يزخر التاريخ المصري القديم بالعديد من الوقائع والحكايات عن تعدد صور المعارضة للنظم الحاكمة والتي تعكس أبرز ملامح الحقب الزمنية الهامة التي كان لها دورًا كبيرًا في تشكيل الحياة العامة لدى المصريين على مدار التاريخ، بعضها ساهم بشكل محوري في رسم الخارطة السياسية والاقتصادية والفكرية لمصر حتى اليوم.
وكأي مجتمع له منحنيات قوة وضعف، كانت حياة القصر الملكي بكل ما فيه جزءًا من هذا المجتمع، إذ غلبت عليه الغيرة والطموحات والمؤامرات على بعض الملوك، بعضها كانت نتاجًا للصراع على العرش وكرسي الحكم وأخرى انتقامًا لفساد استشرى وعم الأرجاء.
ولعب حريم القصر دورًا كبيرًا في حياة الملوك والحضارات على حد سواء، فالأمر لم يقتصر فقط على الملكات منهن ممن تربعن فوق العرش، بل حتى زوجات الملوك من الدرجة الثانية كان لحضورهن بريقًا قويًا، زاد لمعانه في حقب معينة، وفي البعض الأخر أطاح بأنظمة بأكمله فيما عرف فيما بعد بـ “مؤامرة حريم القصر”.
ومن باب الأمانة العلمية والتاريخية لم يكن هناك من الوثائق التاريخية ما يكفي للتيقن من هذه القصص والحكايات، لكن يمكن الوقوف على بعض تلك الوقائع من خلال عدد محدود من الوثائق المصرية القديمة مثل بعض السير الذاتية التى لم يكن الهدف من ذكر تلك الأحداث عرضًا الطعن فى الملكية المصرية بقدر التأكيد على رغبة صاحبها فى إظهار أهميته واستخدام الواقعة المذكورة دليلاً على تلك الأهمية المزعومة.
تعدد أشكال المعارضة
احتفظت الوثائق المصرية القديمة ببعض صور المعارضة التي أخذت أشكالًا متعددة، منها الثورات الاجتماعية وأبرزها الثورة عقب انهيار الدولة القديمة، ثم ثورة طيبة ضد الملك “تكلوت الثاني” ثاني ملوك الأسرة الـ23، الذي حكم لمدة 26 عامًا، بالإضافة إلى ثورة الشعب المصري ضد الملك “واح-إيب-رع”، أشهر ملوك الأسرة الـ26.
كذلك الانقلابات السياسية على الملوك، كما حدث مع الملك “تتي” ( 2323 – 2291 ق.م)؛ هو مؤسس الأسرة السادسة، والذي حكم مصر لمدة ثلاثين عامًا كاملة، كان له فيها نشاط سياسي وعسكري واقتصادي كبير؛ ولكنه تم التآمر عليه وقتله؛ ويُقال إن السبب في ذلك أنه رفض تغول السلطة الدينية المتمثلة في “كهنة عين شمس” مقر عبادة “رع”، علاوة على الانقلاب على الملك “سنوسرت” أحد ملوك الأسرة الحادثة عشر، الذي ورث الحكم خلفاً لوالده الملك “منتوحتب، سعنخ كا رع” (2010 – 1998ق.م).
تحفل أدبيات قدماء المصريين بالعديد من الرسومات التي تنتقد الحكام ورجال الدين والاستعمار في بعض الأحيان
المعارضة لم تقتصر فقط على ما تم من أحداث واقعية على الأرض، بل كانت هناك صور عدة أبرزها السخرية عبر الرسومات والأشكال التي تعكس الامتعاض من الحكم والاستهزاء به، كما يقول الخبير الأثري العالمي زاهي حواس، وزير الأثار المصري الأسبق.
حواس أوضح أن الملك كان يسيطر على كل أدوات الحكم، بل لم يسمح لأحد أن يكتب رأيه، بل هو الفرعون الذى جعل كل الشعب يعمل من أجل المشروع القومي وهو بناء الهرم والمقبرة، حتى إن الفنانين لم يكن يسمح لهم إلا فى حالات نادرة بإمضاء أعمالهم، لأن الفن كان لأجل الدين، ورغم ذلك هناك البعض الذي ترك لنا مناظر معارضة جريئة.
وتحفل أدبيات قدماء المصريين بالعديد من الرسومات التي تنتقد الحكام ورجال الدين والاستعمار في بعض الأحيان، وفي عهد الرعامسة، بلغ النقد غايته في تصوير الأوضاع السيئة في مجتمعه، فرسم القاضي في هيئة فأر يتصنَّع الوقار، ويستند إلى عصاه، ويستخدم قطًّا لتأديب غلام مصري ألقاه حظه العاثر بين يديه، فجلس على ركبتيه يطلب الرحمة، لكن دون جدوى، وهنا يظهر أن القط تحول ليعمل في خدمة الفأر بعد أن كان عدوًّا له، وهذا إسقاط على الأوضاع التي سادت في عصر الرعامسة، وازدياد نفوذ الأجانب حتى أصبحوا عبئًا على المجتمع المصري.
كذلك تم تجسيد القطط تخدم الفئران، فهذا قط يحمل طفل الفأر، وآخر يحمل أداة ترويح يدوية، وثالث يقدم له العصير والإوز المذبوح كي يأكله. ومن المعروف شعبيًّا كيف أن الفأر يتَّصف بالجبن. ويتضح من الرسم أن الفنان يريد أن يقول إن الوضع في مصر معكوس، فأصبحت القطط تخاف الفئران الجبانة.. وكلها إسقاطات ساخرة على الوضع القائم آنذاك.
انقلاب حريم القصر
تحت عنوان ” مؤامرات حريم الفراعنة!” استعرض الأكاديمي المصري الخبير في التاريخ المصري القديم، حسين عبد البصير، بعض صور المعارضة النسائية داخل القصر الملكي، مؤكدًا أن قصور الملوك كانت ساحة كبيرة لتصفية الحسابات السياسية والمجتمعية والعائلية.
عبد البصير كشف النقاب في سلسلة مقالاته المنشورة في الصحف المصرية عن الدور الكبير الذي لعبته المرأة المصرية في الحكم، بطريق مباشر أو غير مباشر، لافتًا إلى أنها في بعض الأحيان كانت انعكاسا لعامة الناس في الشارع، خاصة حين يتعلق الأمر بفساد ملك أو جوره على حقوق الرعية.
بيبي الأول: الفرعون الثالث خلال عهد الأسرة السادسة (2332–2283ق.م)، من أوائل الوقائع التي تكشف مؤامرات حريم القصر في العصر الفرعوني ما حدث خلال فترة حكم بيبي الأول، وتجسد تفاصيل هذه المؤامرة ما جاء سيرة الموظف «ونى»، من الأسرة السادسة من عصر الدولة القديمة أو عصر «بناة الأهرام». وفيها يروى، ضمن الأفضال الملكية التى أنعم جلالة الملك «بيبى الأول» بها عليه كشخص موثوق به: «عندما كانت هناك قضية سرية فى الحريم الملكى ضد الملكة.. جعلنى جلالته أذهب كى أحقق (فيها) وحدى. ولم يكن هناك كبير القضاة ولا الوزير، ولم يكن هناك مسؤول، فقط أنا وحدى.. ولم يحدث أبدًا من قبل أن حقق أحد مثلى فى أمر من أمور حريم الملك؛ غير أن جلالته جعلنى أحقق فيها».
بردية توثق الانقلاب على الملك بيبي
اللافت للنظر أنه لا أحد يعرف حتى الآن التهم التي وجهت للملكة، وهو ما لم يذكره “وني” ربما حفاظًا منه على هيبة الملكية المصرية في هذا الوقت وفق ما ذهب مؤرخون، فيما ذهب آخرون إلى سيناريوهات أخرى منها أن الملكة كانت تتآمر ضد إحدى زوجاته المحبوبات، أو ضد أحد أبناء زوجاته لمنعه من بلوغ عرش مصر، أو ضد الملك نفسه. وقطعًا للشك، أمر الملك «بيبى الأول» الموظف «ونى» بأن يحقق فى الواقعة منفردًا ويرفع النتيجة إليه، ولم نعرف ما فعله الملك مع الملكة المتهمة.
رمسيس الثالث: أشهر حاكم في الأسرة العشرين والفرعون الثاني والحاكم الأخير من الدولة الحديثة في مصر (1183 – 1152 ق.م)، هذا الملك الذي أثار الجدل لدى المؤرخين بشأن موته، وبعد سنوات طويلة من البحث كشفت دراسة تحليلية جديدة أن الفرعون المصري مات مذبوحًا في مؤامرة من أجل عرش مصر من تدبير إحدى زوجاته وأحد أبنائه بمعاونة حريم القصر وبعض رجال الجيش.
رمسيس الثالث
الباحثون في دراستهم أشاروا إلى أن تصويرًا جديدًا بالأشعة المقطعية أظهر وجود قطع عميق وكبير تحت الضمادات التي تغطي حلقوم الملك المحنط ولا يمكن إزالتها حفاظًا على المومياء، فيما قال رئيس فريق الباحثين ألبرت زنك اختصاصي علم الأمراض القديمة في معهد المومياوات والرجل الجليدي في إيطاليا “أخيرا وبهذه الدراسة نحل لغزا مهما في تاريخ مصر القديمة.”
الخبير الأثري زاهي حواس علق على هذا الاكتشاف بأنه سيغير في تاريخ هذه الفترة وخاصة “لأن هناك بردية شهيرة باسم مؤامرة الحريم تشير إلى قيام الملكة “تيا” الزوجة الثانوية للملك رمسيس الثالث بتزعم مؤامرة ضد الملك لتنصيب ابنها بنتاؤر ملكا على مصر بدلا من الملك رمسيس الرابع الذي كان هو الأمير الوراثي لأبيه، بحسب وكالة أنباء الشرق الأوسط”.
وتشير الدراسات التاريخية إلى أن المؤامرة على رمسيس الثالث شارك فيها حريم القصر وبعض الموظفين ورجال الجيش، فيما كشفت بردية إلى اكتشاف المؤامرة ومحاكمة المتأمرين وقد حكم على شخص بالقتل وترك 10 أشخاص لقتل أنفسهم ومنهم الأمير بنتاؤر الذي قام بشنق نفسه وهناك أيضا 21 شخصاً تم شنقهم.
غنمت امون حتشبسوت: الملكة الخامسة ضمن تسلسل ملوك الأسرة الثامنة عشرة (1479–1458 ق.م)، حكمت مصر بعد وفاة زوجها الملك تحتمس الثاني كوصية على الملك الصغير تحتمس الثالث في البداية ثم كملكة و ابنة الإله آمون (إله الشمس والخصوبة عند المصريين القدماء).
حتشبسوت
العديد من الدراسات التاريخية تشير إلى أن حتشبسوت قتلت زوجها واخوها الملك تحتمس الثانى للأستيلاء على الحكم، فيما واجهت عقبات عدة مع الشعب كونها امرأة غير قادرة على الحكم، وهو ما دفعها لارتداء ملابس الرجال والظهور بمظهر القوية، في محاولة منها لإقناع شعبها بقدرتها على مباشرة أعمال الحكم.
توفيت الملكة في الرابع عشر من شهر يناير عام 1457 ق م بعد أن حكمت قرابة 22 عامًا، وتشير بعض الجداريات إلى أنها ربما تكون قتلت بسبب التنازع على الحكم ولكن مع وجود المومياء تبين أن موتها كان طبيعيًا.
كثير من المؤرخين لخصوا مؤامرات نساء القصر الفرعوني بأنها كانت دفاعًا عن الملك ونزاعًا على العرش وفقط، دون الحديث عن أبعاد أخرى ربما تقف خلف هذه الوقائع التي جاءت في وقت يئن فيه الشعب المصري من ظلم الحاكم وفساد بطانته التي أرهقت المجتمع المصري لعقود طويلة.
غير أن هناك أبعاد أخرى ربما تقف وراء تلك المؤامرات، على رأسها تأييد الشعب في إزاحة حكام بعينها من كرسي العرش، وفق ما ذهب متخصصون في التاريخ المصري القديم، ممن أشاروا إلى أن معظم الملوك الذين تعرضوا لمؤامرات من نسائهم كانو يتمتعون بقسط كبير من الفساد والإفساد.
هذا الفريق يرى ضرورة الربط بين التأمر على الملك ومكانته لدى شعبه، فالملك القوي الذي يتمتع بشعبية كبيرة من الصعب الإطاحة به أو قتله، وعلى العكس تمامًا، وهو ما يفسر وقوع ملوك بعينها أسيرة لتلك المؤامرات النسوية التي يدرجها البعض ضمن صور المعارضة السياسية لمصر الفرعونية وإن أخذت أبعادًا أخرى.