب الشارع، لكن النتائج جاءت عكس ما يرغبون، يرجع ذلك إلى الفجوة الكبيرة بين المحتج والمسؤول.
الطبقة السياسية لم تدرك الموقف حتى الآن، وما زالت تستغل المواقف لتسجيل النقاط، بعضهم على بعض، وعمليات التسقيط وتحقيق مكاسب على جراح المتظاهرين المتواصلة، لكن يبدو أنها لن تدوم طويلاً.
فشل ذريع في ركوب الموجة!
في خضم الاحتجاجات الشعبية وأحداثها المتسارعة تتسابق الأحزاب والتيارات إلى القفز من مركب الحكومة الغارق بموجها، وتحاول أخرى مصادرة الحركة العفوية، لكنّ المحتجين -وعلى طريقتهم الخاصة- لم يسمحوا لأحد بفعل ذلك عبر رفعهم شعارات مندّدة بكلّ شخصية تحاول مغازلتهم والتسلّق على ظهورهم المكتوية بنيران السلطات وتجاهلها الطويل.
وتحاول أحزاب لفت المتظاهرين إلى بضاعتها المستهلكة، عبر وعود معسولة، مثل قانون انتخابات جديد ولجنة إصلاحات دستورية، لكن المحتجين لا ينصتون لها ويعدونه “غطاء تستخدمه الطبقة السياسية لإنقاذ نفسها والحفاظ على امتيازاتها”.
تبريرات رملية للدولة!
الكاتب والصحفي علي السراي يقول: “إن أحد أهم ما حققته الاحتجاجات الأخيرة هي أن 16 سنة من الفشل السياسي شيعت إلى مثواها الأخير، حتى لو أن التشييع لم يكن رسمياً بعد، لكن المفهوم العام فارق الحياة”.
ويؤكد السراي أيضاً أن “الروايات التبريرية لدى السلطات تسقط تباعاً واحدة تلو الأخرى، حتى تلاشى المبرر الأخلاقي لأصل وجود السلطة، الروايات الحكومية – الحزبية كانت بمنتهى الغباء والاستخفاف، والانفصال التام عن الحدث”.
ويضيف أن “اللحظة التالية لكل هذا العصف السياسي والاجتماعي الذي انتجته ساحات الاحتجاج، أكثر خطورة وأهمية من سابقتها، وفيها من المسؤوليات ما هو أكثر جسامة من كل ما اختبرناه خلال الشهر المنصرم، إذ يترتب على الطبقة السياسية التكيف مع لحظة الوفاة هذه، وعلى المتظاهرين أن يغادروا الشعور المهرجاني الذي يغطي احتجاجهم وينخرطوا أكثر مع فئات المجتمع لبلورة تصورات عن الخطوة القادمة”.
المحتجون.. وشغف الإصرار المشروط!
الاحتجاج العراقي، شغف لا يرتوي حتى تحقيق المطالب التي طال انتظارها، بعد أن توهم الفاسدون أن الشعب قد مات، لكنه استيقظ من تحت ركام يأسه، فزلزل زيفهم بصرخة الحرية، أثبت العراقيون ذلك خلال شهر من الغضب أن شبابهم أثمن مواردهم وأغلاها.
الشعوب تنضجها الأزمات وتؤطر تفكيرها الخبرات حتى تتمكن من اختيار أفضل المسارات، الأزمات نفسها انتجت جيلا عراقيا يمتلك من الوعي الكثير ومن العطاء أيضاً، جيل ولد على احتلال بلده وأنتجت عملية سياسية عرجاء على أنقاضه، وشهد حرباً طائفية في طفولته، وبدأ شبابه في محاربة الإرهاب، أنتج كل ذلك جيلا هزّ أركان السلطة، وها هو يسير نحو الحرية.