تشكلت سوريا بخريطتها السياسية الحاليّة، بعد تقسيم الدولة العثمانية في مرحلة ما بين الحربين، ضمن سلسلة من التوافقات الدولية، وتؤكد جميع المصادر التاريخية، أن سوريا التاريخية أكبر بكثير من سوريا الحاليّة، وقد شهدت قيام عدة حضارات، ومرت بها عدة جيوش وغزوات وشعوب في تاريخها الطويل.
يطرح نون بوست اليوم ملف “حكاية شرق الفرات“، ليحكي حكاية هذه المنطقة التي تحولت إلى نقطة ساخنة و ، التي سنحاول من خلالها معرفة ظروف التشكل التاريخي لسوريا وتطورها الديموغرافي والحضاري.
موقع إستراتيجي
كانت الجزيرة جزءًا من الخريطة التاريخية السورية في مختلف العصور، حيث يذكر بليني Pliny، أحد أشهر الجغرافيين اليونانيين (توفي 240 ميلاديًا) البلدان التي تقع ضمن سوريا، فيجعل ضمنها مناطق الجزيرة الفراتية (Mesopotamia)، وكذلك منطقة (Osrhoene) أي (حرّان والرها)، والجزيرة تطلق على الإقليم الواقع بين نهري دجلة والفرات، وقد ارتبط اسم الجزيرة بالعراق تارة والشام تارة أخرى، نتيجة لموقع الجزيرة الجغرافي والإستراتيجي المتوسط بينهما.
التبدلات الديموغرافية التاريخية
شكّلت مناطق الجزيرة المواطن المبكرة لإنسان العصور الحجرية بأدوارها الثلاث، وكانت الشعوب السامية أقدم الشعوب التي خلفت آثارًا حضرية تدل عليها في المنطقة منذ أقدم العصور.
خريطة الجزيرة الفراتية
الشعوب السامية
في المراحل المتأخرة من الألف الثالث قبل الميلاد، بدأت هجرة جماعات من سكان البوادي العربية إلى الشام وحوض الرافدين على هيئة موجات متتالية، دون أن تصادفها عوائق جغرافية أو حدود طبيعية، ولا تكاد تخلو بقعة من مناطق سوريا والجزيرة من أثر يدل على الحضارات التي توالت على هذه المنطقة.
بقيت الثقافات الساميّة الثقافة السائدة لجميع الشعوب التي استوطنت هذه المنطقة، أو تلك التي غزتها من خارجها، سواء من المناطق الجبلية في الشمال والشمال الشرقي أم تلك التي جاءت من وراء البحار
وقد استوطنتها بشكل مستمر الشعوب (القبائل) الساميّة، تحت مختلف المسميات: الأكاديين والكشيين والماريين والإبليين والأموريين والكنعانيين والآراميين ثم عرب معين وسبأ وحِميَر، وكذلك العرب الذين جاء ذكرهم في النصوص الآشورية، كعرب بادية الشام والشمال والأنباط والأيتوريين والثموديين والصفائيين واللحيانيين والحضريين والتدمريين ثم المناذرة والغساسنة، وبقيت الثقافات الساميّة الثقافة السائدة لجميع الشعوب التي استوطنت هذه المنطقة، أو تلك التي غزتها من خارجها، سواء من المناطق الجبلية في الشمال والشمال الشرقي أم تلك التي جاءت من وراء البحار.
الأصل المشترك للشعوب السامية
الأقوام التي اصطلح تسميتها جدلاً بـ”الساميّة” هي في رأي شبرنجر Sprenger “طبقات من العرب المتعاقبة ومصدرها الجزيرة العربية”، والأصل المشترك لهذه الأقوام يتضح من خلال الجذور المشتركة للغات سكان مناطق شبه الجزيرة والهلال الخصيب، إضافة إلى الصفات الاجتماعية والنفسية والسلوكية المشتركة والاتجاهات الرعوية والزراعية. وعائلة اللغات السامية هي مجموعة لغوية خاصة تضم اللغة الآشورية البابلية الآكدية والكنعانية والفينيقية والآرامية والعبرية والعربية والحبشية.
الأثر الآرامي في سوريا
شكل الآراميّون الجماعة الكبرى الثالثة من الهجرات المنطلقة من الجزيرة العربية، وقد أسسوا دويلات شهيرة في الشام وما بين النهرين، سقطت على يد الآشوريين سنة (720 ق. م) وأصبحت جزءًا من المملكة الآشورية التي اشتقت منهم تسمية سوريا، وبقيت تحت حكمهم حتى الاحتلال الفارسي سنة (539 ق. م).
وبقيت الآرامية لغة سكان سوريا منذ القرن الأول للميلاد حتى بعد مجيء الإسلام، ليس في سوريا فحسب، بل في عموم الشرق، إذ إنها كانت في عهد الآراميين لغة إدارة وتجارة عالمية، انتشرت لتشمل المناطق الممتدة بين بلاد الهند والحبشة.
العرب في سوريا قبل الإسلام
قبل ظهور الإسلام، شهدت سوريا نشوء دويلات عربية وسقوطها وأهمها: دولة أسسها العرب في شرق الفرات وعاصمتها الرها (132 ق.م) Edessa، ولقب ملوكها بالأباجرة (أبجر)، ودولة عربية مركزها حمص (Emesa)، ودولة ثالثة في سوريا البقاع، ودولة أسسها العرب الأنباط في البتراء، وأيضًا دولة تدمر في الشمال، وأخيرًا دولة الغساسنة، وقد قضت روما أخيرًا على الدولتين النبطية والتدمرية، وقضت كل من بيزنطة وفارس على دولة الغساسنة.
كذلك نلاحظ الأثر العربي في الجزيرة، من خلال أعلامها الجغرافية: (باعربايا وجزيرة ابن عمر وديار ربيعة وديار بكر وديار مضر)، وباعربايا هي مركز دولة الحضر التي أسسها العرب في سهل نينوى، وتمتد حتى نصيبين، وفي العهد المسيحي اعتنق كثير من العرب المسيحية، ومن آثار نصرانيتهم في الجزيرة الفراتية، الأديرة التي سُميت بأسمائهم، مثل دير يوحنا الطائي في نصيبين ودير حنظلة الطائي بالقرب من شاطئ الفرات.
إحدى بوابات مملكة الحضر
القبائل الرعوية الجبلية وتأثيرات ما وراء البحر
تعرضت منطقة الهلال الخصيب من جهة البحر لتأثيرات شعوب أخرى، كان مصدرها الغزوات الزاحفة من اليونان والرومان، ومن جهة البرّ كانت تأثيرات الشعوب الإيرانية الجبلية القادمة من فارس والهند، وظلت منطقة الجزيرة وعموم الشمال السوري، عرضةً لغزو القبائل الجبلية المجاورة، جبال زاغروس من الشرق وجبال أرمينيا وطوروس من الشمال، ولم يقتصر ذلك على الجزيرة، بل شمل بلاد الرافدين بأجمعها من الشرق والشمال.
الملاحظ أن جميع الأقوام الجبلية القادمة من وراء البحار التي غزت المنطقة، سواء المجهولة الأصل أم المعروفة الأرومة، كانت تذوب مع الوقت بثقافة السكان الأصليين
انقضى الحكم الكلداني (السامي) عام 538 ق. م على يد الفرس الأخمينيين الذين دام حكمهم زهاء قرنين من الزمان (539-331 ق. م)، وخضعت بعدهم سوريا لحكم عدة إمبراطوريات، من الإسكندر الكبير وخلفائه من السلوقيين (331-126 ق.م)، ثم العهد الفارسي الفرثي (126 ق. م – 226م) ثم الفرس السانيين (226-237م) الذين تنازعوا السيطرة العسكرية مع الرومان ودام حكمهم حتى بداية العهد العربي الإسلامي.
لكن الملاحظ أن جميع الأقوام الجبلية القادمة من وراء البحار التي غزت المنطقة، سواء المجهولة الأصل أم المعروفة الأرومة، كانت تذوب مع الوقت بثقافة السكان الأصليين، فتتبنى اللغة والحضارة والعقائد السامية القائمة، لذلك نجد أن أولئك الأقوام لم يخلفوا تراثًا لغويًا أو حضاريًا أو آثارًا دالة على هوياتهم الخاصة، ما عدا التراث اليوناني اللغوي.
التبدلات السكانية بعد الفتح وظهور الأتراك والأكراد
خلال القرون الأولى للإسلام، ظلت سوريا وكذلك المنطقة الشمالية والشرقية في الجزيرة حتى نواحي ديار بكر بغالبية سريانية وعربية، قبل أن ينتشر فيها العنصر التركي والكردي في القرون المتأخرة، لتتحول المنطقة ولمئات السنين اللاحقة إلى ساحة للصراع بين الإمارات المتنافسة، من عباسيين وفاطميين وبويهيين وسلاجقة وأتابكة ومغول وغز وأكراد ومماليك وعثمانيين.
القبائل الكردية، ابتداءً من القرن الثامن للميلاد تقريبًا، بدأت هجرتها خارج مناطقهم التقليدية في إقليم الجبال (إيران الحاليّة)، وانتشرت في أنحاء دولة الخلافة، وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة حياة القبائل الكردية، لارتباطها بالرعي من جهة، ولأسباب أخرى عسكرية وسياسية، شجعها على ذلك علاقتها الجديدة في محيطها، بعد أن أزال اعتناق الدين الجديد العديدَ من القيود التي ربما كانت تحول دون الانتقال بهذا القدر من الحرية، وشهد العصر العباسي بشكل خاص انتشارًا واسعًا للأكراد، حتى وصلوا إلى نواحي ديار بكر في الجزيرة، قاطعين لأول مرة نهر دجلة باتجاه الغرب، واستمر وصول الأكراد، على شكل غزوات غير مستقرة غالبًا على أرياف البلدات الجزرية، وبقيت الجبال مساكن الأكراد في المناطق التي تغلغلوا فيها في الجزيرة والموصل.
نجد ذلك التأكيد عند ابن جبير الأندلسي (توفي 614 هـ) الذي يذكر مساكن الأكراد في الجبال المنيعة القريبة من الموصل ودنيصر في زمانه، وكيف أنهم كانوا يشنون الغارات في تلك النواحي، حتى إنهم كانوا أحيانًا يصلون إلى أبواب نصيبين.
شهدت الحقبة السلجوقية والأيوبية، تشجيعًا للعناصر التركمانية والكردية على القدوم إلى المنطقة، ويرى أوبنهايم أنَّ الحقبة المغوليّة أيضًا شهدت مجيء أكبر عدد منهم، وذلك بعد اقتلاع قبائل التركمان الرعوية من بلاد فارس وآسيا الصغرى ودخولها تدريجيًا إلى الجزيرة والبلاد الشامية
أما أولى محاولات إحلال سكان أتراك، مكان السكان العرب في الجزيرة وشمال سوريا، فقد كانت حين غمر الغزنويون (الأرهاط التركية) المنطقة قادمين من أذربيجان سنة (433هـ-1044م)، لكن المحاولة فشلت، حين تلقوا هزيمة على يد بني عقيل (العقيليين) وصدوهم عن المنطقة، لكن بني مرداس السلالة العربية التي حكمت حلب ومنبج والرقة والرحبة (411-472 ه) كانوا أول من أنزل عناصر تركمانية في شمال حلب.
كذلك شهدت الحقبة السلجوقية والأيوبية، تشجيعًا للعناصر التركمانية والكردية على القدوم إلى المنطقة، ويرى الرحالة وعالم الآثار الألماني ماكس فون أوبنهايم في موسوعته الشهيرة “البدو”، أنَّ الحقبة المغوليّة أيضًا شهدت مجيء أكبر عدد منهم، وذلك بعد اقتلاع قبائل التركمان الرعوية من بلاد فارس وآسيا الصغرى ودخولها تدريجيًا إلى الجزيرة والبلاد الشامية، إلى أن امتلأت المنطقة بهم بحلول سنة 1600م.